حميد سعيد يكتب عن الشعر : الإبداع .. هل هو الخيال أم ذاكرة الجسد؟
توقفت كثيرا، عند عبارة كتبها الشاعر الكبير حميد سعيد في مقدمته القصيرة لكتابه الجديد الصادر حديثا المعنّون ( عن الشعر ) هي " لاحياة لي من دون ان اكتب وما اكتب "
وقد صدق شاعرنا المجيد ، فأنني على مدى عقود معرفتي به ، لم اجد لديه الذ من الكتابة ، بل هي مبكاه ، وسروره ، واظن إنها متعته الاشهى ، ولعلها الفعل الوحيد الذي عشقه .. وهذا القول على مسؤوليتي الخاصة ، بأن التخيل هو جزء من كتاباته ، لان الكتابة بكل صنوفها في رأيي ، هي اصلا قائمة على لعبة اللغة والخيال ، ولا يستطيع المرء ، ان يصنع شيئا بدون " التخيل " .... والخيال يفترض العقل والناس.. وتلك احدى ميزات حميد سعيد..
كتاب حميد سعيد ( عن الشعر) هو بعض ما كتبه في قضايا الشعر في الصحف خلال مكوثه في عمان ، لاسيما عموده الثقافي الذي واصل كتابته طويلاً في الزميلة " الرأي " الاردنية ، وما كتبه في حالات محدودة في صحف اخرى .وانني اجد ان من حقه ان ينظر ويكتب عن الشعر ، فخمسون عاما ونيف من مزاولة كتابة والشعروالتأيف والمقالة ، جديرة بأن تضع بصماتها في محيطنا الثقافي .. والاستاذ حميد سعيد كما أراه ، يعيش الى جانب الكلمات بمختلف مساراتها ، فهو يستنفر المعاني المحجوبة ويزيح حدود معانيها. ويقتحم تدريجيا أراضيها المجهولة. فالمعني عنده ، لم يعد يحدث دفعة واحدة، بل صار يحدث بجرعات أو هو بالأحرى مؤجل دائما وباستمرار. أي ما سينقل الكتابة من وضع المعني الى وضع الدلالة .
شكل من الإيحاء..
وكتاباته في الشعر وعنه ، مثل جراح ، حاذق امام حالة مرضية ، يعرف خفاياها ، فهو يمتلك ثقافة شعرية ، وادبية ، مكنته من أن يقف على أرض صلبة في ميدان الشعر وارهاصاته.
ولاشك ان الكتابة في حياة حميد سعيد هي شكل من الإيحاء، وجنس من التكثيف.. وقراءاته مُسايرةٌ لهذه الكتابة، والتناص مع نصِّها ؛ بملء الفراغ وقراءة الغائب ، وتمثل ماوراء ظلال دلالة الكلمات: من خلال النص الماثِل الذي هو شبكةٌ من الثيمات المركبة التي يحلُّ حاضِرُها على غائبها، وراهِنُها على غابرها . فليس النصُّ، في النهاية، إلا شبكةَ العلاقاتِ القائمة على تبادلِ السماتِ الابداعية .
في مقدمة كتابه ذكر، أنه خطر له أواخر سنة ٢٠١٢ وأوائل ٢٠١٣ مراجعة كل ما له علاقة بالشعر، وكان أيام ذاك في حالة انقطاع عن كتابة الشعر، كما هو الحال كلما انتهى من كتابة مجموعة شعرية جديدة وأعدها للنشر، ويذكر أن هذا الانقطاع كان بعد أن الانتهاء من كتابة مجموعته الشعرية (من أوراق الموريسكي) التي صدرت في عمان مع إطلالة سنة ٢٠١٣ . .. وبين في مقدمته أنه راجع الأوراق التي أشار إليها واختار منها كل ما له علاقة بالشعر وما كتب للصحافة عن الشعر وقضاياه وخطر له ، أن يعيد كتابتها وأن يجعل منها مشروعاً لكتابه ، وبصدقه المعروف ، يقول في المقدمة أن ما كتبه في الفقرات جميعاً يشكل وجهة نظره في جوانب من الشعر وكثير من قضاياه ، ويضيف أن جميع ما كتبه أفقه واسع مفتوح على الاعتراف والاعتراض والأسئلة.
في كتابه نقرأ : من النادر أن تحاور شاعراً ممن يكتبون الشعر بالنيات، وأحياناً ممن يمتلكون مقومات الكتابة الشعرية، من دون أن يتناول الحوار قضية النقد بن منطلقات تباين في زوايا نظرها إلى النص ونقده، غير أنها تلتقي في نقطة إحساس الشاعر بالحاجة لمن ينقد قصيدته، حتى أن مجرد نقدها يمنحها جدارة الإبداع، وهنا يحضر سؤال طالما تكرر هل يفيد الشاعر من النقد، أم أن النقد مجرد وسيلة للفت انتباه المتلقي إلى وجود القصيدة المنقودة وجدارة شاعرها؛ وهذا السؤال يقود إلى سؤال آخر، هل يصدر اختيار الناقد للنص المنقود عن موقف موضوعي، لها دخل لما هو ذاتي؟
أو يتحدث في مكان آخر عن التراث الشعري العربي فيقول في الحياة العربية قبل الإسلام كانت الملامح العربية الأساسية لصورة الشاعر العربي تظهره بمظهر الحكيم والمثقف، وصوت الجماعة، القبيلة أو العصبية أو القرابة، ويعطي الشعر قائله منزلة تضعه بين وجهاء قومه وأهل الرأي فيهم.
غير أن هذه الصورة العامة لم تكن بلا استثناء، وإذا كان زهير ابن أبي سلمى هو الأقرب إلى هذه الصورة ومعه على سبيل المثال لا الحصر: لبيد والحارث بن حلزة وقيس بن الخطيم فإن صورة الشاعر المتمرد الجامح لم تكن غائبة عن عالم الشعر والشعراء، وذلك الملك الضليل وطرفة بن العبد، وعمرو بن كلثوم وسحيم، والشعراء الصعاليك.
ثقافة سطحية وساذجة
أما بدايات عصر النهضة فقد كان فيه الشعراء رواد التجديد على مختلف الصعد، غير أن إطلالات العربية على الثقافة الغربية في الغرب وبخاصة في القرنين الماضيين في أوساط كانت ثقافتها سطحية وساذجة، فقد خلقت ارتباكاً في صورة الشاعر حين اشتغلت ثقافة الإشاعة الخاضعة للانبهار والتبسيط على ترويج صورة كاريكتيرية للشاعر في هيئته وتصرفاته وحياته الاجتماعية وجعلته باستمرار بعيداً عن أي فعل إيجابي والتزام أخلاقي أو عملي، لذا كان التركيز على ما هو اجتماعي لدى بودلير ورامبو وفيرلين وآرتو، وضعف التركيز على ما هو إبداعي لديهم، حتى ظن البعض أن الإبداع توأم الفوضى وعدم الالتزام والتشرد، واستمعت يوماً إلى أستاذي د. علي الزبيدي يتحدث قائلاً: في مرحلة دراستي بفرنسا في الخمسينيات، زار باريس شاعر عربي ورافقته إلى حيث يذهب إعجاباً به، وكنا يوماً على مقربة من مقهى فقلت له: هنا يجلس جان بول سارتر، فأحب أن يراه ، وحين اقتربنا من مدخل المقهى، حاول الشاعر أن يعبث بقيافته، ليظهر بالمظهر الذي شاع عن صورة الشاعر.
وفي قراءة ماوراء سطور حميد سعيد ، نستشف إن الرؤيا الشعرية لديه صلبة وعميقة ونافذة، وهذه الرؤيا لم تكن تحمل القوة والانسياب حلماً فردياً منعزلاً عن الواقع القومي والإنساني الحضاري، وهي رؤية أسهمت في عودة الجذب إلى الفعل الشعري. وحققت شعريته معادلة صعبة هي القوة والانسياب .
ويرى الشاعر أن الحديث يستمر عن المصدر الأساسي للإبداع، وبخاصة على صعيد الكتابة ، هل هو الخيال أم ذاكرة الجسد؟ فيجيب : يختلف القائلون في هذا الشأن، بين من يفرد الخيال كمؤثر وحيد وبين من يذهب إلى القول إن تجاوز الذاكرة ضرب من الوهم، ويبالغ بعضهم في هذا الاتجاه، إلى أن يعد ما هو متخيل ليس سوى خيانة ثقافية، ويدعي بعض الكتاب أن تجربته في الكتابة نتاج الخيال الخالص، ويظل مثل هذا الحوار وما ينتج من خلاف بين رؤيتين أقرب إلى عناد الجهلاء وفقراء الخبرة وفاقدي وعي التجربة؛ فالكتابة بعامة مفهوماتها الخاصة، وخصوصاً في النص الشعري ، فليس الواقعية هي الواقع البارد ولا الذاكر هي ما تحتفظ به الوثيقة أو ما ينتج عن آلة التصوير، لأن ذاكرة الكتابة الإبداعية ترى الأشياء، حين تستعيدها على الورقة البيضاء، على غير ما كانت عليه وليست كما هي في الواقع، وكذلك هو متخيل الإبداع الذي يمنع من الواقع ويتعايش مع الذاكرة وينفتح عليها، فيغتني بها وتكون أكثر نشاطاً وحيوية وفعلاً بانفتاح متخيّل الإبداع على ذاكرة المبدع.
ويضيف : لو حاولنا قراءة اللغة التي عبّر من خلالها المبدعون الحقيقيون عن أفكارهم، لوجدناها تختلف عن تلك التي كانت لمن سبقهم غير أن خصوصية المبدع على صعيد اللغة ، لا تشكل بالحفر في المعاجم وتعمد الاختلاف، وإنما من خلال توحيد اللغة بالمعنى وبإغناء ملكة اللغة. وهذا الإغناء يتشكل في تمثلين متداخلين، تمثل النصوص التي قرأ من دون قطيعة مع اللغة اليومية في جميع مستوياتها ومضامنها الجغرافية والاجتماعية، وتمثل قدرات التعبير. ويبدو لي أن في مثل هذا المختبر تكون خصوصية الإبداع ولغة المبدع وفرادتها.
لعبة اللفظ والمعنى
والقارئ النبه ، يلحظ أن اللفظ والمعنى رغم اهميتهما في السيرورة الشعرية ، ليسا غايتين او كل شيء في شعره بل عدَّهما وسيلتين في تجسيد فكرته ، وأن هناك أمورًا اخرى ، أقرب إلى روحه ، .. حيث يرى ان قيمة الشعر من خلال الدلالة المعنوية ، وتلك احدى ميزات الشاعر الكبير.. فشعره يبلغ صميم الوجدان، ويهدف إلى إيقاظ النفس على جوهرها ، وإيقاظ الإنسان على إنسانيته، وقصيدته يندرج فيها شيء من جوهر الحلم وسلطة الموسيقى والرعش الصوفي ..بل فيها من شفافية روحه ونقائها .. فأنا حين اقرأ قصيدة ، كتبها حميد سعيد ، دون ان يضع عليها أسمه ، ادركها حالا .. انه يكتب بمدرسته وحده ، ولانه شاعر حقيقي ، فأنه يستطيع أن يشعرنا بمدرسته وبقوة الخلق ودهشة الابتكار الفني ، وفي حال كهذه يتلاشى عنده موضوع القصيدة أمام عظمة بنائها وفرادة تعابيرها، ويصبح الشعور بالمتعة والوله هو الطاغي على كل شعور آخر... ان عطاءه الشعري والثقافي ، تربة خصبة تعيد إنبات البذور، التي تزرع فيها ، والثمر كما هو معروف يُحدَّد بنوع بذوره وبالمناخات التي تحيط بعملية الإنبات..
في الصفحة 23 يقول ( ليس النقد أحكاماً ينطق بها الناقد، أو سلَّم درجات وظيفية، وما يناله المبدع من هذه الدرجات تصدر بقرارات عليا، كما توزع درجات الوظائف بين العاملين في المؤسسات الرسمية)
وبهذه السطور ندرك إن التعبير هو وحده القادر على تحويل ظلام المعنى إلى نور لا يضاهى وفرح لا يحد، فحين نقرأ رثاء ابن الرومي لابنه الأوسط، أو رثاء غارسيا لوركا لصديقه مصارع الثيران، أو قصيدة السياب (غريب الخليج)، ينتابنا بلا شك شعور بالحزن والتعاطف. لكن الأهم ما ينتابنا على نحو أعمق هو الفرح المتولد من فرح الإبداع، أو ما يسميه رولان بارت لذة النص، فهذه اللذة المعرفية ، قمة اللذائذ وأكثرها نفاذاً إلى الأعماق .. وهذا هو حميد سعيد في شعره ، وفي كتاباته وفي سلوكه .
واقول على مسؤوليتي ، ان الانسان حميد سعيد ، مارس رياضة تطهير النفس من الأحقاد والتخلص من التعصب والانغلاق منذ طفولته ، وممارستها تحتاج إلى جهد نفسي خلاق وعمل دؤوب متواصل، وهي رياضة ، فشل في ممارستها ، مع الاسف ، المئات من الشعراء والمثقفين ، فأستحق بذلك ان يكون في مقدمة من ترتاح اليهم النفوس ، وان يكون مثلاً في حب عمل الخير ، والسعي الى ممارسة السماحة في كافة اوجهها، وهو يؤمن بأن التنوع في الآراء يقرّبنا من الحلول الصائبة، والتفرد في اتخاذ القرارات يجعلها أكثر عرضة للخطأ، ويرى أن الاختلاف في العلاقات ضروري لأنه يغني حياتنا، ويفتح عوالمنا على نوافذ الآخر، فنغتني به ويغتني بنا، من خلال تقريب وجهات النظر، وخطابه الثقافي ، لم يكن إلا وطنياً إنسانياً، يقوم على أساس احترام التعدد والتنوع والمغايرة ، والتفاعل الخلاق بين مكوناتها. رغم ان البعض من ضعاف النفوس ، وقصيري النظر ، لم يكن يدركوا دور حميد سعيد في العديد من مظاهر حياتنا الثقافية والوطنية ، حيث كانت الشائعة هي السائدة ، ومعرفة الحقيقة مغيبة !
ويشير حميد سعيد الى أن الشعر مرّ بمراحل تاريخية أو منعطفات خطيرة دائماً يصاحبها تيار فكري يجعل الشعر أو الشاعر أمام سؤال وجودي حول مصير الشعر وآنتهاء دوره أو زواله ومن هذه المنعطفات ظهور الإسلام والمواجهة فالرسول العربي قال : لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين، وآنتصر الشعر وقام بدوره سواء مع النظام الثوري الجديد- الإسلام أو اكتشافه مضامين مغايرة تختلف أو تتواءم مع المرحلة مثلما فعل الشاعر أبو نواس أو عمر بن أبي ربيعة أو المتنبي والمعري وكان افلاطون قبل ذلك أراد أن ينفي الشاعر من جمهوريته لكن أرسطو رأى أن الشعر أسمى من التاريخ يتصل بالمطلق،وفي العصر الحديث ظهرت مواجهة بين العلم وبين الشعر فأراد البعض أن يستعين بالمختبر أو الدوارق وأنابيب الإختبار في مواجهة رؤيا الشاعر وأحلامه وكلماته المغرقة في الرومانسية لكن الشعر يبقى حياً في الصف أمام ركام الآلات. حتى أن بعض النقاد رأى للشعر مستقبلاً هائلاً، وبما أن ثورة المعلومات والتكنولوجيا بدأت تغزو عالمنا وأصبح قرية صغيرة كما يُقال ألاّ أن ظاهرة الشعر لم تمت وكّـتاب الشعر والشعراء يزدادون كماً ونوعاً وهذا دليل على ان الشعر ما زال حياً ، ومن دراسة منجزات مبدعين مثل المتنبي وشكسبير ودستويفسكي وبيكاسو نكتشف أن المبدع الإستثنائي هو الذي يوجه مسارات النقد أو يوفر للناقد الشروط التي يكتشفها في بناء العمل الفني والمنجز الإبداعي وليس العكس.
خصوصية في الرؤى
كتاب حميد سعيد ، احتوى على اثني عشر موضوعا ، وكل موضوع ، تتفرع عنه عشرات الدراسات ، تستحق ان يقف عندها الشعراء والكتاب لما فيها من دلالات ومدلولات ، فالصورة الشعرية تعد من بين أهم الظواهر التي تناولها النقد العربي الحديث، ويظهر هذا الاهتمام من خلال العدد الكبير من الكتب والمقالات والرسائل والأطاريح الجامعية، التي تتناول الصورة الشعرية في شعر شاعر أو شعر عصر من العصور الأدبية أو عند حركة من الحركات الأدبية، أو من خلال الموازنة بين شاعرين أو أكثر، أو بين عصرين ، وظهرت إلى جانب هذه الدراسات التي تتناول الصورة في الشعر، دراسات تحاول تقويم جهود النقاد القدامى والمحدثين ... لكن كتاب الشاعر الكبير حميد سعيد ، له خصوصية ، لأنه كُتب من قبل شاعر مبدع ، صادق .. وقد سعدت كثيرا بقراءته كثيرا .
حياه الله .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
1657 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع