مصاطب الرمل .. خمس سنوات في ليبيا وداعا يابنغازي !

 مصاطب الرمل .. خمس سنوات في ليبيا - وداعا يابنغازي !

محمد سهيل احمد

تمهيد ختامي

ليبيا التي لم اكن احلم يوما بأن اقيم على ارضها الشاسعة .كانت بالنسبة لي فيلما من افلام هوليوود او الافلام الهندية .غير ان ظروف حصار التسعينيات في عراقنا الجريح وفقداني لعملي كمدرس في الكويت ومتطلبات الاسرة اضطرتني لركوب اعتى الامواج واغادر البصرة الى ليبيا ومن ثم لاعود بعد سنة قضيتها في ضواحي مدينة سرت الساحلية .وبعد ان فسخت عقدي وعدت الى العراق ، جوبهت بالمتاعب المالية والاجتماعية نفسها فكان لابد من الجنون وهكذا اقدمت على خطوة جنونية فقد بعت بيتي بأبخس الاثمان واصطحبت اسرتي معي ليس الى سرت بل هذه المرة الى مدينة بنغازي التي تتميز بمواصفات قريبة الى مدينتي البصرة فاهل بنغازي ــ شانهم شأن بقية المدن الليبية ــ ذوو اصول وطبائع بدوية . وعلى الرغم من كون اصولهم ترجع الى اخلاط شتى من عربية الى بربرية الى امازيغية ، الا ان طبيعة حياتهم تغلب عليها سمات اقوام ( الغيتو ) أي ان هم اختاروا العزلة وفترات طويلة من الزمن ، ما ترك اثاره على امزجتهم ، فقد بقي ترحيبهم بالوافد يشوبه الحذر لكنهم كرماء بحكم فطرتهم البدوية . لكن بنغازي تتميز بكونها المدينة الاكثر شعبية بحكم جوارها لمصر وكذلك من واقع مصاهرة ابنائها لأهل مصر . وستكون بنغازي آخر المدن الليبية التي ستلوح لي بعد خمس من السنوات بتلويحة الوداع ! وها انا اختتم هذا الكتاب الذي استقبله عميد موقع الكاردينا الزاهر الاستاذ جلال جرمكا وعمد الى نشره .. له مني جزيل الشكر والامتنان ..

الفصل السادس
الى سرت بالطائرة

بدلا من تلك الغرفة المغبرة المقابلة لساحة العلم ، آثرت الاقامة في غرفة التلقين لكونها ملاذا متنحيا من اركان المدرسة . اما في المساء فقد اعتاد المديرالرائع الدينالي ان يقضي سهرة بريئة مع اثنين اوثلاثة من موظفي تربية منطقة السلاوي التي تقع مدرسة صقر الوحدة ضمن مناطق ادارتها . وكان معاون المدرسة يوسف الورفلي العجوز الطيب القلب يلحف علي ان التحق بالمجموعة التي كانت تحرص على اعداد العشاء بأيديها داعية اياي الى المشاركة معهم فأنال وجبة شهية من طبق ( الشرمولة ) المؤلف من شرائح التونا والطماطم والليم ( الليمون ) والبصل إضافة للهريسة بطبيعة الحال مع خبز الجمر الساخن او الخبز الليبي القاسي القوام مما قربني الى حد كبير من عادة تناول الفلفل اذ لا يخلو طبق ليبي من الفلفل الذي يبعث في المعدة شعورا لا بأس به من الامتلاء بعد ان اكون قد ختمت تلك الوجبة بالميراندا او الكولا . لكنني وعلى الصعيد الشخصي كنت مغرما بالدلاّع او البطيخ الاحمر ( الرقي ) الذي كانت الثمرة الواحدة منه تعرض بسعر لا يتجاوز ربع الدينار . والدلاع الليبي المرقط مشهور بجودة طعمه ونعومة ملمسه ما جعله مستحقا للقب ( مطفئ النار ) عن جدارة .
استطعت وبنجاح تجنب الالتقاء بسالم وعلاء لاسيما في اوقات الليل مفضلا صحبة سلحفاة صغيرة كانت تتنطط وسط حشائش الحديقة المعزولة عن مدخل المدرسة بجدار واق من الزجاج الشفاف السميك .
لقد ادركت عن يقين ان العام الدراسي القادم سيكون الاخير لي في ليبيا
لقد بدأت تحضيراتي لرحلة العودة في وقت مبكر بعد طول تردد واصرار من المدير الجديد على عدم تقديم هذه الاستقالة ، فرضخت لبعض الوقت لتعيدني رسالة من البيت في البصرة الى قراري النهائي بالرحيل . وكنت سأستقيل فورا اثر وصول تلك الرسالة من زوجتي تصف فيها معاناتها في سكنها مرة في بيت شقيقتها ومرة في هذا البيت المستأجر او ذاك . غير ان اصدقاء المقهى اشاروا علي بالتريث لهذا العام بعد الطلب الذي قدمته مجموعة من المدرسين العراقيين باحتساب مكافآت نهاية الخدمة . وقد انتدبنا لهذه المهمة احد المدرسين وهو من اهالي القرنة بمتابعة الموضوع فأجرى رحلات مكوكية تطلبت منه السفر الى مجمع الوزارات بسرت ومراجعة دوائر العاصمة والعودة الى محكمة بنغازي ودائرة تعليمها ذات الطوابق السبعة المنهكة للقوى . وهكذا اضطررنا للتذرع بالصبر عسى ان تنجح مساعي مندوبنا النشط . غير انني ولكي استكمل اجراءات تعديل درجتي الوظيفة وجدت مضطرا للسفر الى سرت لغرض جلب متعلقات عملي السابق في وادي جارف . وهذه المرة قررت السفر بالطائرة بدلا من رحلة الستمائة كيلومترا البرية المهلكة . وفي مطار بنغازي جلست في قاعة الانتظار الختامية وعيناي تبحثان عن طائرتنا الموعودة . وبعد ساعة قادتنا حافلة طويلة الى طائرتنا تلك التي فوجئت بأنها من اغرب الطائرات التي وقعت عليها أبصاري فقد كانت بحجم البعوضة ثم اننا دخلناها من جهة دبرها في الجزء الخلفي من بدنها ! لم نكن نتجاوز ألاثني عشر راكبا في طائرة عتيقة من طراز (فوكر) التي يعود عهدها الى الحرب العالمية الثانية . ولقد حلقت الطائرة بنا في سماء المدينة حتى خيل الي انني شاهدت مبنى المدرسة التي اعمل فيها وسقائف سوق ( المصرية ) في منطقة السلاوي وعموم مزارع الزيتون بتربتها الحائرة بين اللونين الأحمر والأخضر . وحين انصرفت لحزام الأمان ، عثرت عليه بعد لأي سوى انه انفلت بأكمله من عروة المقعد الى راحة يدي لألقيه بلا اسف على المقعد المجاور . ولم تكن الرحلة الى مطار القرضابية بمدينة سرت تتجاوز نصف الساعة . وكان الممر محتشدا بالذباب . وحين بحثت عن التواليت في الجزء الخلفي اسرعت المضيفة بحركة شبه احتضان في الإشارة الى القسم الأقرب الى قمرة القيادة . كانت الساعة الرابعة عصرا والشمس لم تزل تلقي بأشعتها على عتمة الممرات ، ثم قدمت لنا وجبة هزيلة كان قوامها قطعة كيك شبه متحجرة مع كوب شاي بلاستيكي . وكان الشاي باردا وجو الطائرة متكدسا بالحرارة حتي خيل الي انني انتمي للزمن الذي توغلت فيه قوات رومل ثعلب الصحراء باتجاه العلمين بل خيل الي انني لمحت رومل يمتطي جملا من جمال مدينة طبرق ، تلك الكمأة المغرقة في رمال الصحراء الليبية الشاسعة . ولدى اقترابنا من مطار سرت بعشر دقائق لمحت احد المضيفين يقف جنبا الى جنب مع القبطان ، في اغلب الظن ، حيث انهمك الاثنان في
ادخال مجموعة من المواد الغذائية ؛ علب معجون وزيت قلي وأكياس سكر في علبة كارتونية متوسطة الحجم تاركين الطائرة تحلق على رسلها او هكذا خيل اليّ . ثم جاءت لحظة الهبوط المرعبة لألمح من زجاج نافذتي اطارها الايمن مفتوحا وجاهزا للهبوط . اجل هبط طائرنا ( الرخ ) بنا على ممر طويل لمحت خلاله اطارا منبعجا يئن من ثقل بدن الفوكنر التي كانت تهبط في تسارع الى مطار سرت الذي يبدو انه كان في الأصل معدا لاغراض عسكرية بحتة .
والحمد لله على سلامة الوصول !
في اواخر مايس انهمكت بتقديم دروس خصوصية لعدد من ابناء وبنات المحلة .و كان هدفي من ذلك التدريس امتصاص وقتي وضمان نوم هانئ بعد ارهاق نهاري شديد وكسب مبلغ استعين به على نفقاتي الشخصية التي كانت خفيفة ومقننة لاسيما بعد رحيل الاسرة . المؤلم ان نصف من قمت بتدريسهم نكثوا اتفاقات التدريس فأنكروا علي ما طالبتهم به من مبالغ وآخرون اعطوني مبالغ اقل وغيرهم هددوني بعرض الموضوع على لجان التربية والتعليم في كونني أمارس عملا غير مشروع ، غير ان ما توفر في يدي من مبلغ كان كافيا لتغطية نفقاتي بل وإرسال مبلغ للاسرة يستعينون به على صعوبات العيش في مدينة لم يعد لديهم فيها منزلا يقيمون فيه . ناهيك عن حملة السلب والنهب التي ابدعت بها فئة من الاقرباء ممن امنتهم على مكتبتي واثاثي المتشرذم هنا وهناك ، اذ تصرفوا بتلك المقتنيات التي بذلت العرق ونزفت الدم من اجل توفيرها على اساس انها مقتنياتهم وان اية محاولة مني لاستعادتها ستعد نوعا من الإنتهاك المحرم في شرع الله وشرعتهم الباطلة !
بعد اربع من السنوات الحبلى بالثمار والنكبات أمسيت اكثر معرفة بهذه البلاد التي خلف الطليان بصماتهم في نسيجها الرخو ولطخت المافيات القادمة من بلاد الجوار جدران ذاكرة المدينة التي فقدت مع الغرباء براءتها . والتي كانت تنكر كل قادم وغريب وتضع امامه العقبات والسدود ، فقد روى لي صديقي زميلي المصري مدرس العلوم محمد زكي انه حين قدم الى بنغازي ، سكن احد فنادقها ، ولكي يستمع الى اخبار البلد اخرج مذياعا يعمل بالبطارية وسحب الهوائي الخاص به بحثا عن محطات اكثر صفاء ، فوجئ ليلتها بزوار الفجر يقتادونه الى مركز المدينة ليحققوا في امر ذلك الجهاز ( التجسسي ) الخطير قبل ان يسقط في ايديهم ويقومون باطلاق سراحه .
الى وداع قريب يا بنغازي الكركديه والفصولياء بالتن ( التونة ) وعبق دخان الارجيلات المطعم بالتفاح وجحافل شباب المدينة وهم يغازلون الفتيات بعبارات مستهجنة ، وباعة ارصفة اقواس الفندك وهم يعرضون كل ما هو رخيص وذو صلة بطقوس السحر ، بنغازي المستلقية في استرخاء بين شواطئ مهجورة وبين حافة البحر المتوسط الذي لم يتوقف يوما عن التلاطم ليرتد من اجل التهيؤ لهجمة جديدة .
بنغازي عمر المختار والطرابيش القانية الحمرة ذات الطراز العثماني .
ومطاعم الفلافل الرخيصة ، بنغازي سوق سقط المتاع وبنغازي ضفاف
فندق تبيستي الذي كان العلامة الفارهة الفارقة الوحيدة ربما في المدينة .
بنغازي السأم والكساد .. بنغازي النائية ..
متى الرحيل عنك ؟ !

الفصل السابع
في قلعة محمد علي باشا !

في العام الدراسي الماضي كلفنا بالمراقبة في احدى مدارس بنغازي اضافة الى المشاركة بتصحيح دفاتر الطلبة . وقد جرت العمليتان بشكل طبيعي بل اننا كوفئنا فيما بعد عن تينك المهمتين . اما في الدور الثاني فقد جرى تكليفنا بالمراقبة في احدى مدارس حي السلام المجاور .غير ان تلك المهمة انتهت بكارثة ما بعدها كارثة تمثلت بتحطيم الصورة المثالية التي كونتها عن طلبة المدينة . فقد اكتشفت ان ثلثي الطلبة الممتحنين يعشقون شيئا اسمه الغش .ليسوا هم فقط بل أسهم في المهمة اولياء الأمور ممن تكأكأوا على مبنى المدرسة مستخدمين شتى الوسائل في سبيل ايصال الاجابات للطلبة الممتحنين . وهكذا شاهدت أشكالا من قصبات الصيد المنتهية بسنارات لم اشهدها من قبل على الاطلاق . وحتى المدرسات عملن على تسهيل مهمة الغش مثلما اسهم حرس المدرسة من شرطة حماية في عملية الغش الذي اتخذ نمطين اولهما الغش الغبي وثانيهما الغش الاقل غباء اذ سربت اوراق امتحانية تعود لسنين دراسية سابقة وجرى الاجابة عنها ثم أعيدت الى القاعات الامتحانية ليكتشف الممتحنون امر الطعم الذي ابتلعوه بسبب ضعف مستوياتهم لاسيما في مادة اللغة الانكليزية التي تعلموها على نحو متعثر وعلى ايدي مدرسين غير كفوئين فعدد من الاوراق الامتحانية المتسربة كانت تنتمي لسنوات دراسية سابقة ! وكان اكثر من عانى من تفاقم ظاهرة الغش تلك ؛ المدرسون العراقيون ممن عرفوا بالصرامة والحزم ما جعل طلبة بنغازي وسواها ينفرون من اسلوبهم (الحديدي ) ولكن في صمت وبعيدا عن الاصوات الوطنية التي ترفض مثل هذه الاساليب التي تعمل على محق البنية الاساسية لمجتمع بأكمله وتعمل على تخريج دفعات فاشلة في شتى مجالات الحياة الليبية .
الخدعة
و في احد ايام مايس من عامي الاخير وصلنا كتاب من ادارة تعليم المدينة بوجوب حضور دورة نقاشية تثقيفية في احدى قاعات بنغازي الكبرى . ٍ
وقد امتثلنا للأمر الصادر وقمنا بحضور تلك الدورة .ثمة امر لم نكتشفه الا في وقت متأخر وهو ان مدة الدورة كانت تستغرق عشرة ايام او يزيد وجاءت متزامنة مع موعد الامتحان الوزاري النهائي . لقد كان معظم الحاضرين عراقيين عدا بعض الاخوة من مصر وتونس والسودان جرت دعوتهم من اجل التمويه في اغلب الظن ! لقد جرى اعتقالنا بأكثر الاساليب تهذيبا في ما يشبه اعتقال المماليك في مجزرة المماليك الشهيرة في عهد محمد علي باشا الكبير والي مصر وقتذاك . وهكذا علمنا اننا وقعنا نحن العراقيين ضحية مؤامرة ( وطنية ) من اجل ابعاد العنصر العراقي عن أجواء الامتحانات كيما يخلو الجو للمدرسات الأبلات وطواقم العمل الليبية
والشرطة واقرباء الممتحنين من اجل انجاز عملية الغش من دون أي احتجاج او تنغيص !
وما هي ايام حتى ظهرت نتائج الدور الأول واذا بنسب النجاح تتراوح بين مائة بالمائة والتسعين بالمائة كأدنى تقدير ! وقد لمحت نظرات البهجة في ( صقر الوحدة ) ممزوجة بالتشفي في عيون طلبة فاشلين من أمثال مفتاح الفيتوري وعمر العبيدي وخالد سلمان احميدة ممن لم تكن درجاتهم تتعدى عشرة او عشرين بالمائة ، وها هم يجتازون البكالوريا بنجاح منقطع النظير ليصبحوا من قادة البلد في مستقبل الايام !
من على سريري المعد من احد ابواب صفوف المدرسة وفي غرفة التلقين الملاصقة لمسرح المدرسة المجاورة للجبانة حيث ترقد اجداث موتى بنغازي الذين بادت عظامهم ؛ استغرق في تأملات بلا ضفاف ، انا مدرس اللغة الانكليزية الوحيد في المدرسة استذكر الوجوه والوقائع التي مرت بالمدرسة مثل وجه مدرس التربية البدنية الاستاذ خليل والذي كان ينتصر لأبني الكبير اذا ما تعرض لتحرش من احد الطلبة المشاغبين ، وخربشات ممرات الصفوف الساخرة المتهكمة على عملية ضرب فتيان كانوا على حافات الرجولة يؤتى بهم الى أي ركن من اركان المدرسة لترفع ارجلهم الموثقة بالحبال لتبدأ عملية ( الفلقة ) من ايد بلا رحمة والفتيان يصرخون
مثلما تفعل نسوة عنابر الولادة في مستشفى الجماهيرية بمركز المدينة اذ يملأن الدنيا بالصراخ اثناء فترات الطلق . ولهذا كان بعض تلك الخربشات
تقول : هنا جناح الولادة ، هنا قسم الخدج ! مثلما اذكر قهقهات سالم الغرباوي وهويدلف للمدرسة في منصف الليل عائدا من سهرة يتعاطى خلالها الحشيشة وخمرة ( البوخة ) المحلية ، مثلما اذكر وجه حسين الكربلائي القادم من اقصى مدن الجنوب الليبي ليقيم معنا في غرفة تضم ثمانية من المدرسين المغتربين واللائذين بحمى السيد المدير ، اذكر من بينهم مدرس الكيمياء وابن مدينة الديوانية الراحل جواد كاظم برهان ( ابو سلام ) خال الصحفي والكاتب الراحل قاسم علوان الراقد في فراشي وهو يقرأ مجموعتي القصصية الوحيدة ( العين والشباك ) ليكتب عنها ورقة نقدية في بلد لم يصل بعد الى عتبات العلم بعيد كل البعد عن الثقافة الحقيقة الا فيما ندر . بلد منغلق على نفسه لقرون حتى استحال الى اكبر غيتو في افريقيا . وفي ليل الرقاد اشم رائحة بعر الاغنام في المدن الصحراوية الكئيبة المجدبة الا من اشجار مختزلة : اجدابيا ، بن جواد ، البريقة ، مثلما
تصطك اسناني بالرمل المندس في ثنايا تمور ( جادو ) و( جالو ) الكائنتين في اول الصحراء . يتناهي اليّ صوت زميلنا المحب مدرس الاحياء الاستاذ الليبي يوسف الكوافي وهو يردد الاشعار ويؤدي على سبيل التفكه طقوس رقصات العلم . وتمر في الرأس المرهق قوافل الجمال ( البل ) بمعنى (الإبل) بينا تلوح السنة نيران مدينتي راس لانوف والبريقة النفطيتين . وينتفخ رأسي وأصاب بدوار الترحال الطويل الأمد حيث نجتاز مئات الكيلومترات كيما نصل لمبتغانا ، أصاب بالرعب كلما عرج سائق البيجو على احدى المحطات للتزود بالوقود دون ان يتوقف عن تدخين سيجارته يشاركه في ذلك بعض من ركاب السيارة .ثم تتسرب الى خياشيمي رائحة الكتب العتيقة في مكتبة بنغازي المركزية ورائحة شواء بيت الابلة نفيسة على سطح بيتهم الذي قمت باستئجارطابقه السفلي المعتم . وتقدم لذهني المتعب المنسرح مع الاخيلة روائح المطاعم المصرية في وسط المدينة وصوت مذياع يعلق على مباراة بين المقاولين وشباب السويس مندفع من احدى كافتيريات ( الفندك ) لأكتشف ان ذلك التعليق المتدفق باللهجة المصرية كان مصدره شحاذ مصريا مهاجرا فقد ساقيه يفترش احد أرصفة سوق الأقواس في قلب المدينة . وحين يهل الصباح القي تحية الصباح على ساكني المدرسة واولهم مدرس اللغة العربية جعفر علوان اقدم مدرسي المدرسة ايضا وصاحب الاسرة الكبيرة بعد ان فقد بيته في صفقة زين له فكرة شرائها احد (القفّاصين ـ المحتالين) الليبيين ما قاده الى السكن في المدرسة مضطرا تاركا اسرته في بيت رث مؤقت لحين انجلاء غبار المحنة التي تعرض لها .
لم تكن عودتي الى بلدي سهلة فقد تعين علي انجاز عدد هائل من اجراءات تبرئة الذمة اضافة الى انهماكي بالتدريس الخصوصي مجانا او لقاء مبالغ متفق عليها تمنح او لا تمنح لي في نهايات المطاف . ثم اخيرا جاءت بشرى موافقة محكمة بنغازي على احتساب مكافأة نهاية الخدمة لمن يرغب في المغادرة ، مما اضاف ما يعادل ألفا وستمائة من الدولارات على مجموع مرتباتي .

انصت لوقت خطاي على ارصفة افريقيا وانا اجوب المدن ملتحفا بالغبار تارة وبسياط الشمس تارة اخرى وبرائحة البحر في مرات .
كنت استيقظ على الدوام في صباحات الغربة وأنا بين المصدق وغير المصدق انني احرقت مراكبي وقدمت الى هذه البلاد التي يعاني اهلها شتى
اشكال الاستغلال ، عابرا شوارع وازقة وحارات مكللة بتلال عطنة من القمامة دالفا لبيوت من كنت ادرسهم أولادا وبنات لأستروح غرف استقبال باذخة وقنفات لدنة فارهة قبل ان اعود لمكان مبيتي كيما اغفوعلى وسادة من قتاد !
كان يوم الوداع مشهودا ففي الليل اعطيت الاستاذ جعفر عدتي طستا و حصيرة ملونة وموقدا صغيرا للطهو مثلما اعطيت حسين الكربلائي
صحونا وملاعق ووسادتي التي ارقدت عليها احلامي وحنيني للبيت وملأتها بدلا من الحرير عوسجا وتوجسات .
في اول الصباح ، وفي يوم جمعة من ايام ايلول اقفلت زنجيل حقيبة سفري وغادرت مبنى المدرسة في هدوء ودونما وداع الى اقرب سيارة اجرة مضت بي الى مطار بنغازي لأجد نفسي بعد ساعتين من الطيران في مطار عمان الدولي وانا اردد هامسا :
وداعا بنغازي ..وداعا ليبيا !ِ

 للراغبين الأطلاع على الفصلين السابقين:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/66444-2025-01-29-09-49-52.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1215 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع