"وشم الطائر" لدنيا ميخائيل: رواية الإيزيديات

        

       "وشم الطائر" لدنيا ميخائيل: رواية الإيزيديات

    

العربي الجديد/عباس بيضون*:"وشم الطائر" هو وشمٌ على بِنصر هيلين، إحدى بطلات رواية دنيا ميخائيل التي تحمل هذا الاسم. لا نفهم تماماً دلالة هذا الوشم، لكنّنا نعرف فوراً أنّه ينضاف إلى شعائر الإيزيدية، ديانة هيلين القديمة التي طالما وُسمت، ليس بدقّة، بأنّها عبادة الشيطان، وكان يمكن أن يختفي الجدل حول هذه الديانة، أو أن يبقى عالقاً بكلّ التباساته لولا دخول "داعش" أو "تنظيم الدولة الإسلامية" إلى العراق بأيديولوجية تكفّر الإيزيديين، وتسبي نساءهم، وتعدم رجالهم.

عند ذلك، لم تعد المسألة عقائدية، ولم يعد الجانب الأيديولوجي بارزاً فيها، بل استُبدل بحقوق الإنسان وحريات البشر. مع ذلك، بقي اللغط الأيديولوجي على حاله، رغم أنه لم يتناول الإيزيدية بإحاطة جديدة أو إضاءة مختلفة. ذلك ما نفتقده حتى في رواية "وشم الطائر" التي لم تهتم بالجانب العقائدي للإيزيدية، قدر اهتمامها بالتراث الشعبي والإصطلاحات الجارية يومياً في حياة الإيزيديين، وبالطبع بما لحق بهم وبنسائهم نتيجة الاجتياح "الداعشي".

دنيا ميخائيل، شاعرة في الأساس، وليست الشاعر الأول الذي ينعطف إلى الرواية. إنّها في ذلك مثل كثيرين من الشعراء. لا نعرف بالضبط ماذا يترك الشعر في الرواية، وماذا يرسب منه فيها. الأرجح أنّ لكلّ شاعر طريقته في ذلك، إذا كان لا بدّ للشعر أن يبقى، ولو مضمَراً، في الرواية، إذا كانت رواية الشاعر الروائي غير تلك التي للروائي الخالص.

ليس هذا ما نتحرّاه في رواية الشاعر، وقد لا يسعفنا في الغالب أن نعثر على شعر خالص فيها، أو ما يشبه الشعر. الروائيون الذين جاءوا من الشعر أو عالجوه، في مرحلة ما من محطات كتاباتهم، كُثُر، ولم يكن لهذا أيّ تأثير في التناول النقدي لأعمالهم. إذا عدنا إلى داريل أو ملفيل أو أوستر على سبيل المثال، فإنّ الموازنة بين أشعارهم ورواياتهم ليست مجال النقد.

مع ذلك، فإنّنا أمام رواية أولى لشاعرة كدنيا ميخائيل، لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من تقصّي ذلك. ربما يدعونا إليه، أنّنا قلّما نجد في رواية دنيا ميخائيل، التي اجتازت إلى القائمة القصيرة في مسابقة "البوكر"، ما يرتدّ إلى الشعر أو يستدعيه. على العكس من ذلك، نجد، أكثر فأكثر، ما يمكن اعتباره نثراً خالصاً. ما نحار ليس في اعتباره شعراً فحسب، لكن بالمستوى ذاته أدباً.

منذ بداية قراءة "وشم الطائر"، ونحن نبحث عن الأدب فيها. نقرأ وقائع مرصوفة وأحداثاً متوالية، لكن بلغة الإخبار ولغة الإبلاغ. نحن نجد بالطبع، على الطريق، أشخاصاً وحوادث وأزمنة وأمكنة وعلاقات وتفاعلات، بل نجد شبكات واسعة من أشخاص وعلاقات، فنحن هنا أمام مجتمع برمّته، الإيزيديون من ناحية في أُسرهم ومعاناتهم، و"داعش" في المقابل بشخصياته وسلوكها. هناك من ناحية أُخرى المهرّبون الذين يتعهّدون تحرير الأسرى الإيزيديين والنساء الإيزيديات بوجه خاص. نحن هنا أمام حضور عارم لأشخاص وأحداث وأمكنة وأزمنة، أي أننا أمام اكتظاظ بالأشخاص والأحداث. الرواية تعجّ بذلك كلّه، وهي من هذه الناحية تكاد تكون رواية مغامرات. تحرير الأسيرات بوجه خاص لا يتم بدون ذلك.

هذه المغامرات في تنوّعها وتعدّدها، تملأ جانباً عريضاً من الرواية، وهي بطبيعة الحال تجعل الأسلوب سريعاً ومتلاحقاً. الرواية هي ذلك لولا أنّها في مبتدئها، ولدى قصّة حب إلياس وهيلين وزواجهما وحياة من حولهما، تضيء على حياة الإيزيديين التي تقرب، في البداية، من البراءة والبدائية. قرية حليقي التي يقطنها الإيزيديون في الجبال هي كذلك. حين يصعد إلياس اليها برفقة هيلين نتفاجأ بصفيرها، ثم نتفاجأ أكثر حين نعلم أنّ لكلّ غرض صفيره الخاص، وأنّ المصفّرين ينقلون بصفيرهم ما يريدون إعلامه للآخرين. ثمّة صفرة تنبئ بوجود الحريق، ولا بدّ أنّ ثمّة صفرات مقابلة لكلّ شيء.

هناك إذاً لغة كاملة بالصفير. لا نعلم مدى حقيقة ذلك، خصوصاً أنّ لغة الصفير هذه ليست شاملة لكلّ الإيزيديين، ففي حين تتقنها هيلين ابنة قرية حليقي، فإنّ إلياس، الإيزيدي هو الآخر، لا يعرفها. إنّها إذاً لغة حليقي، وربما إيزيديي الجبال. مع ذلك، فإنّنا نصادف في مواضع عديدة من الرواية أعرافاً شتى للإيزيديين، كسيرهم حفاة في معابدهم، وكشخصية فقراي كاهنة المعبد.

مقابل زمن البراءة الذي هو زمن إيزيديي الجبال، هناك زمن الشرّ الذي هو زمن الاغتصاب لأُسرهم واتخاذ نسائهم سبايا. لكنّ المسألة ليست خيراً في مواجهة الشر، فليس الإيزيديون جميعهم بصبغة واحدة. هناك عارض استوكهولم الذي يجعل بعضهم يماشون "داعش"، كما أنّ "الداعشيين" ليسوا كلّهم أشراراً، بينهم من يساير الأَسرى ويحرّرهم. مع ذلك، فإنّ الرواية تبقى مع ذلك صراعاً بين البراءة والذنب.

تبقى الرواية باحتشادها بالأشخاص والحوادث وبتقريريتها الخبرية نوعاً من رواية أنثروبولوجية يعلو فيها صوت الأشخاص والأحداث، وتتضاءل فيها اللغة إلى حدّ التقرير. قلّما نجد لمعة أدبية مع أنّها حين توجد تكون غنية وحيّة، فالرواية هي هذا التقرير التاريخي والأنثروبولوجي. هذا بالطبع كافٍ لتكون جديدة ولتكون مؤثّرة ولتكون ذات امتياز حقيقي.


بطاقة

شاعرة وكاتبة عراقية من مواليد عام 1965، وهي أستاذة للغة العربية وآدابها في "جامعة أوكلاند" بولاية مشيغان الأميركية حيث تُقيم حالياً. صدر لها في الشعر: "نزيف البحر"، و"مزامير الغياب"، و"الحرب تعمل بجد"، و"يوميات موجة خارجة من البحر"، إلى جانب كتابَين هما: "نحال سنجار: إنقاذ نساء العراق المختطفات" و"الليالي العراقية". "وشم الطائر" (دار الرافدين، 2021) هي روايتُها الأولى. ترجمت مجموعة من كتبها للإنكليزية ولغات أخرى.

*شاعر وروائي من لبنان

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

765 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع