بغداديات..سليمة مراد تغني وسط دربونة الدهانة
تكون الايام قد مرت وها نحنُ نحن اليها والى عطر ساعاتها وهي لاتغيب عنا.....
تأتي كلما جاء ذكر بغداد وماحواه من فصول بكتاب ايام وبيت في بغداد للراحل الاستاذ اسحاق بار موشيه , حين نستلهم فصلا اخرا من ذكرياته وشجونه وحنينه لتلك الايام قائلا :
في عام 1925 وبعد ستة ايام من مولد اخي الاكبر , غادر البلاد ابن عم والدي اسمه سامي . ويقول والدي ان لسامي هذا قصة عجيبة . فهو قد تعلم بهمة وبسرعة , الا انه عندما اصبح رجلا رفض ان يرتبط بأي عمل ثابت في مسقط رأسه , بغداد . رفض ان يشغل وظيفة ورفض ان يشتغل في التجارة أو في أي عمل أخر . كان شابا نشيطا , الا انه رفض الاشتغال بأي عمل دائم ظل غامضا حتى صرح بالاسباب ذات مرة . فقد كان يريد ترك العراق الى الابد , والهجرة الى الولايات المتحدة الامريكية .
كان يعمل في اشغال مؤقتة من اجل هدف واحد فقط وهو ان يجمع ثمن بطاقة السفر على باخرة , وأن يحصل على تأشيرة الدخول الى الولايات المتحدة , وليكن بعد ذلك مايكون .
وقد استطاع سامي هذا أن يجمع ثمن بطاقة سفر على سفينة بضائع لا مكان فيها للمسافر , الا اذا رغب في النوم والراحة على طريقة المتسولين . ثم ظهر له أن المبلغ الذي جمعه لايكفي حتى لذلك . وقد روى لي والدي فيما بعد , أنه توسل الى وكلاء السفينة في بغداد أن يساعدوه في السفر على ان يصبح خادما في السفينة أو مساعد ملاح أو ماشابه .
وتم له ذلك بعد جهد جهيد فغادر بغداد الى البصرة , واعتلى السفينة التي ابحرت الى نيويورك . هذا الرجل الحالم , الغريب الاطوار كان يكاتب والدي . وقد قص علينا والدي في اوقات متفاوتة شيئا عن اوقات الضيق التي لازمته في اول الامر , حيث اشتغل عامل مصعد , وخادما في احدى الفنادق
ثم جمع مبلغا من المال اشترى به صندوقا مفتوحا للبضائع كان يعلقه بشريط جلدي حول رقبته ويبيع فيه السكاير وعلب الكبريت وما اشبه . ثم اتطورت به الامور فأخذ يبيع جوارب السيدات وحاجيات اخرى , فيتنقل ببضاعته من شارع الى شارع ومن بيت الى بيت .
وقد نجح في تجارته البدائية ثم اصبح له كشك يبيع فيه نفس البضاعة ثم حانوت في شارع مغمور وظل يعمل بجد حتى امتلك محلا فاخرا في مكان جديد , ثم صدق او لاتصدق , أنشأ معملا لصنع الجوارب .
نيويورك 1925
وبعد اكثر من عشر سنوات اصبح سامي رجلا غنيا . وتزوج من سيدة اميركية يهودية , واتسعت اعماله , الا انه لم ينس اهله وعائلته في اوقات ضيقة او غناه .
وفي يوم من الايام قرر ان يصطحب زوجته الاميركية وان يأتي بها الى بغداد لكي يريها أين نشأ و من هم ابناء مجتمعه وأهله واصحابه . وكان مجيئه الى بغداد حدثا أسطوريا . فهو قد غادرها مفلسا يحمل في جيبه بطاقة سفر تفرض عليه أن يخدم في السفينة التي سافر عليها , وعاد اليها غنيا في طائرة مع عروس . وطبيعي أنه قضى أيامه الاولى لوصوله مع ابناء عائلته ثم أخذ يزور أقربائه واحدا واحدا .
وهكذا,تم الاتفاق على ان يزورنا أبن العم الاميركي في بيتنا في عقد النصارى. وطلب من والدي دعوة عدد كبير من الاصدقاء الذين لم يكن لديه وقت كاف لزيارتهم . وهكذا فقد وصل عمي سامي وعروسه كما وصلت مجموعة من اصدقائه وكلهم من طلائع النخبة المثقفة والنشيطة من يهود العراق . حتى ازدحم بيتنا بالاقارب والاصدقاء الاخرين .
أما ابن العم الاميركي فكان يحاجج ويناقش كل شئ بالعربية وباللهجة العراقية اليهودية . ثم يميل الى زوجته هامسا مفسرا لها كل شئ .
كانت زوجته أمرأة رائعة الجمال طويلة القامة لاتضاهيها في طولها الا أمرأة عمي سامي . وفي تلك الليلة وجدت أنني اعيش في عالم غريب ومذهل معا . لم يكن سامي الاخر , راغبا في التحدث عن حياته في امريكا بل كان يلح على كل واحد من الحاضرين بالسؤال عما حدث في غيابه في هذا الموضوع أو ذاك وعن هذا الشخص أو ذاك . كان شخصا متعطشا للانباء وللاحاديث . وقد أعاد على مسامعنا كل مايعرفه من الالفاظ الفولكلورية الاصيلة, وغنى جميع الاغاني اليهودية التي يعرفها أو يعرف مقاطع منها . ساحة البيت كانت ممتلئة بالطاولات المليئة بالاطعمة .
وأظن أن جميع أقاربنا وجميع نساء الحي كن يساعدن في المطبخ وفي ملئ الصحون التي تفرغ .
وقد عجبت كيف يعرف والدي عادات وميول كل شخص من المدعوين . فهذا يحب العرق -المستكي - وذلك يحب العرق الزحلاوي وهذا يميل الى الويسكي واخر الى البيرة . كانت الدقائق تمر بسرعة , وسامي الامريكي يجرب مقدرته في الغناء ويستذكر الانغام والتسابيح العبرية التي لم ينس الكثير منها . وفيما كانت الساعة تقترب من الثانية عشرة صدر الامر الينا نحن الصغار بانهاء اشتراكنا في الحفلة وبالصعود الى الطابق الثاني للنوم . أما سامي الامريكي فقد كان في ساعة تجل فهو قد عب من المشروب الكثير . وهو بعد لم ينته من اسئلته وأحاديثه ورغباته . الصقت رأسي بالحاجز الخشبي وأخذت اتطلع وأسمع وأنا شبه نائم :
-أشتهي الان شيئا لا اعلم أذا كنت سأحصل عليه
-أطلب وتمنى .
-نفسي أن اسمع سليمة.
-سليمة باشا ؟ لابد انها في بيتها الان بعد انتهاء عملها في الاذاعة.
-هل يمكن استدعاؤها ؟
فأخذ الرجال يتشاورون , أين هي سليمة وكيف يمكن استدعاؤها . أما اصدقاء عمي سامي فكانوا يعرفون كل شئ عنها . فهي تزور النوادي اليهودية وتغني فيها احيانا .
بعضهم يعرفها جيدا معرفة شخصية . وبسرعة تم الاتفاق على ان يذهب أحد هؤلاء الاصدقاء الى حيث يوجد هاتف , فيتصل بسليمة مراد ويطلب اليها المجئ , ثم ينتظرها في الشارع العام ويأتي معها سيرا الى بيتنا الذي لاتصله سيارة . وقد تم كل شئ بسرعة . أذ أن الصديق الذي ذهب لاستدعاء سليمة , لم يكن ممن ترفض له سليمة طلبا . وسليمة مراد كانت مغنية العراق الاولى . يهودية تطرب سكان العراق كلهم . وهي تؤدي كل غناء عراقي معروف , من الغناء البدوي والريفي والقروي واليهودي وحتى الغناء العصري . صوتها كان اكثر الاصوات ذيوعا و قوة . و في الحفلات الكبرى التي تقيمها الحكومة والبلاط , كانت سليمة النجمة التي لابد منها لاحياء كل امسية .
كنت اقاوم النوم بعنف وأنا استمع الى مناقشات الرجال والنساء , هل تأتي سليمة أم لا ؟
-انها لاتخيب ظن من تعرفه ويعرفها.
-ولكنها قد تتكبر فلا تأتي ...
-أبدا . لقد اعتزم الذي ذهب لدعوتها أن يقول لها أن هناك مهاجرا جاء من امريكا وبه الحنين الى بلاده ويرغب في سماعها .
-هذا ما سيأتي بها بسرعة .
-قد تكون تعبة بعد عمل المساء.
-ولكنها ستأتي
-أنها تنام خلال ساعات النهار ... نهارها ليل
- سنرى أذا كانت ستأتي .
ثم اقبلت سليمة... وأظن أنني استطعت أن ارى رؤؤسا كثيرة تطل من فوق أسطح بيوت الجيران , مغنية كبيرة تأتي الى بيت في عقد النصارى ليس مما يحدث كل يوم . ومن الذي لايرغب في الاستماع الى سليمة ؟ وقد استطعت كذلك رغم نعاسي الشديد أن ارى الرجال يقومون لمصافحتها وأن أرى علائم الغبطة و ربما الامتعاض على وجوه النساء , وهن يشاهدن انطلاقها وانفتاحها على عالم الرجال , وعدم امتناعها حتى عن تلقي قبل بعضهم الذين تعتهم السكر واستخف بهم الطرب .
وما ان انتهت سليمة من استقبال الرجال حتى ذهبت بنفسها الى النساء تشكرهن على الدعوة وتقول لهن أنها ستغني ملبية طلبات النساء قبل الرجال , وكان ذلك كافيا لاشعال الحماس , الذي كان يدب مع دبيب النوم الى جسمي الذي كان يتخدر بسرعة عندما كان مرافقاها عازف العود وعازف الكمان يضبطان الايقاع , وعندما بدأت هي في اولى اغنياتها خيم الصمت فوق البيت حتى أن همسة واحدة لم تسمع عندما أرتفع صوت سليمة وهي تغني لوما لهيب النار بضلوع اضمك , اتمنى وردة تصير كل ساعة اشمك .
وعندها أنهار جسدي فوق ارض الطارمة فأستيقظت وسحبت نفسي أسفا الى السرير، في صباح ذلك اليوم علمت أن سليمة ظلت تغني حتى مطلع الفجر , وأن سامي الامريكي قد نفحها مبلغا ضخما , وأنه ضحك وبكى من فرط السرور ساعات , وانه قبل يديها وقدميها وهو سكران يذوب لكل اغنية تغنيها فيطلب المزيد . وقد سافر سامي الامريكي في ساعات الصباح مع زوجته عائدا الى مهجره بعد أن أستوعب كل مايمكن لمهاجر أن يستوعبه في أيام قليلة مع ذكريات أصدقائه وأغانيه المحببة ويهود بلاده معا . وقد قص والدي علينا فيما بعد أن كل حقائبه كانت معدة , وأنه سافر في سيارة أجرة الى حيث كانت حقائبه فأخذها الى المطار وخرج من بيتنا ومازالت أغاني سليمة ترن في أذنيه.
959 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع