الرجال المرضى في مصح أولغا توكارتشوك مهووسون بالنساء

 الروائية البولندية النوبلية أولغا توكارتشوك (غيني)

الأندبيندت عربية/ الروائية النوبلية تسلك مسار "الجبل السحري" في "وليمة العرائس" عشية الحرب العالمية الأولى.

ملخص

"وليمة العرائس" رواية جديدة للكاتبة البولندية أولغا توكارتشوك الحائزة جائزة نوبل، وفيها تسرد وقائع مصح علاجي خلال الحرب الأولى، وقصص الصمود الإجباري للمرضى، وتقهقر الإرادة الفردية والجماعية في مواجهة تقدم خطر الموت.

قد تكون الأشياء الصغيرة أو الهائلة هي الخالدة فقط، الذرات خالدة، كما المجرات خالدة. توجز هذه العبارة كثيراً من الأفكار المتضاربة في رواية "وليمة العرائس" التي ترجمتها حديثاً إلى الفرنسية ماريلا لوران وصدرت عن دار "نوار سور بلان"، وهي أحدث عمل إبداعي للكاتبة البولندية أولغا توكارتشوك، الحاصلة على جائزة نوبل عام 2018. فمع كل عمل تصدره هذه الكاتبة، تثير تساؤلاً خفياً، عما تريد قوله. وهذا ما يحصل أيضاً مع هذه الرواية. ففي عام 2014 أصدرت الرواية الأكثر طموحاً "كتب يعقوب"، وهو عمل سردي ضخم يتكون من 900 صفحة، تروي فيه الكاتبة قصة يهودي بولندي من القرن 18 ادعى أنه المسيح، فتقدم قصته من وجهات نظر متعددة. نالت توكارتشوك عدة جوائز عن هذه الرواية، ثم وصلت بترجمتها الإنجليزية إلى القائمة القصيرة في جائزة البوكر العالمية عام 2022.

يجتذب التاريخ العاصف هذه الكاتبة، تواجه أهواله بجرأة، تمضي في رواياتها خلف ارتحالات درامية خطرة، بين الروحي والسياسي، بين الهرطقة والبرجوازية، بين النفوذ الديني والمسعى الثقافي. تضع أبطالها على المحك دائماً، في اختبارات قاسية، لا ترحم، فيواجهون المرض والموت والأشباح والعزلة من دون أمل بالنجاة.

ولأن العقد الأول من القرن الـ20 يمارس سحراً مغوياً على الكتاب في الغرب، فإننا نجد عديداً من الأعمال الروائية تحوم حول هذه المرحلة التاريخية المفصلية والملهمة في جانب منها، ربما لأن العالم ككل، كان موعوداً بتحولات كبرى لجهة التقدم العلمي السريع، لكنه سرعان ما سحق بفعل ويلات الحرب العالمية الأولى. بالتوازي مع هذا كان نداء السلاح يتعالى، وعيادات الاستشفاء من الأمراض المستعصية قد بدأت تزدهر في جبال أوروبا. مثلاً كان يعتقد بإمكانات شفاء مرض السل من خلال التعرض الطويل للهواء البارد في قمم الجبال. هذه الفكرة ألهمت توماس مان روايته الضخمة "الجبل السحري".

تمضي أولغا توكارتشوك على غراره كي تروي قصص الصمود الإجباري للمرضى، وتقهقر الإرادة الفردية والجماعية في مواجهة تقدم المرض، وكيف يعايش الإنسان الموت وجهاً لوجه بلا بطولة حقيقية تحسب له. في هذه الرواية، يصبح النزل الصحي مسرحاً للمعاناة الفردية، ومرآة تعكس التدهور الاجتماعي، ولكن يظل البحث عن الشفاء، سواء كان جسدياً أو اجتماعاً قاسماً مشتركاً يوحد البشرية عبر الزمان والمكان.

الخرافة والحقيقة

ثمة تقاطعات متعددة بين روايتي "الجبل السحري"، و"وليمة العرائس"، كلتاهما تدور أحداثهما في العقد الأول من القرن الـ20، وفي منتجع صحي للاستشفاء، وأن البطل الرئيس في العملين شاب يغادر موطنه بحثاً عن العلاج، وفي داخل المنتجع يواجه أحداثاً غامضة، وأنواعاً مختلفة من الشخصيات الدراماتيكية.

بيد أن توكارتشوك تمكنت من خلال الأجواء الملحمية المشتبكة مع الميثولوجيا من أن تضفي على السرد بعداً خرافياً وعمقاً أسطورياً، يجعل من المكان مسرحاً درامياً عبثياً يستدعي في الوقت عينه أجواء روايات الرعب.

تستخدم أولغا توكارتشوك في بداية الرواية مخطط "الجبل السحري"، لكن سرعان ما يتحول السرد نحو ستة أشخاص موجودين داخل المنتجع الصحي، وهم: دكتور سيمبيويس، أوبيتز مالك المكان، الممرضة سيدونيا، وهي امرأة شابة ترتدي قبعة كبيرة، هناك أيضاً ضابط شرطة في الخدمة، مدرس يوناني، أما بطل الرواية فيدعى ميتشسلاف وهو شاب مثلي الجنس ورسام يعاني مرض السل.

يصل ميتشسلاف إلى المصح في سبتمبر 1913، إلى دار ضيافة "فيلهلم أوبيتز للسادة"، وهو منتجع صحي يقع في سوكولوفسكي، في بولندا المعاصرة. يساور الأمل البطل الشاب بأن العلاج والهواء النقي سيوقفان المرض المميت، الذي تم تشخيص إصابته به. داخل المصح يتعرف إلى شاب يدعى ثيلو، يتشارك ميتشسلاف اكتشافاته القريبة وماضيه معه. تبدو ذكرياته بعيدة كل البعد عن السعادة. ماتت والدته أثناء الولادة، وظل يلازمه شعور بالغربة طوال حياته، لا سيما في وجود أب قاس لم يمنحه أي قدر من العاطفة. كل هذا يجعل مستقبله غامضاً مرتبطاً بمرضه من ناحية، ومن ناحية أخرى يجعله هشاً لا يعرف كيف يتغلب على ضعفه.

في كل يوم يجتمع سكان الدار، وهم مرضى من جميع أنحاء أوروبا، تشتعل المناقشات بين هؤلاء الرجال من أصول وأديان وآراء مختلفة تماماً، وفي غرفة الطعام يحتسون مشروباً كحولياً محلياً يحمل اسم شوارميري، يؤدي بهم هذا المشروب إلى الهلوسة. وفي حالة الثمل تتكشف أوجه كل واحد منهم، يظهر الهوس بالمال والمكانة الاجتماعية والنفوذ والسلطة، يجلسون معاً لمناقشة القضايا الكبرى، مثل: هل ستكون هناك حرب قريبة، ملكية أم ديمقراطية، هل الشياطين موجودة، هل المرأة أقل شأناً من الرجل بطبيعتها؟

تبدو النساء غائبات عن الحضور الفعلي في الرواية، في مكان يسكنه الرجال فقط، لكن الحديث الدائر يومياً ينتهي بين النزلاء ليكون عن النساء. أما نقاشاتهم العلمية فإنها مأخوذة من أقوال رجال مشهورين، مثل: القديس أوغسطين، كيرواك، فرويد، نيتشه، سارتر، شوبنهاور، سويفت، ييتس، وغيرهم. لكن البطل يلاحظ أن كل نقاش، سواء كان يتعلق بالديمقراطية أو بالبعد الخامس أو دور الدين أو الاشتراكية أو أوروبا أو الفن الحديث، فهو يؤدي دائماً إلى الجدل في شأن المرأة، الحاضرة الغائبة بينهم.

تمزج توكارتشوك من خلال هذه الموضوعات بين الفلسفة والواقعية السحرية التي تتقنها، بين الرعب والكوميديا، الخرافة والفولكلور، النظريات العلمية والحكايات النسوية. من خلال كل هذا تشكل ضفيرة تشتبك فيها المخاوف بين العالم الداخلي الصغير للنزلاء والعالم الخارجي، حيث تقع أمور مزعجة ومقلقة في المناطق المحيطة للمنتجع، إلى جانب شيوع قصص مروعة حول المرتفعات المحيطة بالمكان. ينشأ بين النزلاء شعور بالرهبة، وتتردد كلمات خفية أن هناك شخصاً ما، يراقبهم ويحاول التسلل إلى عالمهم أو أن قوى شريرة تعبث بالعالم من حولهم، وتنوي إلحاق الأذى بهم.

انتقام الساحرات

تدور الحبكة أيضاً حول فكرة انتقام مؤجل لعدة قرون، من أرواح الساحرات اللاتي تعرضن للاضطهاد في أوروبا خلال مراحل الإصلاح الكاثوليكي. منذ الصفحات الأولى، تموت زوجة فيلهلم أوبيتز، في ظروف غامضة وتنتشر حولها الأقاويل والإشاعات بجميع أنواعها، مما يحول المنتجع العلاجي تدريجاً إلى مسرح رعب.
وكما فعلت توكارتشوك، في روايتها الطويلة "كتب يعقوب"، فإنها تخلط هنا بين الغيبي والتاريخي، بأن تمنح دور الراوي لآلهة خفية، تمثل نوعاً من مصاصات الدماء الإناث، تدعى السوكيوبات، وهي كانت في اليونان القديمة جزءاً من موكب هيكاتي، إلهة الجحيم. يتمكن القارئ بسهولة من ملاحظة تفضيل توكارتشوك للبدائية، والفولكلور الشعبي، والوثنية، إذ تسعى في جميع رواياتها لاستعادة قوة تأثيرها من خلال تمجيد الأنوثة، في ظل سيادة الديانة المسيحية وأفكار التنوير الذكورية. لكن الطريف، أن المخلوقات الخفية التي تمنحها توكارتشكوك دور الراوي، لا تفتقر إلى الفكاهة، وهذا من خلال أسلوب خيالي في المراقبة يكسر السياق الذكوري للمكان وما يدور فيه، لنقرأ "نحن الإناث نحب أن ننظر إلى الأحذية، وإلى الرجال من تحت الطاولة، ومتابعة حركة الحذاء واليد، وملاحظة الحركات المرحة والتفاصيل الجسدية، وأنواع الملابس التي تكشف عن الشخصية أكثر من كلماتهم أو سلوكهم. إنهم يجعلوننا نبتسم".

هويات متعددة

من خلال استكشافها هذه الفترة التاريخية المحورية وتأثيرها في الأفراد والمجتمع، تقدم الكاتبة نظرة فريدة على كيفية تشكيل التاريخ إزاء الوعي البشري، وكيف يمكن للأدب أن يكون جسراً يربطنا بالماضي. وهي تبدو مأخوذة بدمج السرد بأجواء فلسفية، بغرض تحليل العلاقات الإنسانية والمفاهيم الأخلاقية بشكل أعمق تقول" "إذا حكم أحد على نفسه أنه قد أصبح كاملاً، وأنه قد أنجز رسالته، فعليه أن يقتل نفسه".

ارتأت الكاتبة أن تجمع شخصيات رواياتها، مع تأكيد هوياتهم المعقدة من كل الجوانب، ثقافياً ولغوياً واجتماعاً وجنسياً. أما اختيارها جمعهم في دار للعلاج، فما هو إلا ذريعة لتفكيك الحالات النفسية والجسدية التي تعتريهم، وإظهارهم في لحظات ضعفهم وتعريتهم والكشف عن باطنهم الأعمق، بحيث تبدو ذواتهم المشروخة مصنوعة من عدة طبقات، لا يمكن النفاذ إليها بسهولة.، لذا استعانت توكارتشوك بالمخلوقات الطيفية التي تراقبهم، وتدير دفة السرد في الوقت عينه، وتتطلع إلى التهامهم في مأدبة جماعية، وذلك من أجل وضع حد للهيمنة والتبجح الذي يتفوه به رجال الدار.

وصف بعض النقاد رواية توكارتشوك بأنها حكاية نسوية مظلمة تدور حول عالم يهيمن عليه الرجال، لكنها تختبئ خلف الأفكار القائمة على تفكيك متعمد ودقيق للمفاهيم التقليدية وتحدي الأعراف الاجتماعية، عبر استخدام السرد والشخصيات لاستكشاف أبعاد الهوية والجندر بطريقة جريئة ومبتكرة. لنقرأ: "إن الشعور بالنقص يؤثر في وجودنا بأكمله، وبشكل خاص على طريقة تفكيرنا. هل تعلم ذلك؟ بما أننا غير متأكدين من أنفسنا، فإننا نخترع نظاماً مستقراً وصارماً للغاية قادراً على إبقائنا مستقيمين. إنه يبسط ما نعتبره تعقيدات غير ضرورية. ولكن، التفكير بالخير أو الشر أو اللجوء إلى التناقضات الأساسية هو أعظم تبسيط. هل تفهم ما أعنيه؟ إن أذهاننا تشكل مجموعة من المتعارضات الصارمة، الأبيض والأسود، الليل والنهار، الأعلى والأسفل، الرجال والنساء، وهذه هي التي تحدد إدراكنا بأكمله، لا يوجد وسط بينهما، ومن الواضح أن العالم المدرك بهذه الطريقة أكثر بساطة".

أرادت الكاتبة في هذا العمل أيضاً أن تضع الحياة في مواجهة الموت، والروح القلقة في صراع مع جسد ملتاع لا يهدأ. كل هذا يجعل توكارتشوك واحدة من أبرز الروائيات، في ما تمتلك من صوت فريد في الأدب المعاصر. فهي قادرة على التلاعب بالموضوعات القديمة والمعاصرة، وعلى دمج التاريخ بالخيال، وتقديمه في أشكال أدبية مختلفة تطرح تأملات عميقة حول الوجود الإنساني، في رؤى جديدة تثري الفكر والروح معاً.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

546 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع