تلك هي - رواية للدكتور سعد العبيدي / الجزء الرابع و العشرون

         

تلك هي - رواية للدكتور سعد العبيدي / الجزء الرابع و العشرون

     

قريبا من بغداد

تخرج الديوانية الجمر من تحت رمادها الراكد، تعيش حالات من التهامس بين مجموعات هنا وهناك، زاد ظهوره، وأقترب وجوده من البيوت وأرصفة الشوارع.
شيخٌ من آل غانم جاوز السبعين مع ثلة من الغاضبين يندفعون نحو المخازن الغذائية. يفتحونها بقوة العصي، يعلنون سيطرتهم عليها، وسقوط السلطة.
ضباط من أهلها، يتركون ثكناتهم، يلتحقون بأهل الانتفاضة، يشكلون مجموعات، يحاولون توحيد جهودهم وترتيب وضع قيادتهم، باقامة مركز لها في معسكر الديوانية التي تمت السيطرة عليه رمزاً باقياً في شموخه من أيام الملكية.
كريم العائد وصديقه من النجف دون تحقيق غاية أيصال الرسالة الشفوية، وتلقي الجواب مباشرة، يمران بهذه المدينة الثائرة تواً، لا يريدان التوقف أكثر من وقت بسيط لاستطلاع موقف قد يسأل عنه السيد في البصرة. يجلب انتباههما تجمهر ضباط برتبهم العسكرية ومراتب آخرين يحتفضون بأسلحتهم، يتحاورون حول طريقة تشكيل قيادة تجمعهم. يتفقون على ان يكون القدم العسكري معياراً لتراتبها. يختلفون قبل الشروع بتطبيقه سياقاً في التعامل مع الواقع. ينجحون فقط في توزيع اسلحة متنوعة تمت السيطرة عليها من مشاجب الوحدات التي تواجدت مقراتها في المعسكر المذكور، يجري التوزيع دون ضوابط ولا استثناءات، تبين لاحقاً ان بعض ممن استلم السلاح، هم ضباط أمن ومخابرات أنزلتهم ثلاث طائرات سمتية، انتزع الموافقة على تحليقها في أجواء العراق مفاوضو الخيمة العامرة في صفوان... ضباط أمن ومخابرات تغلغلوا مع الجمهور، صوروا ما يحلوا لهم من احداث، وشخوص مهمين، نادوا بولاية علي وبالحكم الجعفري، مثل أقرانهم في باقي المحافظات. ينتهي توزيع آخر بندقية لآخر مستلم لم يسال عن أصوله، فيترك كريم وصديقه الديوانية عائدين على نفس الطريق.
يقترح اللواء الركن عبد العظيم الذهاب الى مستودع الدروع، مع بعض المراتب المنتفضين، يؤكد على ضرورة فتحه وجلب الدبابات المخزنة من أجل اقحامها بالثورة الزاحفة صوب الحلة، ومن ثم الى بغداد بقيادته لان صنفه أصلا من الدروع. يتأخر في الوصول الى المخزن. يتبادل مع زملائه الاتهامات. يحدث أول انشقاق، يأخذ بسببه مجموعة بلا دبابات يتجه بها الى الحلة، يكرر مع زميل له ان المجموعة ستكبر وستجد الطريق سالكاً الى بغداد بعون الله.
يرأس العميد تحسين مجموعة أخرى، يتأمل معها الوصول سريعاً الى بغداد، يحل الليل على كلاهما قريباً من اسوار الحلة التي فتحت المظاهرات وأعمال العصيان المسلح ثغرات فيه، سهلت على ثوار الديوانية الحالمين بالوصول الى بغداد، الدخول الى صوبها الكبير. يحملون دون غيرهم شعار أقتحام بغداد عاصمة الحكم ومركزه القوي، لاثارة حماس المتوثبين للثأر.
- الصباح رباح، عبارة خاطب بها العميد جماعته الثوار، لتهدئتهم وتخفيف مشاعر الانفعال.
يبيتون ليلتهم في البساتين القريبة من حي نادر شمال الحلة.
يتسلل بعضهم الى داخل المدينة يقضي ليلته عند أقارب له أو أصدقاء. تَجمعَ المتفقون من جماعتي اللواء والعميد صباحاً بنفس المكان. حاولا تنسيق عملهما سوية، حصلوا على معلومات تؤكد القيام بمحاولات أنتفاض في أحياء نادر والمحاربين والجبل والقاضية، تسهل عليهم أتمام عملية الخرق المطلوبة في خطة التوجه الى بغداد.
الساعة العاشرة وقت مناسب لاتمام فعل الاختراق، واسقاط الرموز والمقرات. نجحت الجهود، بات الصوب الكبير تحت السيطرة التامة للمنتفضين من أهل بابل. حقق بعض الثوار العسكريين غايتهم في التسلل الى الصوب الصغير، نشروا اخبار السيطرة على الصوب الكبير أرعبت المسؤولين، سهلت لبعضهم تجاوز الحلة باتجاه المحاويل أملا في الوصول الى بغداد.
المحاويل التي ثار أهلها عصر نفس اليوم، اصطدموا بمنتسبي وحدات تتحشد في المعسكر المسمى باسم القضاء. يخرج من مكمنه رئيس عشيرة تقيم قريباً من الطريق الرئيسي الواصل الى الحلة، الشيخ ابن حميد، يقود أفراد من عشيرته، ورجال أمن نجوا من قتل طال زملاءهم أثناء أقتحام الثوار مديرية أمن بابل. يَنصبُ سيطرة على الطريق قبل المحاويل، يحصل على تعزيزات من قوات خاصة ارسلت له خصيصاً من بغداد. يوقف الزحف الذاهب الى بغداد، ينهي الحلم، يفتعل مذبحة، يقتل العشرات يدفنهم في حفرة أعدها خصيصاً على تل محاذي الى طريق الخاتونية، سجلت مقبرة جماعية، وسجل موقعها النقطة الاخيرة التي وصلها الثوار في جهدهم الساعي الى استهداف بغداد.
صدمةٌ تعيد الثوار الى الحلة، والسعي لاكمال السيطرة على الصوب الصغير، بانتظار اندلاع ثورة في بغداد، ستنطلق شرارتها حسب الاشاعات من بين الشاعرين بالحيف في مدينة الثورة والحرية والشعلة فجر الغد.
أهالي الحمزة جنوب الحلة ينهون السيطرة على الناحية بنفس اليوم، يتجهون الى مركز محافظتهم بصوبها الصغير، يقيمون السيطرات على الطريق السياحي، يصطدمون في أطراف المدينة، بمقاومة شديدة من قبل الحزبيين وقوات أمنية دعمت جهدهم الامني من بغداد، فالحلة هي خط الدفاع الاخير عن بغداد، جرى التركيز عليه. أستنفرت قوات الامن والاستخبارت، وبعض الوحدات العسكرية المتفرقة للحيلولة دون أختراقه.
تقدم العميد تحسين ومجموعته الى الجسر الجديد، يحاول عبوره بقصد الضغط على القوات الحكومية المدافعة عن مبنى المحافظة، يفشل في محاولته الاولى، يتوقف في مكانه ينتظر دعم المجموعات الاخرى التي تمر قريباً منه. لا فائدة من تقديم الدعم فالتنسيق بين المجموعات أصبح شبه معدوم، والاتصال بينهم غير موجود، ونتائج الموقف القتالي شطرَ المدينة الى شطرين، أحدها مع الانتفاضة والآخر مع الحكومة، ومازال الكر والفر سائداً كسلوك قتالي بين الجانبين.
ظهر الجزراوي نائب الرئيس في الصوب الصغير من الحلة حاملاً كل الصلاحيات، يجلس الى جانبه طالع الدوري المحافظ، يقودان المعركة معاً.
يصدر الجزراوي أوامره بحزم:
- الاسبقية الاولى منع أي عبور للغوغاء من الصوب الكبير الى الصغير، لابد من تركيز الجهد الامني الآن في هذا الجانب الذي نتواجد فيه. يجب جعله نقطة أنطلاق لنا الى الجانب الآخر.
يسأله المحافظ:
- وماذا نفعل بجهة الطريق السياحي، التي تفيد آخر التقارير، أن البعض من الغوغاء وصلوا منه الى القريب من محلة الوردية.
- المهم ايقافه بأي ثمن، ننتظر الليلة وصول تعزيزات وعدنا بها الرئيس حفظه الله ورعاه، سنستخدمها أولاً بهذا الاتجاه.
بغداد يلفها القلق من كل جانب، الرئيس وعلى غير عادته لا يظهر في وسائل الاعلام، اشاعات تنتشر حول اختفائه، بعضها مقصود لاغراض التمويه. يشكلُ مركزاً لقيادة العلمليات الخاصة بالانتفاضة، يوزع اعضاء قيادته القطرية على المناطق التي لم تسقط، بعد أن حدد مهاهمهم كقادة ميدانيين.
اشتباكات تحصل بين حماية الاذاعة في الصالحية من الحرس الجمهوري ومقاتلين منتفضين ساعين الى السيطرة عليها. نتيجتها عشرة شهداء من جانب المنتفضين، وعدد قليل غير معروف من العسكريين المدافعين.
البغداديون يتوقعون اندلاع الثورة بين لحظة واخرى، تنقل اليهم الاخبار من مدن بابل وديالى والنجف وكربلاء القريبة. مفارز أمن تشكلها الدولة، تأخذ أماكن لها في الشوارع الرئيسية تزداد اعدادها في مدينة الثورة، يقترب من أحداها الموجودة عند تقاطع علوة جميلة مجموعة شباب، تشتبك مع المفرزة، يتبرع صادق في اقتحامها بقنبلة يدوية، يتقدم منها، يؤكد انه رفيق حزبي جريح، يمثل مشي الجريح، يلقي القنبلة اليدوية وسط المفرزة، يسدد أحد منتسبيها إطلاقة الى صدره العاري، ترديه قتيلاً بنفس الوقت الذي جاء انفجار القنبلة بباقي افراد المفرزة.
خمسة شباب من أهالي مدينة الثورة، يجوبون على معارفهم من الضباط والمسؤولين الساكنين في حي جميلة وفلسطين والوزيرية يؤكدون ضرورة مغادرتهم البيوت هذه الليلة، ليلة الخامس على السادس من آذار، شرارة الثورة ستنطلق فجراً بعد الصلاة، وسيزحف المنتفضون من هذه المدينة الى وسط بغداد أفواجاً لا يمكن إيقافها. يتسرب الخبر الى الحكومة التي تحشد كل جهدها بعمل مداهمات. تغلق الجوامع. تقيم الكمائن على الطريق المؤدية الى المدينة الساعية الى الانتفاض. تضع أهلها الذين تظاهروا عدة مرات داخل اسوار من السجن المحروس ببنادق لا ينقصها العتاد.
................

كاكة حمه، البيشمركة المعروف بحنكته وشجاعته، يتقاعد ثورياً قبل أوانه، يعزل نفسه مع عائلة متواضعة كوّنها متأخرا عن أقرانه لعقدين من الزمان، لشغفه بالقتال واعتقاده الراسخ انه السبيل الوحيد لاجبار الحاكم على ارساء قواعد العدالة والمساواة لقومه الاكراد. شقةٌ وسط السليمانية، المدينة التي يحتضنها جبل أزمر من الشرق، يدفع نصف ثمنها مقدماً، من حصته في بيت العائلة الذي باعه الورثة في قريته سركلو، ويبقى النصف الآخر اقساطاً شهرية مريحة، يسددها من راتبه كسائق في شركة مقاولات محلية. تصغره الزوجة، عشرين عاماً، هي الباقي في الحياة، ومولود يتأملان مجيئه بعد شهرين، سيغير لهم وقع الحياة. ينهض من نومه مبكراً على غير العادة، يحس وكأنه مخنوق من داخله. يصعد سطح العمارة المطلة على أحياء المدينة القديمة لشم الهواء، يحس لسعة برد ذكرته بليال قضاها مع بندقيته البرنو وسط ثلوج طالما غطت جبال أزمر وكويزة وبيرة مكرون، تلك التي اتخذها قواعد له ايام الكفاح. يستذكر لحظات القتال الحرجة في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، يمد بصره الى أمام، يختلس نظرة سريعة الى مقر الأمن القريب أنعشت في داخله شيئا فشيئا شهوة القتال، يستعيد بذاكرته الجبلية لقطات بقيت محفورة في الذاكرة البعيدة لمنتسبي الجيش الشعبي عن قريته قبل ربع قرن من الآن، وعن صور كانت له يحملونها كمطلوب خطير لمنظومة استخبارات المنطقة الشمالية، يعرضون الف دينار جائزة لمن يساعد في اتمام عملية القبض. يُتعبهُ التأمل وقوفاً، يجلس على بقايا كرسي دُعمت إحدى أرجله بكومة طابوق اسمنتي، يتخيل ما حدث في الجنوب، يستشعر بحدسه الثوري لزام حصوله هذا الصباح في مدينته المعروفة بتمردها على الحاكم منذ التأسيس الاول لدولة العراق، بعد أن شاهد عصر أمس تجمعات الشباب تناقش في السياسة، وتظاهرة انطلقت من سوق القيصرية ترفع شعارات بالضد من الحزب الحاكم، يكلم نفسه بصوت مسموع:
- لابد ان نبدأ، حل الوقت المناسب. كان علينا أن نبدأ قبل غيرنا. لماذا تأخرنا الى هذا الوقت؟.
ينتبه الى حاله، يخشى من أن يسمعه أحد فيتهمه بالجنون، يعود الى شقته مدفوعا بقوة تمرد في داخله كانت تسايره أيام الشباب، يخلع حافة سريره الخشبي العتيق، يخرج بندقية البرنو رفيقة عمره الطويل.
تكلمه زوجته الشابة:
- الى أين أنت ذاهب؟.
يجيبها:
- هنا في القريب لدي مشوار وسأعود في الحال.
- حمة هل ستعود الى الجبل وتتركني وحيدة هنا؟. من لي ولولدك الذي في بطني غيرك.
- قلت سأعود، أرجعي الى الفراش، ولا تقلقي.
السليمانية في الايام الاولى للربيع تتنفس أرضها أزهاراً برية، تزحف زاهية باتجاه الجبال لتزيح بقايا ثلوج متروكة على قممها الجرداء، تزيد من برودة الهواء القادم من جهة الشرق. الناس في شوارع المدينة يسيرون بعدة اتجاهات، هكذا هم بداية ساعات الدوام الرسمي، منظر البرنو على كتف كاكا حمه العريض يثير التحدي، يجلب من حوله رجال من كل الاعمار، أغلبهم شباب في مقتبل العمر، لا يعلمون وجهة شيخهم الوقور، يتبعونه بحكم الرغبة في الاطلاع، وربما لدعمه في حال قيامه بفعل يتنبأ البعض أحتمالات القيام به. يصلون قريباً من نقطة حراسة وضعت من يومين في بوابة النادي العسكري، يطلق اول اطلاقة، شعر بها الحارس تمس خوذته الحديدية، يصوب الثانية الى عمود قريب من النقطة، يحدث تنططها على العمود صوت أزيز مخيف. يترك الحراس مكانهم، ينسحبون الى مهجعهم، يدخل حمه والجمهور السائر معه الى الداخل، يخرجون الجنود أسرى حرب، قائدها محارب عاد من تقاعده طوعا.
ينادى على الشباب:
- لا تؤذوا الجنود، انهم أسرى لاذنب لهم، يمكن مبادلتهم باكراد مسجونين عند صدام حسين.
صوت الهرج واطلاقات البنادق، ومنظر الاسرى الخارجين الى الشارع العام، والهتاف بسقوط الرئيس يغري آخرون، يدخلون الحلبة مسرعين، بينهم مسلحون قدموا من البيوت القريبة.
يزداد عدد البنادق المحمولة عدة أضعاف، يجد كاكة حمه نفسه سائراً في مقدمة موكب هو قائده بالفطرة، يتخيل نفسه قد عاد الى الجبل كآمر مجموعة قتال، وجهه يتهلل عن بشر صادق، في نظرته لذة تمتع ورضا لا ترى الا في عيني منتصر، وعلى شفتيه ابتسامة القائد الواثق بالنصر المحتوم.
يمر الوقت سريعاً، تجمعات تظهر في مناطق متفرقة من المدينة، تظاهرة تخرج باتجاه المحافظة، مسلحون نزلوا من مخابئهم الجبلية، وصلوا تواً بمهام محددة تركزت على مهاجمة المقرات الامنية والعسكرية داخل المدينة، تشرع بالتنفيذ بعد اطلاقات حمة التي انهت ذاك السكون المشوب بالقلق الشديد.
جنود السيطرات العسكرية، وحراس المقرات ينسحبون من أماكنهم دون قتال. يأخذ كاكة حمه دوره كما يراه مناسباً في ساحة القتال، يتصل بالمجموعات الاخرى، يُعرف عن نفسه، يتذكره البعض، فيشدون على ساعده آمراً لمجموعة مثل أيام زمان. يشير عليه قائداً حزبياً يحتل موقعاً بين الآخرين، بضرورة التوجه الى الامن العامة، فهي أعلى قائمة الاهداف.
ينادي في الجمهور:
- من يريد الحرية لكردستان فليتبعني الى معاقل الظلم، يلتفت خلفه، يدرك ان ما يزيد عن عشرين مسلحاً حسموا أمرهم، وساروا خلفه قائداً أطمئنوا له في ساعة من الزمان، يسمع أصواتهم تنادي:
- نحن معاك أينما تذهب.
يشتبك مع حراس المديرية، يمسك مكبرة صوت كان قد أحضرها مسلح منظم في حزب سياسي يتكلم بلغة عربية فيها لكنة كردية واضحة:
- سلموا أنفسكم وسنضمن سلامتكم، لم نأتِ لقتلكم، نريد منكم أن ترحلوا عنا وتتركونا نعيش الحرية بسلام.
يتلقى الاجابة رشقة من رشاش يتمركز صاحبه في أعلى البناية تدفعه لانهاء الحوار. الموجودون في الداخل، يفهمون جيداً أنهم مطلوبون، وان الاكراد يكرهونهم كرها يحتم نهايتهم قتلاً بأي حال من الاحول.
أصدر مديرهم أوامره بعدم الاستسلام والاستمرار بالقتال، قائلاً:
- لا تصدقوا ما يقال في الخارج، نحن المطلوبون، اذا ما مسكونا لن يتعاملوا معنا أسرى بل سبايا، سيمثلون بجثثنا، دعونا نصمد، سوف لن يتركنا الرئيس محصورين، ثقوا سوف يرسل من يدعمنا في القريب، المهم أن نصمد في قتالنا أطول وقت ممكن، وسيأتي الدعم ان شاء الله.
يكلمه أحد المنتسبين بقدر من الارتباك:
- سيدي، أربعة مسلحين ألتفوا علينا من خلف البناية، أثناء بث الصوت من السماعة. يجيبه:
- أصعد أنت مع حامل الرشاشة الى السطح. اقتلوهم فوراً. أنتبهوا الى كل الجهات. ضع في حسابك أن النجدة ستأتي حتماً.
يبدأ الرمي شديداً من كلا الطرفين المتقابلين، يستمر الى ما بعد الظهر، ينفذ صبر كاكا حمه على غير عادة التروي التي أكتسبها في قتال الجبال، يطلب مساندته ليتقرب من السياج على أمل مفاجأة الحراس برمانة يدوية وفرها له مقاتلو الحزب الملتحقون بمجموعته لاغراض التدعيم. يصل المكان الذي وضعه في مخيلته مناسباً لقذفها، يتلقى رشقة رشاش، مزقت أحشاءه، سقط على اثرها، قبل ازالة مسمار الامان.
تعالى صياح الشباب:
- انقذوا حمه.
يتقدم رؤوف بلا سلاح، لعدم أحتفاظه بسلاح في البيت مخالفاً التقاليد الكردية لتلك الايام. يصله جسداً توقفت حركته تماماً وسط بقعة دم مازالت تتسع من شدة النزف. يأخذ الرمانة اليدوية من اصابع تطبق عليها بقوة التحكم اللا ارادي للاعصاب، يتقرب من السياج، بحماية زملاء فتحوا نار بنادقهم باتجاه واحد، ينجح في رميها، يفتح عصفها القوي الباب ويقتل الحارسين الموجودين خلفها. يستمر القتال بين رجال أمن عارفين مصيرهم، يقاتلون بشراسة، مقتنعين بفقدان الامل بالنجاة، وبين ثوار منتفضين، مقتنعين بحتمية النجاح، وتحقيق اهدافهم في اسقاط سلطة الامن التي تمثل روح النظام.
تعجز المجموعة التي خسرت قائدها وثلاثة رجال آخرين، من دخول المبنى الذي تشاهد في غرفه حرائق للوثائق والمستندات.
ينتشر الخبر الخاص بمقاومة رجال الامن في المدينة، تصل النجدات من المسلحين المنظمين، تشترك في القتال، تطلق اربعة قذائف صاروخية على المبنى من الجهات الأربعة، يخف الرمي من الداخل، في الوقت الذي يزيد اضعافاً من الخارج. يقترب الوقت من المغيب، تحترق البناية، يتصاعد الدخان من شبابيك اقتلعت من اماكنها.
آثار الرصاص تغطي الحيطان، رائحة اللحم الآدمي المشوي يمكن شمها من بعيد، لم يبق شيء يمكن تسميته مقراً أو دائرة أمن.
ينتهي الرمي، يصعب دخول البناية، يحسبها المنتفضون، مديرية أمن سقطت، وأنتهت بسقوطها السلطة. يعلن عن هذا الحدث في أرجاء المدينة وبوسائل اعلام تترقبه كل الوقت، مع اعتراف بأن من فيها قاتل بقوة وأصرار.
مدينة اربيل العاصمة الصيفية للعراق تسير بنفس الاتجاه، مسلحون يأتون من جهة شقلاوة وصلاح الدين، يدخلون أحياء المدينة الشمالية، وآخرين يشتبكون مع قوات عسكرية قريباً من القلعة.... أشتباك تزداد حدته زحفاً باتجاه وسطها والسوق القديم. القوات الامنية تقاتل طوال اليوم بقدراتها الذاتية.
الجمهور الكردي الاربيلي ينزل الى الشوارع في اليوم التالي، مطالباً اسقاط النظام، مسلحو البيشمركة يطوقون المدينة من كل الجهات، والمفارز العسكرية التي في داخلها تنعزل تماماً عن مقراتها في الخارج، لا مجال للاستمرار بالقتال، تستسلم الواحدة تلو الاخرى، وكذلك بعض المقرات العسكرية، في الوقت الذي تقاتل فيه قسم من الوحدات بكفاءة غير معهودة. يحاول مسلحون اقتحام اسيجتها، ينجح بعضهم، وبعضهم الآخر يترقب انسحابها باتجاه كركوك. ينزل القائد الكردي كاكا محمود الى المدينة، يتجول في شوارعها، يقف عند الشواهد الباقية للمقرات العسكرية والامنية، يصدر اوامره بالسماح للجنود والضباط المأسورين بمغادرة المدينة دون سلاح، رسالة الى الحكومة المركزية في بغداد، أراد ان يكون توقيتها مناسباً لصب المزيد من الضغوط النفسية على كاهلها المضطرب. يعلن بنفسه أنتهاء سلطة الحزب الحاكم فيها ثاني محافظة كردية، تتبعها دهوك، لتكون المحافظات الكردية الثلاث خارج سيطرة الدولة المركزية بشكل كامل.

للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/48697-2021-04-18-07-33-40.html

   

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

688 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع