تلك هي - رواية للدكتور سعد العبيدي / الجزء الثاني و العشرون
ليلة نجفية
ليل النجف فيه نسيم مشبع بلسعات برد يتلذذها الماشي بين الشوارع قريباً من وادي السلام. في سمائها قطع سحاب متفرقة، خجلى من عدم القدرة على الإمطار، يستغلها كريم وسالم للدخول الى البلدة سالمين والتسلل الى عنوان أعطيَّ لهم من قبل السيد، يكون في محلة الرباط، ويستغلها المحافظ من جانبه في تجوال حذر بين المراكز والنقاط. يحاول شد الازر ورفع المعنويات. يكرر مقولة رئيسه (فجروا الفقاعة قبل ان تكبر). يخولهم جميعاً بتفجيرها رمياً على أي هدف يثير الشكوك، لكنه وفي طريق عودته الى مقره فجراً هبطت معنوياته وسرحَ ذهنه في أفكار شؤم عديدة، فتكلم مع مدير مكتبه، كمن يأس من أحتمالات الاستمرار:
- عسى أن تأتي العواقب سليمة.
- ستأتي سليمة، سيدي المحافظ.
- من أين، وغالبية الجنوب أصبح بيد الغوغاء.
- سيدي النجف تختلف عن باقي مدن الجنوب، أنا نجفي وأعرفها جيداً، انهم يحبون السيد الرئيس، يضحون من أجله بكل غال ورخيص.
تمتم المحافظ مع نفسه، وترك مدير مكتبه داخلاً غرفته التي بات يكرهها، غير مقتنع بما قاله هذا المدير، متيقناً أن ما يقال مداهنة، خدرته وكثير من البعثيين الكبار طوال السنين التي مضت من حكمٍ لم يشهد استقراراً.
المعسكر الوحيد في النجف لاغراض التدريب، تصله تعزيزات لا تكفي لسد النقص في نقاط الحراسة التي اقيمت من حوله، وفي اعداد الدوريات المطلوب اخراجها راجلة لدعم الجيش الشعبي.
لا تعول القيادة على عسكرها هذه الايام، وعيونها المنتشرة بين الجمهور ترصد تعاطف غير مسبوق لمحبطي حرب زجوا فيها خطأ، ملأت نتائجها المخجلة نفوسهم بعدوانية، يفتشون عن مخرج لها باتجاه الدولة، مع جمهور يعتقد أبناؤه انهم يعيشون في دولة يرأسها عدو يشعرهم بالشماتة على الدوام.
يدفع الشك المسؤولون بوضع قاعدة للجيش الشعبي قريباً من المعسكر.
ترصد المنتسبين.
تجهض نوايا المشاركة في الانتفاضة اذا ما جاءت من داخله.
يرحب الحاج حمزة صاحب العنوان الذي قصده كريم بضيفيّه قائلاً:
- من المستحيل ايصال الرسالة الى المقصود شخصياً، في هذا الوقت العصيب، لأنه مراقب بشدة من أجهزة الدولة التي تعتقل، بل وتقتل اي شخص يقترب من بيته، وان كان قريب النسب.
- مع هذا، لا خيار سوى الانتظار يوم غد عسى أن يتهيأ حل مناسب، سأجهز لكم مكان المبيت في داري هذا، لا يمكنكم الخروج والتجوال في المدينة المليئة برجال الامن والمخابرات، حتى ان قسماً منهم يقومون بايقاف المارة يسألون أي سؤال، يعرفون من لهجة الاجابة، أن المعني ليس نجفياً، عندها لن تخلصوا منهم.
يمتلئ الشارع النجفي في الصباح بالقادمين من خارج المدينة، من اقضيتها ونواحيها، وآخرين من محافظات سيطر فيها المنتفضون، على الرغم من التشديد في السيطرات المنصوبة على مداخل المدينة.
تشل الزحمة، القدرة على الضبط والسيطرة.
تحركات غير عادية.
شباب يُنَظمون انفسهم في مجاميع.
سيارت مليئة بالمساعدات، تفرق اكياس من الرز والطحين، ومعها بنادق وعتاد، لا أحد يسأل عن مصدرها.
اشاعات يتناقلها الشباب بان الكوفة باتت بيد المنتفضين، وكذلك المشخاب والعباسية، تلهب الحماس.
حشود جماهيرية تنطلق من ثلاث محاور، يدخلها كريم وسالم وصاحبهما الحاج حمزة، يشغلهم حماسها عن التفكير بوسيلة مناسبة لايصال الرسالة وتلقي الجواب.
تلتقي الحشود في مركز المدينة، تتجه الى الحضرة العلوية، تدخل بالالاف يكتض المكان حتى لم يعد يتسع لأحد في وضع الوقوف.
تُغلق ابواب الحضرة على آلاف الموجودين داخلها، يلف شباب بين الجمهور القلق، يشيعون دخول الثوار أحياء المدينة، وهروب البعثيين إلى خارجها، تتعالى أصوات التكبير.
يتدافع المواطنون في سعيهم للخروج، يتكدسون قرب الابواب التي فتحت فجأة من جهة مجهولة، يندفعون بحماس المشاركة مع الثوار الداخلين، وبدوافع التجنب القوي لزحمة وجود توحي بالاختناق.
يدوس البعض على أصحابهم وذويهم في تدافع غير مسبوق.
يراقب كريم شاب دخل غرفة المؤذن متحمساً، يسحب الحاكية، يبدأ التكبير، يعلن انطلاق الثورة الشعبية على الطغيان.
يقف الحاج حمزة على حافة ايوان غرفة مخصصة لأحد العلماء الدارسين، فيقول:
- وصل الثوار، هرب المحافظ.
يتعالى الرمي في مناطق متعددة من المدينة.
يسحق الجمهور المنجرف موجات بحر هادر، نقطة السيطرة القريبة من باب الطوسي. يستولي الشباب على سلاح أفرادها.
يهجم خمسة ثوار مسلحين على مركز الشرطة القريب من محلة الاسكان، يطردون المنتسبين، يرفعون علماً أخضر.
تقف في الشارع الموازي للحضرة سيارة حمل بلا ارقام، تُفرغ حمولتها من البنادق والرشاشات، توزعها بالمجان لمن يريد حملها، ثائراً أو منتقماً، لا فرق بينهما مادامت الغاية اسقاط النظام.
يبدأ الزحف من المركز الى الاطراف، يسقط في طريقه مقرات حزبية، وقواعد جيش شعبي. ينتهي اليوم الاول، مئات القتلى من الطرفين، جثثهم في أماكن سقوطها، لا يمكن أخلاؤها، كل طرف يمنع بالقوة أخلاء جثث عدوه في ساحة القتال التي يؤثر فيها.
يصطحب الحاج حمزة المتنفذ بمدينة النجف، ضيفيه بعد انطلاق الشرارة الى آخرين مؤثرين يعرفهم عن قرب، يتبادل واياهم الرأي بشأن الرسالة والجواب، يؤكدون استحالة اجراء المقابلة المباشرة هذا اليوم أيضا.
تتسع رقعة القتال، مؤشرات التحرير أصبحت واضحة المعالم.
انتهى يوم وتلاه آخر، يترك فيه عضو القيادة القطرية المدينة باتجاه الحلة، يتبعه المحافظ قبل سقوط مقره بلحظات.
تفتح السجون أبوابها بقوة السلاح، يطلق سراح نزلائها جميعاً دون استثناء.
تحرق دوائر الجنسية، والتسجيل العقاري دون أستثناء.
تعلن النجف مدينة محررة.
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/47741-2021-02-02-11-02-37.html
716 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع