مصاطب الرمل .. خمس سنوات في ليبيا -الفصل السابع و الثامن

مصاطب الرمل .. خمس سنوات في ليبيا -الفصل السابع و الثامن

كتب : محمد سهيل احمد

الفصل السابع- استعدادات ما قبل العودة

فيما كانت الأيام تنقضي والعام الدراسي على وشك الانتهاء ، كنت ما أزال الهث وراء استكمال إجراءات الإقامة كي أتسلم راتبي وكان ذلك اللهاث موزعا بين مجمع سرت حيث الأمانة العامة للتربية والتعليم وإدارة تعليم سرت وتوابعها إضافة الى ادارة تعليم جارف التي تقع بالقرب من مدخل الوادي بيني وبين الشاطئ طريق طرابلس الدولي ورمال خليج التحدي ! ولسروري دخلت مصادفة الى تعليم الوادي لأجد مكتبة صغيرة كانت رفوفها تضم ما يقارب الخمسمائة كتاب تراوحت عناوينها بين الكتب السياسية والأدبية وطبعات مختلفة من الكتاب الأخضر وروايات مصرية لكل من العقاد ونجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبد الله اضافة الى كتاب مصور أنيق الطباعة يتضمن فصولا من حياة العقيد القذافي اذكر من بينها صورا تمثله وهو في في بواكير حياته السياسية ومشاركته في بعض المظاهرات ذات الطابع المؤيد لجمال عبد الناصر ، اذكر من بينها صورة لاحدى التظاهرات في مدينة سبها كبرى مدن الجنوب الليبي جعلتني ابتسم ابتسامة عريضة في سرّي لأنها تمثله مشاركا في احدى تلك التظاهرات حيث ثمة سهم يشير الى القذافي من جهة الظهر أي ان وجهه لم يظهر في الصورة كما ان هيئته الصورة لم تشِ بهيئته العامة ولو بقليل !

هكذا إذن انصرمت الأيام رتيبة ثقيلة الوطء موزعة بين الجلوس عصرا على تلك الرابية مطلا على مزارع الزيتون وحظائر الابل وتلبية بعض الدعوات من مسؤولين في الوادي ومنهم ابن عم مدير المدرسة الذي أعطيت ابنته محاضرة في اللغة الانكليزية استغرقت ثلاث ساعات على مرحلتين وكانت مكافأتي وليمة قدمت فيها أطعمة ليبية طيبة المذاق عسيرة الهضم في آن معا !وكانت تلك مكافأتي الوحيدة لان الناس في الوادي لم يعتادوا أسلوب التدريس الخصوصي لقاء مبلغ متفق عليه . وما أثار استغرابي ان مدير مدرستنا قدم لنا والده الطاعن في السن فقام ذلك الشيخ ، بدلا من مصافحتي بتقبيل يدي ما أشعرني بإحراج كبير !

وذات يوم اتجهنا للصلاة في بمنطقة (المرحال) ، كما اذكر ، ولما انتهينا من الصلاة وأردنا مغادرة المسجد فوجئنا بالبوابة مقفلة علينا فاستغربنا لذلك التصرف الغريب الذي ذكرني بمحمد على باشا الكبير وهو يدعو المماليك الى وليمة بقلعته الشهيرة ثم اقفل عليهم بوابات القلعة ثم تولى التخلص منهم قتلا في واحدة من المجازر الشهيرة في التاريخ المصري ، غير ان روعنا هدأ لما علمنا بأن اهل الوادي ومنهم أولياء امور الطلبة قد نحروا خروفا قاموا بطهيه من اجل خاطر المدرسين العرب وجلّهم من العراقيين مقيمين تلك الوليمة الغريبة الاطوار التي كانت ، على حد قول إخواننا المصريين بوليمة بالعافية ! وعموما يمتاز الشعب الليبي بالكرم .
كانت نزهاتنا في أرجاء المزارع التي تحف بمبنى المدرسة وجولاتنا القليلة في منطقة (الغربيات )القريبة من وادي جارف تبدد جانبا من إحساسي الحاد بالغربة وتخفف من وطأة السجن الذي اخترته لنفسي طائعا . وقد ذهبنا الى تلك المنطقة بعد أن وفر لنا احد المعلمين الفلسطينيين سانحة الذهاب معه بسيارته الداتسن القديمة . غير ان زيارتنا للمجمع الاستهلاكي التمويني كانت مخيبة للآمال اذ كان شبه خاو من البضاعة سوى علبة شامبو وفرشاة للشعر وبعض البسكويت . وعموما وعلى الرغم من ان الساحل الليبي كان رعوي الطابع إلا أن منتجات الألبان كانت اقل مما يجب فلا لبن زبادي ولا زبدة ولا قيمر ولا أجبان محلية ولا هم يحزنون دون ان اعرف السر وراء ذلك الغياب !
كان من ضمن اجراءات انجاز الإقامة التي يتم وفقها صرف رواتبنا المتأخرة القيام بفتح حساب في احد مصارف سرت ، غير ان طلبي جوبه بالرفض من قبل احد مدراء مصرف الوحدة وكان اسمه (حسين دورياك الفرجاني) مما اضطرني لعرض الأمر على ابن عم مدير المدرسة الذي اقلني في سيارته الى مصرف آخرفي سرت يحمل اسم مصرف الجماهيرية بعد ان روى الحكاية لصاحبه الذي يبدو انه كان مسؤولا امنيا متنفذا اذ طلب مني ابن عم المدير ان اطرح حكايتي بأقل قدر من الكلمات تم فتح حساب لي في مصرف الجماهيرية الذي يقع في قلب مدينة سرت الصغيرة مساحة والتي منحها القذافي أهمية ما بعدها أهمية لكونها مسقط رأسه وللتواجد الأكثف لأبناء قبيلته .
لم يكن الإياب الى جارف أمرا هينا نظرا لعدم توفر مواصلات عامة كما هي الحال في طرابلس اذ كان الأمر يتطلب استئجار سيارة نظير مبلغ لا يقل عن عشرة دنانير لم أكنْ امتلكها في ذلك الوقت العسير بعد نفاد المدخرات واللجوء لأسلوب الاقتراض من هذا وذاك . غير ان كثرة مراجعاتي لسرت المدينة كان لها جانب ايجابي تمثل باللقاء بالصديق يحيى البطاط بل والمبيت معه في غرفته التي هي في الأصل عبارة عن حمام للاستحمام او ربما لحفظ مؤونة البيت من مواد غذائية . كان أثاث غرفته بسيطا ويفتقد كالعادة لأي انتظام . هنا سجلات معهد البنات وهنا ملابسه وهناك في الركن صفيحة وضعت عليها بعض المعلبات وثمة مجموعة من الكتب بعضها منهجي والآخر أدبي اذ كان شاعرا نافذ الإشعاع عاشقا كبيرا للحياة . ثمة علبة مستطيلة هي في الأصل علبة شيكولاتة اتخمت رسائل من الاهل ومن فتاة التقاها في احد أسواق العشار ليرتبط معها بعلاقة حب بين طرفين مثقفين .غير ان المثير للدهشة ان رسائل حبيبته نمت عن ذهنية صنعتها مخاضات آلام الحروب وافتقاد الأب الذي عدته الأسرة من مفقودي الحرب ليتبين انه كان أسيرا في ايران لتسع من السنوات . وسيكون لفضولي موعد مع رسائل يحيى البطاط الذي كان في حد ذاته كائنا استثنائيا يتمتع بكارزما متفردة ثم انه كان كتابا مفتوحا فحين سافر الى تونس في العطلة الصيفية ترك لي الغرفة تحت تصرفي فأقبلت في نهم على رسائله المتبادلة ، وهو تصرف لم يكن من بواعث سجيتي فعادة لا أميل الى التدخل في شؤون الآخرين إلا بترخيص من صاحب الشأن . ودليلي ان كل ما قرأته في تلك الرسائل من تفصيلات عائلية قد انمحى من ذاكرتي تلقائيا سوى بعض الخطوط العريضة . كما أنني لا نسى جولاتنا معا في شارع سرت وعلى الساحل نشرب الشاي او البيرة الإسلامية او نكتفي بالساندويتشات البسيطة التي تختتم عادة بالمشروبات الغازية المحلية الصنع والتي لم تكن تعجبني كثيرا .
في الأيام التي سبقت مغادرتي ليبيا أسعفتني الظروف بلقاء شخصين عزيزين هما مدرس اللغة وزميلي السابق في التدريس باعدادية العشار المركزية الاستاذ المرحوم سعد ناصر الذي استضافني لاكثر من مرة في بيته والذي لبيت دعوته للمبيت مرة او مرتين حيث كانت تستغرقنا شجون الأحاديث ، لنقضي الوقت في لعبة جلبها معه من سفرة له الى لندن واسمها لعبة الكلمات او السكربل . وكثيرا ما عتب علي أنني لم اتصل به في الوقت المناسب كي يتدخل في امر تعييني في سرت المدينة بدلا من وادي جارف المنقطع والذي زارني فيه مرتين بصفته مفتشا لمادة اللغة الانكليزية وكتب بحقي تقريرا مهنيا جميلا . ولكن ما آلمني هو ذلك القدر الكبير من المضايقات التي تعرض لها من قبل بعض أهالي المدينة لأن تعليم سرت ــ ونظرا لخدماته الكبيرة التي قدمها بشكل طوعي ــ قد خصص له شقة سكنية ، الى ان فوجئ فيما بعد بقرار إخراجه من تلك الشقة وكان قرارا ظالما ومجحفا اضطره لاستئجار شقة بمبلغ أثقل ميزانيته . والوجه الآخر الذي التقيته كان الأستاذ التدريسي المرحوم عبد العزيز المعيبد الذي كان معلمي الأول أيام الابتدائية وزميلا لي ايام الكلية . وقد لبيت دعوته الكريمة مرتين ، مرة وحدي والأخرى مع زميل المدرسة المرحوم جاسم عبد السادة الشاوي وذلك في مسكنه الذي كان عبارة عن كرفان أنيق في جامعة التحدي حيث كان يعمل .
في الأيام الاخيرة التي سبقت اجراءات استقالتي ــ وكنت حينها لم اتسلم فلسا واحدا من رواتبي المتراكمة ــ وجدتني امام معضلة إيجاد وسيلة للعودة الى عمّان ومن ثم الى البصرة حيث كان الفساد الناشب في عظام بعض موظفي التعليم يلتهم الكثير من حقوقنا ومن بينها السكن وتذكرة القدوم والمغادرة وسواهما من امتيازات ذكرت بنود عقد المغترب بعضها واغفل ذكر العديد من الفقرات الأخرى . روى لنا (خميس) معاون مدرستنا ان مدرسا مصريا سلم جواز سفره لتعليم احدى الشعبيات لغرض تثبيت الإقامة واتمام بقية اجراءات التقاعد . غير انه في أول مراجعة له اكتشف اختفاء جواز سفره مما جعله مراجعا مستديما سعيا للبحث عن ذلك الجواز وسط الملفات وفي كل مكان يعرفه الموظف او لا يعرفه حتى أصابه اليأس من العثور على جواز سفره مما اضطره لإعلان فقدانه والحصول على جواز بديل مما أنهك قواه الى حد الإعياء . وحين ذهب لدائرة التعليم وسلم الموظف جواز سفره البديل كان الأخير منشغلا بتنظيف أثاث غرفته ، وما انْ أزاح طاولة مكتبه حتى عثر أسفل احدى أرجلها على جسم سميك تبين انه كان ذلك الجواز المفقود وضعه ذلك الموظف الكسول من اجل إنهاء ميلان الطاولة بسبب عدم انتظام أطوال أرجلها !
بقيت مهووسا بفكرة وسيلة العودة وبأرخص التكاليف متذكرا انني قدمت الى ليبيا على نفقتي الخاصة في حين ان حقي بالسفر على نفقة الطرف الاول قد سرق مني على أيدي حساد العيش ولصوص الغفلة من مسؤولي التعليم والمصارف في الجماهيرية العظمى .
اخبرني احد المطلعين ان طريق مصر الترانزيت البري قد افتتح بعد مفاوضات لكن كان لابد من التأكد من تلك السانحة عن طريق السفر الى بنغازي . وهكذا تجشمت عناء رحلة منهكة في حافلة سلحفاتية الى كبرى مدن الشرق الليبي . مررنا بمدن مجدبة واخرى كئيبة حتى وصلنا مدينة بنغازي لأسكن في فندق فلسطين الأقرب الى ساحل البحر والذي يدار من قبل مجموعة فظّة السلوك لم تتشرب بالتقاليد السياحية في بلد لا يتقن فن الاستقبال وينظر للغريب نظرة الشك والارتياب ! واثر مراجعة عاجلة لتعليم بنغازي أخبرتُ بأن فكرة فتح الطريق البري لم تفعّل بعد وان المتعاقدين ما زالوا ينتظرون غودو الفرج الذي يأتي او لا يأتي . وهكذا قفلت راجعا الى بيت يحيى بخفي حنين بعد ان قطعت ما يعادل الالف كيلومترا من دون جدوى !
في سكن المدرسين ابلغت يحيى بالأمر فور استيقاظي من رقاد طويل نجم عن تلك الرحلة المنهكة . فاقترح علي طرح الامر على مدرس نزيل بالبيت اسمه ابو نبأ الموسوي من اهالي بغداد الذي ابلغني بوجود منفذ للسفر عن طريق تونس جوا الى عمان . دلني على دائرة مختصة بمثل هذه الأمور تقتطع مني مبلغا رمزيا لتكون الرحلة على نفقة الجانب الليبي فاقتنعت بالفكرة . نصحني بعدم مراجعة أي جهة بسرت فأخبرته بأنني قد أحرقت كل جسوري ــ بحكم الاستقالة ــ فلا مجال للعودة . ودعت يحيى ونزلاء السكن وغادرت سرت باتجاه طرابلس العاصمة حيث فرصتي الوحيدة ، ربما .

كان السفر المتواصل شكلا من أشكال الانتحار ومع ذلك غادرت سرت الى طرابلس لأصلها في أصيل اليوم الأول من ايلول من عام 1996 ، لتلتقي عيناي بمشهد غريب اذ كان احتفالا ثنائيا بذكرى الثورة الليبية عام 1969 واحتفالا بوصول ماء النهر الصناعي من الجنوب الليبي الى مشارف العاصمة الليبية . كانت الاحتفالية قد انفضت لتوها لأشهد منظرا غريبا :

عشرات السرادقات تتلاعب بها رياح المتوسط وقد طوقت بعشرات الألوف من الزجاجات البلاستيكية الفارغة او المتتلئة ناهيك عن فوارغ العصائر والحلويات والأعلام الممزقة وأسلاك الميكرفونات والكارتونات المتدحرجة الى نهر طريق الساحل فيما كانت الريح تطوق ساحل المدينة من كل حدب وصوب . لقد شكلت ركامات الزجاجات مفارقة صادمة بحكم ان الاحتفال بمقدم ماء النهر الصناعي تطلب ذلك القدر الهائل من المياه المعبأة في زجاجات . ومشروع النهر الصناعي هو مشروع ضخم وضع حجر أساسه في مثل هذا الوقت من عام 1984 لنقل المياه الجوفية إلى المناطق الزراعية والمدن كثيفة السكان في شمال ليبيا بتكلفة 35 مليار دولار بدءا من الكفرة في اقصى الجنوب الليبي ،ويعيش حوالي 80 في المئة من سكان ليبيا البالغ عددهم 6 ملايين نسمة على امتداد ساحل البلاد على البحر المتوسط أو بالقرب منه ويعتمدون على المياه العذبة التي تضخ عبر الأنابيب من خزانات جوفية في جنوب البلاد حيث تقع أيضا الحقول الغنية بالنفط في ليبيا.وقد اطلق عليه العقيد القذافي تسمية الأعجوبة الثامنة .

غادرت السيارة الأجرة البيجو اثر توقفه في احد ازقة القلعة العثمانية القديمة المجاورة للساحة الخضراء او ساحة الاحتفالات ، وكنت مرهقا بعد ان قطعت ما يزيد عن الألف وخمسمائة كيلومتر في رحلات مكوكية بحثا عن الخلاص . كان من الصعب علي جرجرة حقيبة سفري بحثا عن غرفة في فنادق القلعة التي كانت ممتلئة بالنزلاء من شتى المدن ممن قدموا لحضور احتفالية الماء وقضاء أوقات ممتعة بمعيّة الغواني المغربيات ممن استجلبهن القذافي للتسرية عن الشباب الليبي الذي صار ممنوعا من السفر بعد احتدام المواجهات مع التحالف الدولي الأطلسي وفرض شكل من أشكال الحصار على ليبيا . وبعد جولتين عقيمتين بحثا عن سرير في اقرب فندق اضطررت لمناشدة سائق الأجرة الذي اقلنا الى العاصمة بإيداع حقيبتي لديه كي أوسع دائرة بحثي فقبل التماسي لكنه أوصاني بالإسراع ضمانا لاستعادة حقيبتي .
اخيرا تسلقت درجات فندق الأمين لأصل الى مكتب الاستعلامات في الطابق العلوي ليصدمني رده القاسي وان كانت نغمته ناعمة لطيفة :
ــ متأسف .. كل الغرف مشغولة . .
ليستطرد بعد صمت قصير :
ــ ثمة سرير مع نزيلين احدهما سيغادر في المساء ..
سألته بنغمة متقطعة الأنفاس :
ــ وأين هو الآن ؟
ــ خرج لشأن ما ..
توسلت اليه بأن احتل أي سرير في الغرفة لأستعيد قواي ولو لساعتين
فرضخ بعد الحافي الشديد . أسرعت للسائق واستعدت حقيبة سفري . وحين عدت قادني صاحب الفندق الى الغرفة التي سأكون فيها وحين دلفت اليها لقيت رجلا طيبا أشيب الشعر من اهالي بنغازي وأبصرت عامل الفندق منهمكا بفرش شرشفين على سريري المخصص لي ، بشكل مؤقت حاليا .
شرشفان في وقت واحد؟ لماذا ؟!
طلب مني التريث لبضع دقائق كيما يرتب ملاءة السرير فامتثلت وأنا أغالب رغبة هائلة في الرقاد !
استيقظت قبل منتصف الليل كي اقضي حاجتي في الحمام الكائن في الممر القريب ولدى خروجي لاحظت فتى مغاربي الملامح وفي معيته فتاة مليحة ترتدي بنطالا ضيقا ، وكانا يقفان قبالة باب غرفة مجاورة . أدار ذلك الفتي أكرة الباب ليدلف الاثنان الى الداخل حينئذ راودني ارتياب في ان هذا الفندق يقدم خدمات اضافية عدا خدمة استقبال الزبائن !
بعد ساعة من منتصف الليل استيقظت ثانية وأشعلت النور . كان الرجل الأشيب القادم من بنغازي قد غادر . فشعرت ببعض الارتياح لأنني سأستكمل ليلتي وحدي في الغرفة .
فجأة لمحت حشرة تدب على وسادتي . كانت اكبر حجما من البرغوث واقرب الى القرادة بلون كان اميل للقتامة . شعرت بدبيب حشرة أخرى في أهاب قميصي فرحت احك وأهرش زندي وخاصرتي .
حين قلبت الشرشفين بان سطح الكشن وقد احتشد بدغل من صنف تلك الحشرة . ادركت عندئذ سرّ تردد صاحب الفندق في اعطائي الغرفة .
نزعت قميصي وقمت بنفضه أكثر من مرة ليتهافت القراد زرافات ووحدانا .
لم اكن قد شبعت نوما . على العكس . داهمني قلق وارق وتناهبتني أفكار جهنمية كالتفكير بأن ذلك النوع من الحشرات قد ينقل مرض الايدز . كنت في غاية الارتعاب . وقضيت الليل ممسكا بقميصي باحثا في ثناياه وطياته عن الغزاة ولكم كان بحثي مثمرا !
مع مجيء الصباح توجهت الى مكتب إصدار تذاكر السفر وبعد عملية روتينية زودت بتذكرة العودة المرجوة فانفرجت أساريري على الرغم من الآلام المبرحة التي سببتها عضات تلك الحشرة الصعبة الاقتلاع لمهارتها في الاختباء في طيات القميص . كما قمت بمراجعة السفارة التونسية طلبا لفيزا ترانزيت فتسلمتها ولحسن الحظ في تمام الساعة الثانية ظهرا .

كنت قد استرجعت رغم آلام الطريق وعضات القراد نشاطي فغادرت الفندق الى موقف سيارات البيجو التي تقل المسافرين الى تونس العاصمة .
كانت السيارة الأجرة تنتظر راكبا او راكبين لتبدأ رحلتها وبالفعل قدم تونسي وبرفقته فتاة فاكتمل عددنا لتنطلق الركوبة الى تونس العاصمة .
عند (رأس جدير) وهي المنطقة الحدودية بين ليبيا وتونس لم تفلح نسيمات المساء في التخفيف من أورام بدني الملغّم بديناصورات الفندق . ألهيت نفسي بالتفرج على الوفود الأفريقية العائدة من احتفالية ثورة الفاتح وماء النهر الصناعي . وبعد رحلة برية مرت السيارة الأجرة بعدد من مدن الساحل التونسي : تطاوين ، قابس ،نابل ، سوسة ، الحمامات وصلت العاصمة وأقمت في النزل الذي أقمت فيه سابقا : سيدي بلحسن ! وحالما شاهدني صاحب الفندق بادرني بالقول في نغمة تهكم :
ــ ألم اقل لك ؟!
هل سأقول وداعا يا ليبيا فيما كانت طائرتنا تقلع باتجاه الأردن ؟ سيكون على ان انتظر اسابيع في احد فنادق عمان قبل ان يصل التحويل الذي يتضمن مرتبتي لعام كامل . وسيكون من ضمن انشغالاتي تفتيش قمصاني بحثا عن المزيد من تلك الحشرات والالتجاء الى مكتبة أمانة عمان مقلِبا صفحات كتبها ومجلاتها العلمية والصحية بحثا عن ادنى صلة بين القرادة الليبية ومرض الايدز القاتل ، دونما جدوى !

يـتبع الى القسم الثاني/شرقا في بنغازي

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

661 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع