تولستوي في بورتريه لإيليا ريبين، موسكو، 2019 (Getty)
العربي الجديد:لنتخيّل تجربة الاستماع إلى رواية "الحرب والسلم" أو متابعة شخصياتها يومياً على منصات رقمية مخصصة لها. هذا هو الواقع الجديد لكتابات ليف تولستوي، التي تجد اليوم جمهورها في الثقافة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما يضيف بُعداً جديداً لأعمال الروائي الروسي الذي وُلد في مثل هذا اليوم، التاسع من سبتمبر/ أيلول عام 1828، ويحتفل بذكرى ميلاده السابعة والتسعين بعد المئة.
ضمن هذا السياق، تناولت صحيفة الغارديان البريطانية، في مايو/ أيار الماضي، جدل تقديم نسخ جديدة للأدب الكلاسيكي، من خلال نسخة طريفة من رواية "الحرب والسلم"، صدرت في أستراليا بترجمة محلية تُعرف بلهجة "بوغان"، وهي لهجة مرتبطة بالطبقات الشعبية وأسلوب السخرية والازدراء في المخيال الأسترالي. أطلق هذه الترجمة أندر لويس، وهو شاب يعمل محلّلاً للنظم المعلوماتية، بهدف إعادة تقديم النص الكلاسيكي إلى قارئ معاصر معتاد على الإيقاع السريع للمحتوى الرقمي، مستخدماً كلمات عامية وأمثلة محلية.
بدأ المشروع 2019 دون هدف ربحي، لكنه اكتسب شهرة كبيرة بعد منشور على موقع Bluesky، ما أدى إلى ارتفاع مبيعات النسخ الإلكترونية من الكتاب الذي تحوّل إلى "تريند". كذلك تنتشر على منصات البودكاست الناطقة بالإنكليزية حلقات تلخّص أعمال تولستوي في ساعة أو أقل، لتسهيل الوصول إلى نصوصه الكلاسيكية. ومن بين هذه المنصات تطالعنا واحدة بعنوان Footnotes and Tangents (هوامش وتأمّلات)، إذ يواصل مؤسسها سايمون هايسيل دعوة القراء من جميع أنحاء العالم للانضمام إلى مشروع القراءة البطيئة لرواية "الحرب والسلم"، حيث تتم قراءة فصل واحد يومياً. هذا العام هو الثالث والأخير للمشروع الذي بدأ عام 2023 على "إنستغرام" وانتقل لاحقاً إلى موقع إلكتروني خاص يوفّر موارد إضافية مثل مقالات أسبوعية مع تسجيلات صوتية وملخصات عن شخصيات الرواية.
تغطي المبادرة كل تفاصيل القراءة، من اختيار الترجمة الأنسب للقرّاء، إلى متابعة تفاصيل وتطورات أكثر من 500 شخصية من الرواية، وكذلك تحديد طول الفصول، ما يجعلها مناسبة للقراءة اليومية القصيرة أو الاستماع عبر الكتب الصوتية. وتشمل الاشتراكات المدفوعة للوصول إلى الملخصات وحلقات بودكاست، ومساحات افتراضية للنقاش، ودعم للقراء ذوي الدخل المحدود. يقدم المشروع تجربة قراءة جماعية تجمع بين التعلم والتفاعل الاجتماعي عبر منصة Substack.
ما يحدث مع تولستوي اليوم يعكس تحوّل النموذج الإنساني للمثقف إلى "صناعة محتوى" قابلة للتداول الرقمي، حيث تتحول القراءة الكلاسيكية إلى تجربة جماعية. فالكاتب الروسي، الذي يمثل صورة المثقف التقليدي بـ"معارفه العميقة"، يُعاد تقديمه الآن في "كبسولات" تهدف إلى التفاعل السريع، متماهياً مع مفاهيم الإنسان الرقمي و"المؤثّر" الذي يسعى لجذب جمهور واسع عبر "تبسيط العلوم".
يتعدّى الأمر ذلك إلى تحويل القرّاء إلى "مجتمع" (Community) يتشارك أفراده "لغة خاصة"، بما يشبه طقوس هواة ألعاب الفيديو أو متابعي المانغا (وهذا توصيف لا حكم قيمة)، ما يعكس ظهور وحدات اجتماعية رقمية جديدة ترتبط بممارسة ثقافية جماعية. النموذج الترجميّ الأول لأندر لويس لا يقدم نفسه مترجماً أدبياً أو أكاديمياً، بل منشئ محتوى، حيث تتحوّل الترجمة إلى "تجربة ذاتية" لا تخلو أحياناً من الشعبوية، تماماً كما حدث في سياق عربي حين أُعيدت ترجمات بعض الأعمال الكلاسيكية إلى اللهجات العامية العربية وأثارت ردود فعل معظمها استهجن الفكرة.
هنا تبرز المفارقة العربية، ففيما تتحوّل أعمال تولستوي (أو أي كاتب كلاسيكي آخر) في الغرب إلى محتوى، لا تزال الترجمات العربية لأعماله تصدر بوتيرة وشكل أقرب للقوالب الورقية الكلاسيكية. صحيح هناك ترجمات قديمة لرواياته الكبرى، لكن محاولات إدخال الأدب الكلاسيكي إلى قنوات جديدة مثل الكتب الصوتية أو المختصرات الموجّهة للشباب لا تزال ضعيفة الأثر. هكذا يصبح القارئ العربي أمام مشهد مزدوج: بينما يتلقّى العالم من حولنا الكلاسيكيات "جديدة"، تصل إلينا وكأنها أخبار متأخّرة من قرن مضى.
759 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع