"العرب تشبعوا بروح العطر وتوثقت صلتهم به قبل وبعد الإسلام"
دراسة الباحث قيس كاظم الجنابي تنطلق من تمهيد يتوقف عند مفهوم العطر وتاريخه وأصنافه مثل المسك والعنبر والعود والصندل والسنبل والقرنفل والقسط، ليبدأ بعد ذلك برصده في حضارات الشرق القديم وأديانه، مرتكزا على العصور الجاهلي ثم الأموي فالعباسي.
ميدل ايست اونلاين/محمد الحمامصي:العطر مادة مهمة في حياة الإنسان يحتاج إليها في شتى مفاصل حياته، منذ الطفولة وحتى الممات، وهو يغطي مساحة لا بأس بها من ميادين مختلفة من حياته، كالزواج والحب والوجاهة والترفيه والصناعة والتجارة والزراعة والثقافة والطقوس الدينية، وهذه الدراسة "العطر عند العرب.. دراسة تارخية فكرية" للباحث قيس كاظم الجنابي والتي تجمع بين التاريخ والفكر تشكل إطلالة تاريخية وسيرية ووصفية تنطلق من تمهيد يتوقف عند مفهوم العطر وتاريخه وأصنافه مثل المسك والعنبر والعود والصندل والسنبل والقرنفل والقسط، ليبدأ بعد ذلك برصده في حضارات الشرق القديم وأديانه، مرتكزا على العصور الجاهلي ثم الأموي فالعباسي.
يؤكد الجنابي في كتابه الصادر عن دار الانتشار العربي أن مسيرة العطر ارتبطت بالتاريخ، بوصفه وسيلة من وسائل الترفيه؛ ذلك لأنه من المعروف أن لكل علم تاريخيا، لأن تاريخ العطر هو جزء من حركة الحياة الإنسانية، وبالتالي جزء من حياة العربي منذ أقدم العصور؛ فإذا كان التاريخ من أجناس التعبير ونوعا من أنواع النصوص الحضارية، لأنهيهتم بالأحداث التي تخضع للطبع الإنساني، فإنه بالتالي يؤسس لفهم مختلف، من حيث كون البشر يتعرضون لنوع من الإخضاع لصياغة أساليب حياتهم وطرائق صناعتهم للأحداث، وهي تخضعهم لشبكة اجتماعية، ومنظومة علاماته تفوق قدراتهم، ومن هنا فإن التاريخ ليس مجرد حقائق وأحداث بمقدار ما هو منظومة اجتماعية سيميائية، تتماشى مع حركة العطر وقدرته على مسايرة الحياة الإنسانية.
ويقول "وصفت التوراة جنوب جزيرة العرب بأرض البخور، لأن القوافل الكبرى كانت تأتي إلى الشمال "الاسماعليين"، إذ كانت جمالهم تحمل كثيرا وبلسانا ولادنا. مما يعني وجود علاقات تجارية قديمة بين جزيرة العرب "أو بين العرب" في عصر ما قبل الإسلام، وبين اليهود منذ أزمنة قديمة وثقتها التوراة. وكانت جزيرة سقطرة ذات أهمية خاصة في عهد اليونان، لأنها تنتج محاصيل ذات قيمة كبيرة في أسواق العالم، مثل البخور والصبر والصمغ. وكذلك كان الزيت المصنوع من البخور يعد مادة مهمة في الجزية، حتى أن الرومان حاولوا احتلال جزيرة العرب للاستيلاء على ثرواتها التي اشتهرت بها من الثمار والبخور والأفاويه فضلا عن المر واللبان وغيرها. ومن الناحية الدينية كانت تخزن حصصها من هذه المواد لاستخدامها في الأعياد والشعائر الدينية وتبيع ما يفيض عن حاجاتها.
ويلفت إلى أن العرب قبل الإسلام (عصر الجاهلية) اعتبروا استعمال دليل فرح، وتركها دليل حزن وغم، وكان الإقبال على العطور شديدا أيام الأعياد والأفراح، وكان العرب يقدمونه كنذر لتطييب المعابد والأصنام، حتى روى المؤرخون أن آدم عليه السلام نزل ومعه السندان والكلبتان والميقعة (خشبة القصار التي يدق بها) والمطرقة، مما يشير إلى علاقة حميمة بين الإرث التاريخي واستعمال الطيب عند العرب، وعرفت المرأة العربية في العصر الجاهلي العطور وتداولتها تداولا كبيرا، فضلا عن استخداماتها الدينية، حتى كان في الكعبة قرنا كبش كانا معلقين في الجدار تلقاء من دخلها وكانا يخلقان ويطيبان إذا طُيّب البيت.
ويرى الجنابي أن العرب تشبعوا بروح العطر وتوثقت صلتهم به قبل الإسلام بمكة، فقد كانت سوقا تجارية غالب أهلها تجار، ومنهم المسلمون الأوائيل الذين هاجروا فيما بعد إلى المدينة المنورة، وهذا ما يبدو فعلا على اهتمامي النبي صلى الله عليه وسلم بالطيب وكثرة استعماله، حتى قيل إنه كان يتطيب حتى أنه طيب رداءه من موضع رأسه، وحتى يرى وميض المسك من مفرقه، وحتى يعرف مجيئه يطيب رائحته من بعيد قبل أن يرى، حتى كان يلبس الملحفة المصبوغة بالزعفران والورس. وكما وصف في حديثه الجليس الصالح بالداري، وهو تاجر المسك)، وقال: إن لم يحذك من عطره علقك من ريحه، أي إن لم يعطك. وسميت المدينة طيبة، لأن طيبها ينفي خبثها ويتضوع طيبها في ريح ثراها، وعرف ترابها ونسيم هوائها، وبها العطر والبخور والنضوح من الرائحة الطيبة أضعاف ما يوجد روائحه في سائر البلدان، وإن كان العطر أفخر والبخور أثمن، وربة بلدة يستحيل فيها العطر وتذهب رائحته كقصبة الأحواز وأنطاكية.
ويشير الجنابي إلى أن الكتابة بالعطر تعد علامة صورية لها رموزها التي يمكن الاستدلال على معانيها من خلال مراميها، وقد انتشرت بوقت مبكر؛ فعدها العرب نوعا من السحر، وسمى العرب الكتابة الترقين (أو الترقيم)، وهو تعجيم الكتابة ونقطة وتبين حروفه، قال الشاعر: سأرقم في الماء القراح إليكم/ على بعدكم أن كان للماء راقم. وقال جران العود: هل عرفت الديار عن أحقاب/ دارسا أيها الخط الكتاب. وفي العصر الأموي ظهرت الكتابة بأصناف العطر كالكافور والمسك والعنبر، قال عمر بن أبي ربيعة:
أتاني كتاب مل ير الناس مثله
أمد بكافور ومسك وعنبر
كتاب بسك حالك وبصفرة
ومسك صهابي يعل بمجمر
وقرطاسة قوهية ورباطة
بعقد من الياقوت صاف وجوهر
على تبرة مسبوكة هي طينة
في نقشه: تفديك نفسي ومعشري
وهذا يدلل أن الكتابة بالعطور وأصنافه كانت منتشرة منذ العصر الأموي، لكنها أصبحت أكثر انتشارا في العصر العباسي، مع انتشار النقوش والكتابات على الملابس، وخصوصا أزياء الغلمان والجواري، "عرفت الظريفات والجواري في العصر العباسي اتخاذ أبيات من الشعر جعلت مطرزة على زنانيرهن وتككهن إضافة إلى المناطق الأخرى، ولهم في ذلك أقوال وعبارات بديعة شيقة الذكر وخاصة في مجالات وحقول العبث والمجون". واشتملت الكتابة بالعطر على شعر الغزل فضلا عن العبارات الرقيقة، وأسماء الأشخاص؛ ولعل السبب في ذلك يعود إلى استمالة القلوب ولفت الأنظار. وقد نقشت تلك الكتابات بمواد مختلفة منها المسك والسك والعنبر والغالية والحناء.
ويلاحظ الجنابي أن العطر نال اهتمام الأدباء (شعراء وكتابا) فذكروه ووصفوه وتداولوا الأدب الذي اهتم به، ورفعوا من جمال المرأة التي يتضوع منها، حتى قال امرؤ القيس:
إذا قامتا تضوع المسك منهما
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
يشير إلى أنها قامت فاحت ريح المسك؛ فشبه طيب رياها بطيب نسيم هب على القرنفل، كما ذكروا أصنافه، والزهور التي يستحضر منها، فقد ذكر هنا المسك والقرنفل، ووصف الجميلة من النساء بأنها (تضحي فتيت المسك فوق فراشها)؛ لذا وصف فرسه بالجمال حين قال عنه:
كأنه على المتنين منه إذا انتحى
مداك عروس أو صلاية حنظل
كأن دماء الهاديات بنحره
عصارة حناء بشيب مرجل.
قال أحد العطارين: أطيب الكلام ما عجنت عنبر ألفاظه بمسك معانيه، ففاح نسيم نشقه، وسطعت رائحته عبقة، فتعلقت به الرواة وتعطرت به السراة. قال عبيد بن الأبرص:
كأن الصبا بريح لطيمة
من المسك لا تسطاع بالثمن الغالي
وريح خزامى من مذانب روضة
جلاد منها سار من المزن هطال.
فقد ذكر اللطيمة، وهي قافلة الطيب والمسك والخزامي؛ ليدلل على عبق الريح والنكهة العطرة، ويقترن في غالب الأحيان مثل هذا الوصف بالخمر، لاقتراب نكهتها من نكهة الطيب؛ لذا وصف ريق المرأة بعد الكرى كأنها اغتبقت بالخمرة صباحا، بقوله:
وخدا أسيلا يحدر الدمع فوقه
بنان كهداب الدَمَقسِ مُخَضَّبُ
وَكَأسٍ كَعَينِ الديكِ باكَرتُ حَدَّها
بِفِتيانِ صِدقٍ وَالنَواقيسُ تُضرَبُ
سُلافٍ كَأَن الزَعفَرانَ وَعَندَماً
يُصَفَّقُ في ناجودِها ثُمَّ تُقطَبُ
لَها أَرَجٌ في البَيتِ عالٍ كَأَنَّما
أَلَمَّ بِهِ مِن تَجرِ دارينَ أَركَبُ
ويكشف الجنابي في كتابه عن تطور تجارة العطور عند العرب، وتنامي هذه التجارة التي توزعت بين الاستيراد والتصنيع والتوزيع، ثم التصدير والتداول إلى أصناف أخرى، ولهذه التجارة امتدادها في العصر الجاهلي حتى أصبح العطر مقرونا بالعرب في العصر العباسي، وهذا بدوره كان له أثره في وجودهم في الأندلس وبلاد المغرب العربي، وكانت مواطن إنتاج العطر بشكل رئيس في الهند والصين، وأبرز أنواع العطور التي حملت اسمها من هذين البلدين بشكل خاص. أما الجانب الاحتفالي فقد كشف عن أن الطقوس والاحتفالات التي ارتبطت بالعطر، جاءت بشكل انسيابي منذ القدم حتى الحاضر مرتبط بالأديان والطقوس والأعياد والاحتفالات، وأكدت على وجود ضمنية واضحة بين الموت والعطر، وبين الحياة والعطر، وكيف تقلب الطيب بين الطرفين بشكل عجيب يجمع بين الفرح والحزن والخوف.
وفيما يتعلق بالجانب الفكري تناول الجنابي الحركة حول العطر كتصنيف الكتب، وكتابة الشعر والنثر وعلاقة الشعر بالخمرة والكتابة بالعطر، وعرج على بعض المنجزات الثقافية الحدثية التي كان لللعطر فيها أثره الحضاري الفائق، كما تناول الجانب السيميائي للعطر من خلال حاسة الشم.
542 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع