دور السينما في بغداد.. حكايات وذكريات

          

       دور السينما في بغداد.. حكايات وذكريات


       

كان زمنا رقيقا جميلا، قليل الهموم، الناس كانوا طيبين، بغداد كانت مدينة رائعة، قلبها النابض الباب الشرقي وحديقة الأمة،

            

شارع الرشيد بمحاله التجارية وواجهاته الأنيقة (اورزدي باك، حسو اخوان، ارشاك، مقهى البرازيلية، حافظ القاضي، عبد الرسول علي، جقماقجي، فندق تايكرس بالص، تجهيزات الخطيب الرياضية، مكتبة مكنزي، ابو يونان، مكتبة الحكيم، صادق محقق، صالح محسن، احذية زبلوق، بانيور، عمو ألياس.. الخ)، شارع السعدون ومكاتب الخطوط العالمية توحي للناظر انه في بلد حي يواكب تطور محيطه الإقليمي وربما يتفوق عليه، دور السينما المنتشرة ببغداد تعج بروادها حتى منتصف الليل.
ذكريات جميلة وعزيزة على النفوس التي سترى عجبا فيما بعد، أكثر من جيل تعلق بحقبة الخمسينيات وكامل عقد الستينيات وطرف من سبعينيات القرن الماضي، الذي يطلق عليه الكثيرون "الزمن الجميل" تحببا.

            

لدور السينما في بغداد حكايات وذكريات، تمركزت هذه الدور بشكل رئيس في قلب بغداد (الباب الشرقي) وليس بعيدا عنه في شارعي الرشيد والسعدون، وأخريات تناثرت في مناطق بعيدة عن المركز. حتى قيل إن عددها كان أكثر من 80 صالة عرض، نصفها كان صيفيا، تعرض مساء خلال أشهر الصيف الطويلة بفضاء مفتوح، انقرضت تدريجيا بعد دخول أجهزة التكييف الحديثة، التي حولت دور السينما الى مكان مبرد مريح.
حكاية كل دار كانت تتعلق بأمرين؛ جمالية صالة عرضها، أناقتها، صفوف الكراسي والمسافة المريحة بين صف وآخر، والأمر الثاني يتعلق بالأفلام التي كانت تعرضها، والتي أحدث البعض منها ما يشبه الضجة. الكثير قال إن صالة سينما الخيام (افتتحت في العام 1956) هي الأجمل والأرقى وقد سبقت عصرها ومثيلاتها في المنطقة، وجاءت بعدها صالات روكسي بتماثيلها الرائعة، النصر، غرناطة بعد التعمير والتحديث، سمير اميس. مؤشرات عديدة تدل على سيادة الذوق الرفيع في العمل والإنجاز، ولو استمر الحال لكان شأن العراق شأنا آخر غير الذي نرى ونعيش.
رجال كالذين أداروا دور غرناطة والخيام والنصر وسمير اميس وروكسي وغيرها، كانت لهم بلا شك دراية مهنية تامة بتفاصيل الفن السابع مخرجين وممثلين وشركات إنتاج وغيرها، حسن اختيارهم المتتابع كان مثار إعجاب الرواد، بالرغم من أن نتائج حرب حزيرن العام 1967 حرمت دور العرض من الأفلام الأميركية تحت يافطة (مقاطعة أميركا) ، ولكن بعض شركات الإنتاج الأوروبية اعتمدت تبني الفيلم الأميركي وادعاء إنتاجه، وهو ما منح الفرصة لمشاهدة بعض روائع السينما الأميركية.

                     


دور سينما بغداد

تركز أغلبها في الباب الشرقي، غرناطة وميامي والحمراء والرصافي وشهرزاد. الخيام في الشارع الذي سمي باسمها وخلفها روكسي وريكس، وفي شارع الرشيد الزوراء (الشعب)، والوطني، الرشيد وعلاء الدين.
في شارع السعدون سينما السندباد، النجوم، اطلس، سمير اميس، النصر وبابل. وفي منطقة العلاوي سينما قدري (بغداد)، وفي الشيخ معروف زبيدة، وسينما اليرموك في البياع، والبيضاء في بغداد الجديدة، مترو في محلة الفضل، والفردوس في شارع الكفاح، سينما ريجينت في الصالحية.
كان لعرض الفيلم طقوس خاصة، تستبدل الأفلام كل يوم اثنين عرض الساعة السابعة مساءً (عطلة صالونات الحلاقة الإجبارية وقتها). اختارت كل دار موسيقاها وأغانيها التي تذاع قبل العرض وفي الاستراحة، وكانت لأغاني فريد الأطرش، حظوة واضحة لاسيما (اول همسة وحكاية غرامي)، أو موسيقى أغاني ذلك الوقت كما في غرناطة وغيرها.
يبدأ العرض بعد أن يرن جرس السينما (وكانت لكل دار نغمة خاصة بها لم تتغير لسنين طوال)، بعد رنين الجرس بقليل تطفأ الأنوار، وأول ما يعرض ما كان متعارفا عليه (المقدمات) وهي تعريف بالأفلام التي ستعرض لاحقا، وقبل أن يعرض الفيلم الرئيس تكون استراحة لعشر دقائق، وكان في كل دار كافيتريا عامرة. قبل الفيلم الرئيس، تعرض (مقدمة) فيلم الأسبوع المقبل. وكانت الدور تجتهد من جلب أفلام قصيرة لدقائق عن أحداث عالمية.
أسعار بطاقات الدخول كانت 40 فلسا للمقاعد الأقرب للشاشة، 90 فلسا و110 فلوس، وفي أغلب الدور خصصت أماكن للعائلات تسمى (اللوج) 600 فلس لأربعة كراسي ــ وكان من الطبيعي تواجد النساء في صالات العرض.
وإذا لاقى الفيلم نجاحا ماليا، يمدد عرضه ولا يغير يوم الاثنين، وتوضع يافطة بيضاء يكتب باحرف حمراء (أسبوعا ثانيا وبنجاح ساحق)، وإذا تعدى النجاح على ذلك يكتب (أسبوعا ثالثا وبنجاح منقطع النظير). وشهدت العديد من دور السينما نجاحات لافتة فاقت الأسبوع العاشر)!!

        

  أما بطل الفيلم فله حكاية خاصة به، لاسيما في أفلام الكاو بوي، وكان يسمى (الولد) وله أهمية عظمى فهو محور الفيلم، وكان المتعارف يومها أن يكون أول من تظهر صورته في الفيلم، وسؤال المتأخرين عن بداية العرض الملح كان (عفية ياهو الولد؟؟).

                 


سينما غرناطة

"صالة الأفلام الجيدة" كما كان يطلق عليها القائمون بحق، افتتحت بحلتها الرائعة ومالك جديد، اختار لها اسم "غرناطة" بدلا من اسمها القديم "ريو"، افتتحت في العام 1962 بفيلم (مدافع نافارون) تمثيل (جريجوري بيك، انتوني كوين، ديفيد نيفن، ستانلي بيكر والممثلة اليونانية ايرين باباس). كان معظم روادها من المثقفين وطلبة الجامعات، وأسهمت بفعالية في تكوين ذوق سينمائي رفيع، للعناية الفائقة في اختيار الأفلام التي كانت تعرضها. امتنع القائمون على الدار من عرض أي فيلم مصري أو عربي أو هندي، ربما لشعورهم بعدم وصول الفيلم العربي والهندي الى مستوى الأفلام الأميركية والأوروبية، وترك الحكم للجمهور.

                       

الذي شذ فيلم السيدة فيروز (بياع الخواتم ــ 1965)، الذي عرض في أحد الأعياد وفشل فشلا ماديا مريعا.
تخصصت الدار بمواكبة إنتاج السينما الفرنسية، وكادت أن تتخصص فيها، حيث عرضت أفلاما لكبار نجوم هذه السينما جان جابان، ايف مونتان، كاترين دينوف، جين مورو، سيمون سينوريه، آني جيراردو، ميري دارك،

               

الان ديلون في عز شبابه وتألقه ونجوميته المفرطة، جان بول بلمدندو، وروبرت حسين وكان لوقع اسمه تأثير خاص عند الجمهور، كان يعتقد انه من أصول جزائرية وتبين بعد حين انه اذربيجابي الأب وأمه يهودية.
عرضت سينما غرناطة أفلاما عديدة للنجم الأميركي جارلس برونسون، الذي لاقت أفلامه إقبالا واسعا، وكان لفيلم (الممتازون السبعة) لبرونسون ومعه النجمان يول براينر وستيف ماكوين وقع كبير، ويعد اليوم من كلاسيكيات أفلام "الويسترن".

 

                                            

فيلم (الشمس الحمراء ــ 1971)، ترقب الجمهور عرضه بشغف، عندما اجتمع النجمان جارلس برونسون والان ديلون ومعهما الياباني توشيرو ميفون واورسولا اندروس.
وعرضت الفيلم الشهير (زوربا اليوناني) لأنتوني كوين. وشد فيلم "أطول يوم في التاريخ" اهتمام روادها، وهو فيلم حربي ضخم عن إنزال النورماندي الشهير اشترك فيه عمالقة السينما الأميركية (إنتاج 1962) كجون وين، روبرت ميتشوم، ريتشارد بيرتون.

                        

ومن أفلام غرناطة التي لا تنسى فيلم الممثلة البريطانية الرائعة اودري هيبورن (انتظر حتى الظلام ــ 1967)، (متاعب المهنة ــ1967) للممثل والمغني الفرنسي الراحل جاك بريل، (الموت حبا ــ 1971) للمخرج اندريه كايات وتمثيل اني جيراردو، فيلم المخرج الفرنسي كلود ليلوش (الحياة، الحب، الموت ــ 1969) الذي أبدع فيه الممثل المغربي حميدو بن مسعود، (الاغتيال ــ 1972) جان لوي ترينتيان، ميشيل بيكولي، (العبيد ـ ابن سبارتكوس ــ 1962) ستيف ريفز ودور هامشي للمثل المصري احمد رمزي.
وبالرغم من قائمة الروائع الطويلة، إلا أنه من الإنصاف تذكر فيلمين رائعين هما (الى أستاذي مع أطيب التحيات ــ 1967) سيدني بواتيه، (قتل طائر مغرد ــ1963) جيجوري بيك، عرضا بنجاح في سينما غرناطة.

                      


سينما الخيام

من أجمل دور السينما في العراق، تميزت بالفخامة والسعة، لوحتان عملاقتان على اليمين والشمال، من أجواء الشاعر عمر الخيام، وسقف مرتفع عندما تطفأ الأضواء إيذانا بعرض الفيلم، تبقى مصابيح صغيرة تضيئه لفترة حتى يبدو السقف كالسماء الزرقاء بنجومها المتلألئة.

                                                     


افتتحت الدار في العام 1956 بفيلم (هيلين بطلة طروادة ــ 1956) المأخوذ من الالياذة للشاعر الاغريقي هوميروس، ومن تمثيل روزانا بوديستا وجاك سيرناس.

                       

ومحطات هذه الدار الرائعة كثيرة، الفيلم الهندي الخالد (أم الهند) الذي عرض في العام 1959 وحضر أحد عروضه الزعيم عبد الكريم قاسم وأصرَّ (كما هو متوقع منه) على دفع التذكرة.

                                   

ونال فيلم (القرصان الأحمر ـ 1952) شعبية واسعة، وكان فيلما مخصصا للعيد، من تمثيل النجم بيرت لانكاستر ونيك كرافات الذي أطلق عليه الجمهور اسم "الأخرس"، وفيلم لانكاستر الآخر (الشعلة والسهم ــ 1950) مع فرجينيا مايو.

                        

وقد طغت فيما بعد شعبية بيرت لانكاستر وكان نجم الشباك كما يقال، وكان اسمه كفيلاً بنجاح أي فيلم يشارك فيه، وعرضت له أفلام عديدة منها (المحترفون ــ 1966) مع النجمة الايطالية كلوديا كاردينالي والأميركي الأشيب لي مارفن.
فيلم آخر كان له وقع خاص هو فيلم المخرج الكبير ستانلي كوبريك (سبارتكوس ــ 1960)، الذي ادى فيه دور البطولة كيرك دوغلاس، الى جانب جين سيمونس، لورانس اوليفيه، بيتر اوستينوف وتوني كيرتس. وهو من أفلام الملاحم التاريخية يروي قصة تحرير العبيد في روما القديمة على يد سبارتكوس.
أفلام عديدة علقت بالذاكرة بالرغم من مرور نحو نصف قرن عليها، مثل (55 يوما في بكين ــ 1963) شارلتون هيستون، افا كاردنر وديفيد نيفين، (القطار الأخيرــ 1959) عندما اجتمع كيرك دوغلاس وانتوني كوين في فيلم "ويسترن".

      

فيلم (هرقل الجبارــ 1958) لبطل العالم بكمال الاجسام للعام 1948 الراحل ستيف ريفز (1926 ــ 2000)، أفلام المخرج الفريد هيشكوك (النافذة الخلفية ـ 1954) جيمس ستيوارت وكريس كيلي (أميرة موناكو لاحقا)، (سايكو ــ 1960) انتوني بيركز وفيرا مايلز، (الطيور ــ 1963)، (مارني ــ 1964) شون كونري.
وأفلام الويسترن بنسختها الايطالية (وداعا يارينغو ــ 1965) للممثل الإيطالي الراحل جوليانو جيما، سلسة أفلام (رنكو) للممثل الإيطالي فرانكو نيرو، الفيلم المشهور بموسيقاه (من أجل حفنة من الدولارات ــ 1965) للممثل والمخرج الأميركي كلينت إيستوود، وافلام بود سبنسر وترانس هيل، فيلم ايليا كازان الرائع (نظارة العشب ـ 1961) ناتالي وود ووارن بيتي، افلام الكوميدي البريطاني الراحل نورمان ويزدوم (1915 ــ 2010).

                  

سينما النصر

دار سينما أنيقة ورحبة تستوعب نحو 1200 مشاهد ...

          

على مسرحها غنى عبد الحليم حافظ، صباح ووديع الصافي، نزهت يونس وهيام يونس، هدى سلطان (ياضاربين الودع)، المنولوجست المصري أحمد غانم، الفنانة لبلبة.
افتتحت في العام 1960 بفيلم (ثورة الدم ــ 1959) واسمه الأصلي (لم نكن بهذه القلة) تمثيل فرانك سيناترا، جينا لوو بريجيا وستيف ماكوين. عرضت أفلاما متنوعة ولم تختص، عرضت الفيلم الأميركي والمصري والهندي.

          

من الأفلام التي أحدثت وقتها ضجة كبيرة هو الفيلم الهندي (سنكام ـ 1964) من تمثيل الثلاثي راج كابور، راجندرا كومار وفيجانتي مالا. لاقى (سنكام) نجاحا منقطع النظير، وبقي لأسابيع طويلة في سينما النصر، ولم تمل وتكل الناس من تكرار رؤيته، يقال إن أشخاصا شاهدوه لعشرات المرات، وعرض بعد ذلك في سينما (روكسي) مسجلا ذات النجاح وأكثر. وقامت مكاتب الباب الشرقي بطباعة كلمات أغانيه العديدة، وثمة من استطاع حفظ جميع أغانيه، دون أن يفقه من الهندية كلمة واحدة.

                 

الفيلم الآخر الذي استمر عرضه لأسابيع طويلة هو الفيلم اللبناني (مرحباً أيها الحب ــ 1962) تمثيل نجاح سلام، سامية جمال، عبد السلام النابلسي، يوسف فخر الدين، حسن المليجي وجاكلين، من إخراج اللبناني محمد سلمان. وحضر الى بغداد البعض من ممثلي الفيلم ومنهم جاكلين التي استقبلها الجهمور بحماسة زائدة ففقدت الوعي ونقلت الى المستشفى وهي في حال يرثى لها. وشاعت يومها أغنية نجاح سلام من الفيلم تقول (جوز عيني جوز) يجيبها الكوميدي حسن المليجي (فررري)، وأصبح الأمر ما يشبه التقليعة عندما يصرخ أحدهم (جوز عيني جوز) فيجيبه من يعرفه او حتى لا يعرفه (فرري).

                      

فيلم (ابي فوق الشجرة ــ 1969) عبد الحليم حافظ، نادية لطفي، ميرفت أمين وعماد حمدي، أخرجه الراحل حسين كمال، وعن قصة للأديب إحسان عبد القدوس، وعد يومها من أهم الأفلام الاستعراضية، وسجل رقما غير مسبوق بالإيرادات أينما عرض، وقد استمر عرضه في سينما النصر أسابيع طويلة لتتلقفه سينمات الدرجة الثانية ولبث فيها سنينا طوال. غنى عبد الحليم فيه خمس أغنيات وقال أكثر من ناقد إن أغنية (جانا الهوى) هي أول فيديو كليب عربي ظهر على الوجود.

                   


حظ الأفلام المصرية في سينما النصر كان كبيرا، إذ عرضت (صغيرة على الحب ــ 1966) لسعاد حسني ورشدي أباضة، (خلي بالك من زوزو ــ 1972) لسعاد حسني ايضا مع حسين فهمي، فيلم يوسف شاهين الشهير (الأرض ــ 1970) محمود المليجي، (الخطايا ــ 1962) عبد الحليم حافظ ونادية لطفي، (العصفور ــ 1972) ليوسف شاهين، (النظارة السوداء ــ 1963) نادية لطفي واحمد مظهر، ( شيء من الخوف) شادية ومحمود مرسي، ثلاثية نجيب محفوظ التي عبث بها المخرج حسن الإمام.

                                                      

   ومن الأفلام الأميركية (رجل الطيور سجين الكاتراز ــ 1962) بيرت لانكاستر، فيلم المخرج الايطالي دي سيكا المميز (امرأتان ــ 1960) صوفيا لورين وجان بول بلمندو، (الأميركي القبيح ــ 1963) مارلون براندو، ( قصة الحي الغربي ــ 1961) ناتالي وود، جورج شايكرز وريتشارد بيمر فاز بـ 10 جوائز أوسكار من بينها أحسن فيلم.

                   

سينما النصر عرضت ليوم واحد فيلم (دكتور زيفاكو ــ 1965) قصة بوريس باسترناك وتمثيل عمر الشريف، جولي كريستي وجيرالدين شابلن. وقد اعترض المركز الثقافي السوفيتي في بغداد بشدة على عرضه، لأنه يسيء (حسب رأيهم) لثورة اكتوبر ومنجزاتها.

المصدر:صحيفة الحياة

الكاتب: عدنان شيرخان

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1106 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع