الملك غازي الروح العربية الوطنية الأصيلة
أظهرَ (غازي) خلال فترة وجوده في المدرسة العسكرية جرأة ونشاطا ملحوظين في الالعاب الرياضية والضبط العسكري فحاز بذلك ايضا على تقدير اساتذته واعجاب رفاقه.
لكن بالرغم من تأكيد (الملك فيصل) على ضرورة معاملة (غازي) كالاخرين، ومع ان ادارة المدرسة العسكرية مارست تلك المعاملة مع (غازي) على العموم، الا انه كان يحدث ان تسعى ادارة المدرسة ايحانا لاعطائه فرصا استثنائية تهدف من خلالها اذكاء الروح العسكرية لديه وتعويده على اساليب التصرف العسكري والادارة العسكرية، وذلك انطلاقا من نظرتها الى كونه كولي عهد، سوف لا تتاح له بعد تخرجه من المدرسة فرصة ممارسة تلك الامور. فاشركته مثلا مع الطلاب المتفوقين الذين كانت توكل اليهم مهمة الاشراف على طلاب المدرسة بعد ان يحصلوا على لقب مساعد الضابط الاقدم، كما هيأت له دروسا خصوصية في اللغة الانكليزية واللغة العربية والرياضيات بعد ان وجدته بحاجة الى تلك الدروس وعينت له لهذا الغرض المعلم (فاضل الجمالي) الذي كلف بالذهاب الى المدرسة العسكرية خمسة ايام في الاسبوع يقوم خلالها بتدريس الأمير من الساعة السادسة الى التاسعة مساء، وقد ظل (فاضل الجمالي) يؤدي تلك المهمة الى حين قبوله في البعثة الى امريكا في اواخر حزيران 1929. اعتادت (المدرسة العسكرية) ان تزود طلابها، بالاضافة الى المعلومات والتمارين العسكرية والالعاب الرياضية، بمواد نظرية وعملية تقوم على اساس دراستهم الرياضيات واللغتين العربية والانكليزية والجغرافية والتاريخ والادارة والرسم وفي المجال الاخير كان مستوى (غازي) بين الطلاب ضعيفا، فلم يهتم بتلك الدروس ووجه اهتمامه الى اعمال الميكانيك.
فلم يشبع ذلك اهتمام والده مثلما اشبعه تفوق غازي في الالعاب الرياضية والتمارين العسكرية، وخصوصا تمارين الفروسية. ولأجل رفع مستواه في تلك الدروس قرر الملك فيصل تعيين احد مرافقيه وهو الضابط (خالد الزهاوي) مرافقاً ومراقباً للأمير غازي في حزيران 1929 لتحري اسباب عدم اهتمامه بتلك الدروس، وقد رافق (خالد الزهاوي) الأمير غازي في سفرته الى شمال العراق خلال عطلة المدرسة في صيف 1929 ورفع الى والد الأمير تقريرا في 31 اب 1929 اكد فيه ضعفه بالدروس وعدم اهتمامه بالنواحي الثقافية، ولكن من ناحية اخرى بين التقرير بأن جرأة (غازي) وعزمه ونشاطه كلها صفات تدل على مقدرته وذكائه، وانه بحاجة فقط الى الخبرة التي سيكتسبها بمرور الزمن، وكان رأي صاحب التقرير ان ارسال (غازي) الى مدرسة جديدة في الوقت الحاضر لا يضمن الغرض المتوخى بل يسبب ضياع زمن اخر من التبدل والتنقل، فاوصى باستمرار وجوده في المدرسة العسكرية، واقترح تعيين معلمين خصوصيين لرفع مستواه العلمي فيجمع بين التهذيب العسكري والثقافة العلمية وعليه تلاشت فكرة ارسال (غازي) الى مدرسة (ساند هيرست) واكتفى (الملك فيصل) بان يحصل ابنه على رتبة ملازم ثان في الجيش العراقي، وتولى (ابراهيم الدباس- المعلم اللبناني) رفع مستواه في اللغة العربية واللغة الانكليزية والرياضيات وعرض على (الملك فيصل) انه سيبدأ مع (غازي) من الصفر في كل مادة بعد ان وجده يفتقر حتى تلك المرحلة الى ابسط المعلومات الاولية وبعد ان رسب في كل اختبار أجراه له، وكان (الملك فيصل يهتم برأي ابراهيم الدباس ويثق به فهو معلمه الخاص، اي معلم الملك فيصل، الذي تولى تدريسه اللغتين الانكليزية والفرنسية وبعد مضي شهرين على تدريسه (غازي) من قبل (ابراهيم الدباس)، بين (الدباس) للملك فيصل بأن سبب عدم تقدم الأمير في دروسه هو عدم اهتمامه بدروسه وإجاباته السريعة التي لا تنم عن تفكير لذلك تأتي اجاباته مغلوطة، واكد للملك ان ذلك لم يأت نتيجة لعدم قابليته العقلية وانما لعدم اهتمامه باجهاد نفسه، وبين (الدباس) بأن (غازي) لو اهتم بدروسه مقدار عشر اهتمامه بالالعاب الرياضية الميكانيكية لنال قسطا كبيرا من العلوم في وقت قصير، واقترح على الملك فيصل ان يعين للامير غازي معلما خاصا يعيش معه ويرافقه في اكثر اوقاته. ان ما يلفت النظر في تقرير (الدباس) تصويره الدقيق لسلوك (الأمير غازي) والذي يلقي ضوءا على سماته الشخصية في هذه المرحلة، فهو يصف غازي بأنه: "لطيف العشرة، حلو الحديث، لا يصعب عليه ان يسر جالسيه بانواع المحادثات والفكاهات، الا انه كثير ما بين لمحدثيه نظريات حكمية هو احوج الى تطبيقها والاستفادة منها، كأن يشير الى اهمية وجوب تحصيل العلوم واتمام الواجب وفي الوقت ذاته لا يدرس دروسه، كما ان له طرقا خاصة يحاول بها التملص من القيام بواجباته اليومية، وعليه لا اكون مخطئا اذا قلت ان سموه احيانا يقول ما لا يعنيه كما انه عند الاستيضاح منه يقول انه يقصد ما لم يصرح به. وانه يسهل عليه المخاطر في كثير من الاشياء غير مبال بما يعترضه من المصاعب.
وقد ظلت التقارير التي رفعت الى (الملك فيصل) بعد ذلك تشير الى عدم ارتفاع (غازي) الى المستوى المطلوب في تلك الدروس عازية الاسباب تارة الى عدم اهتمامه وتارة الى مشاغلته من قبل اصدقائه، في حين كان (غازي) يؤمن بفكرة انه ليس بحاجة الى دراسة مثل تلك الدروس، وطالما ستلبى اوامره ومطاليبه بدون جهد. لذلك نجده مرتاحا الى ما ناله (المدرسة العسكرية) في مجال الالعاب الرياضية واللياقة العسكرية ومهتما بـإظهار فروسيته ورشاقة وضعه العسكري اكثر من اي شي اخر، اما اوقات فراغه – التي كان مفروضا ان يستغلها، كولي عهد يتهيأ لان يكون ملكا في مطالعته تجارب الماضي والتطورات الجديدة والمتوقعة لنواحي الحياة المختلفة- فقد ملأها ولعه باعمال الميكانيك وقيادة السيارات والطائرات والسفرات الداخلية ومناسبات المرح مع الاصدقاء. ولهذا يمكن القول ان (غازي) تخرج في (المدرسة العكسرية) ضابطا خيالا يحمل صفات الفارس الجريء الذي يتحلى بلياقة جسدية وروحا رياضية وتعشقا للفنون العسكرية الا انه لم يكن يمتلك ايديولوجية فكرية او ثقافية تساعده على هضم العلاقات السياسية السائدة او تبني برنامج معين للاصلاح والتغيير، واذا تصورنا انه قدر لـ(غازي) ان يتولى عرش العراق بعد عام واحد من تخرجه في (المدرسة العسكرية) يمكننا ان ندرك انه اصبح ملكا وهو لم يستكمل جوانب مهمة من شخصيته. فترة المرافقة الرسمية لوالده (تموز/ 1932–حزيران/ 1933): تخرج (غازي) في (المدرسة العسكرية) في تموز 1932م ملازم ثان خيال وكان الاول في الفروسية فتسلم من ابيه الجائزة الاولى في طفر الموانع حيث اهداه ابوه "سرجا" واراد ان يبقيه بقربه فقرر تعيينه مرافقاً له، وكان يهدف من وراء ذلك تدريبه. "امرت ان ابين لفخامة رئيس الوزراء بان صاحب الجلالة المعظم لا يستحسن اعادة استخدام من فصل من خدمة الحكومة لسوء تصرفاته في الوظيفة، وبما ان كتاب الوزارة يتضمن اسماء الذي فصلوا من خدمة الدولة للسبب المتقدم فيرغب جلالته في اعادة النظر في القرار المذكور". لقد تصرف (غازي) اثناء ولاية عهده العملية الرسمية بموجب الصلاحيات الدستورية المقترنة بنصائح والده، الا انه وقف موقفا دستوريا صرفا مخالفا لرغبات والده خلال احداث الآثوريين، اذ كان موقف (غازي) مطابقا لموقف الوزارة العراقية في تلك المشكلة.
موقف الأمير غازي من أحداث الآثوريين
أعطت خلافات مسؤولي الحكومة مع الآثوريين عام 1933 نموذجاً لظاهرة استغلال السلطات البريطانية لحالات التصدع التي تنتاب الوحدة الوطنية وبرهنت على ان العراقيين كانوا يتطلعون الى تقرير شؤونهم ومواجهة مشكلاتهم بعيداً عن المشورة البريطانية وبأن لديهم من الاستعداد للوقوف في وجه المسؤولين الانكليز وكشف نواياهم الهادفة الى تفرقة صفوفهم. وكان الآثوريون يسكنون مناطق (زاخو) و(دهوك) و(عقره) و(العماديه) والمناطق الملاصقة لها، في حين كان قسم منهم يقطن الاراضي التركية في منطقة (حيكاري) وهم الذين اضطروا، بعد الحرب العالمية الاولى وتحديد حدود الدولة العراقية، الى النزوح والعيش مع ابناء جلدتهم في العراق مما أوجد مشكلة إسكان الوافدين الجدد. فعندما تولى (غازي) نيابة العرش كانت الحكومة العراقية في طريقها الى تنفيذ مشروع اسكانهم في شمال العراق، وقد استقدمت لهذا الغرض الخبير الانكليزي الميجر تومسن (THOMSON) الذي وصل العراق في مايس/ 1933.
في هذه الفترة صادف وجود وزارة ائتلافية في العراق برئاسة (رشيد عالي الكيلاني) يمثل حزب الاخاء الوطني– الذي اشتهر قبل دخوله الوزارة بمعارضته لمعاهدة 1930 – غالبيتها، في حين تؤلف القلة الباقية من الوزراء خط (الملك فيصل) الذي اشتهر بتأييده للمعاهدة المذكورة.فقد (حزب الاخاء الوطني) منذ تشكيل الوزارة في 20 اذار 1933 الكثير من شعبيته حيث اتهم بانه اصبح يماشي سياسية معاهدة 1930 التي تعني مماشاة السياسة الانكليزية. ولاجل ان يرد (حزب الاخاء الوطني) التهمة عنه كان مستعداً لتبني موقف يثبت فيه شخصيته واستقلاليته، وقد جاءت الفرصة حين تطور الخلاف مع الآثوريين خلال نيابة (غازي).
المصدر:المشرق
الكاتب:معن فيصل القيسي
992 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع