تلك هي - رواية للدكتور سعد العبيدي / الجزء عشرون
نصف الجواب الثاني
أربعة ايام هي الحد الاعلى لتحمل فراق حبيب أنقطعت أخباره وسط تزاحم الاحداث. الهدوء مع انقطاع الرمي المتواصل، تساعد جميعها على خلق أجواء مناسبة للاسترسال بالافكار، تنقله بعيدا الى البصرة التي يسكنها الحبيب، الى سؤال بقيَّ على حافة ذاكرته القريبة:
- هل أمل الغاطة بحزنها وكربها تبادله نفس الشعور؟.
التحجج، والتبرير خاصية من خصائص المحبين، وسالم الراقد على السرير القريب فاتحاً عيناه السوداوان، مشغول بفكرة الهجرة والعيش في بلاد بعيدة، يختار فيها حبيبته بالطريقة ذاتها التي يختار فيها الاوربيون. يقطع كريم سلسلة أفكاره، يسأله فيما اذا حل أوان الاطمئنان على الأهل في البصرة؟.
يؤكد في اجابته بقوة الراغب في الحصول على الاجابة التي يريد:
- إن الاحداث ستجعلهم قلقين، من المؤكد أنهم قلقون، كلنا قلقون، انا وانت وهم أيضا قلقون. الزيارة أصبحت واجبة، والاطمئنان، كذلك واجب. لم يدع مجالاً لسالم في أبداء الرأي. يتكلم كالمحموم. نهض من سريره، يتمتم مع نفسه:
- لابد لنا من الذهاب.
الطرق الرئيسية والفرعية الى البصرة، خالية من العسكر، نقاط السيطرة لا تفزع المارة بعد ان سيطر على بعضها المنتفضون، واستحوذ على طابوق بعضها الحالمون بتشييد غرف تستر خلواتهم جنب الغرفة الوحيدة للعائلة في أحياء الفقراء التي أنتشرت في مدن الجنوب الغنية بانتاج النفط.
التوجه اليها بسيارة العائلة هي الخطوة الصائبة قبل الظهر، لتفادي المفاجئات وتقليل صرف الوقود، الذي أصبح مشكلة ليست سهلة في جميع أنحاء العراق البلد الذي يطفو على بحيرة نفط كما يقال.
محلة الجمهورية، المحطة الاولى لوقفة سير متواصل دام ثلاث ساعات، يفترق الصديقان باتفاق صامت على لقاء في بيت سالم لاحقاً للسلام على الاهل، وقضاء ما تبقى من الليل، وقبل أن يفترقا فعلياً أكد كريم بالقول:
- الاول أطمئن على بيت الخالة رضية، وبعدها نلتقي عندكم في البيت، علنا نخرج الى مكان نسهر فيه.
يجيبه سالم:
- أنا بأنتظارك بعد أن تطمئن، وتشبع من الأطمئنان الذي لن تشبع منه أبدا.
- ماذا تقول.
- اني أتكلم عن مشاعرك التي لم تستطيع البوح بها حتى الآن.
- الكلام في هذه الامور في الوقت الراهن غير مناسب. دعنا من المشاعر، وسنلتقي عند المساء.
- الله معك. وأنا ايضا معك والى جانبك.
حقيقة الأمر، والدافع الرئيسي في هذا المشوار المفاجئ، هو الحصول على أجابة محددة لسؤال راوده منذ أن ترك البصرة قبل أيام، وما زال يراوده حتى في المنام:
- هل تبادلني نفس الشعور؟. لا يمكنني الاقتناع بأية أجابة، سوى منها شخصياً.
القلب يخفق عند أول طرق خفيف على الباب، يتردد في تكراره خجلاً، أو خشية من افتضاح نيته في التفتيش عن إجابة عملية للسؤال، في ظروف يقتنع تماماً أنها غير مواتية، يتمنى أن تكون أمل هي من يفتح الباب، ليكون الموقف مناسباً لتقدير الاجابة على السؤال. ألم تكن هي من جلبته الى البصرة تاركاً الأهل في ظروف غير طبيعية؟. العدل يلزم ان تكون هي من يفتح الباب. يعيد الطرق ثانية بوقع أشد، يجد الاعذار في داخله جاهزة، لان يكررها:
- علهم لم يسمعوا الطرق.
تخرجُ الحاجة، تستند على عصا هذه المرة، كأنها شاخت في الايام الاربعة، خمسون عاماً أخرى، يتفاجأ وكأنه لم يتوقع.
يسأل قبل ان يلقي السلام:
- خالتي، هل أمل بخير؟. يستدرك تهوره. كان عليه ان يسأل على ام وليد أولا، ألم يكن هو من عاهدها ان يبقى لها ابنا بارا؟. يدنو منها، يُقبلها من رأسها، يعدل سؤاله. خالتي هل انتم بخير؟.
الايام الاربعة كانت صعبة، ألتفاف بالحزن يحرق قلب الام. لاخروج خلالها، ولا خبز في التنور، كأن العالم قد تغير فجأة، وكأن سكنة البيت من أهل القبور، يزارون من كل الامكنة، يسأل الزوار من المعارف والاغراب عن سر العجوز التي أشعلت الفتيلة بمحراث تنور متهاوي. كأنهم يفتشون عن سبب مجهول، وكأن أهل البيت يفتشون بنفس المحراث في أكوام قش عن مستقبل مجهول.
تجيبه:
- أمل يا حسرتي لم تكف عن البكاء، كان اخوها عزيزاً، وكان سندها في هذه الدنيا. في داخلها توجس من الغد، بقيت تسأل عنك طوال الاربعة أيام، مثلما كانت تسأل عن وليد. يهرب منها بعيداً في التفكير أو يهرب من نفسه خشية أن يقع في مطب آخر يفضح مشاعره في وقت غير مناسب، فيقتنع بأن الخالة قد اجابت على نصف السؤال. ويتنبه الى استمرارها بالكلام.
- لا مفر من القدر المكتوب ياولدي، الاستسلام له ولأمر الله شيء مطلوب. يرد عليها بخشوع:
- الحمد لله، كل الحمد أنكم بخير، لو تعرفين ماذا جرى بالناصرية، لرفعت رأسك الى السماء وحمدت الله ألف مرة.
تجيبه:
- هل ما جرى في البصرة قليل؟.
الكراسي في أمكنتها، وكذلك الطاولات التي أعدت للعزاء، كأنه قد استمر خلافاً لقرار الحاجة باقتصاره على يوم واحد. العادات تلزمها الاستمرار وان لم ترِد.
يجلس على كرسي بمواجهة الغرفة التي تقيم فيها أمل، يتعمد الحديث بصوت عال عن الالتزام بالتقاليد التي لا مفر من الالتزام بها، كأنه يريد ان يُسمعها صوته، عسى ان تخرج، فيجيب وجهها على النصف الثاني من السؤال، أجابة تبرر حضوره من الناصرية الى البصرة في هذا الوقت العصيب. يدخل في دوامة التفكير، يحاول ان يعطي انطباع السامع المتلهف لحديث الحاجة المتواصل، وفكرة تتكرر في مخيلته قسراً عن ذلك السؤال.
لم تنته الدقيقة، وقد خرجت أخيراً من غرفتها، موشحة بالسواد، عيناها غائمتين بالدمع الذي لا تنقطع مجاريه. تمشي في صمت تُسمع من خلاله دقات قلبها على بعد أمتار من المكان. يلوح الترقب على وجهها، كانت في ثياب سوداء تزيد من لمعان عينيها السوداوين. يهرب من نفسه مرة أخرى، كمن يدخل في غيبوبة، يفيق على حوار له مع ذاته الغائبة:
- كيف لي أن فارقتها وهي في هذه المحنة أربعة أيام؟.
يلاحظ التوتر في وقع خطواتها، وعلى خصلات شعر أسود تدلت على جبهتها دون أنتظام. قام من مكانه، خفضت نظرها الى بقعة الارض القريبة من قدميه، ألقت بسلام فيه لمحة حياء، وصوت تغمره نسمة حب غير مفضوحة، عندها بدأت في نفسه لحظات سحرية لا حد لحلاوة مذاقها. جلست جنب امها، تحاول سرقة نظرة دون اثارة الانتباه، فكانت نبرات صوتها المرتعشة، واحمرار وجهها الممزوج بالسمرة البصرية، إجابة مطمئنة لسؤال القادم متعباً هذا النهار.
المساء في نهايات شتاء البصرة وبداية الربيع، لا يتأخر حلوله، كأن الساعات التي سبقته، لحظات انتهت بطعم خاص، يريد التغاضي عن موعده، وتأخير مغادرته للقاء سالم. الامر أقرب الى المستحيل كيف يبقى في هذا البيت، وهو الغريب؟. يحاول ان يضع أعذارا من عنده، فيجدها حمقاء يخجل منها. يستأذن الخروج بالقول:
- لدي موعد مع سالم، لابد لي من السلام على أهله.
الحاجة في داخلها رغبة في أن يبقى، قد تكون تناغماً مع رغبة أحستها في نفس ابنتها المكسورة، أو سعي لا ارادي لأمراة شرقية، تجد في الاتكاء على سند رجولي مسألة مهمة لها ولابنتها في دنيا خلت من الرجال:
- كيف تخرج في هذا الوقت. الدنيا تغيرت، لا توجد فنادق، ولا اماكن للمبيت، أبقِ معنا وانت مثل ابننا. الرد عنده على طرف اللسان:
- المبيت هذه الليلة مع سالم، ابن الحاج مجيد، الذي رافقني الى الناصرية، عاش مع العائلة أربعة أيام، كأخ بكل معنى الكلمة. لابد أن أرد له جزءً من الدين الذي عليّ. التفاتة أمل لاطالة البقاء بحجة العشاء، يجدها مناسبة لاضافة ساعة أخرى تنعش في داخله الأمل بمزيد من الاقتراب. ينكث عهد العشاء مع سالم، عارف بطبيعته السمحاء. الليل يمتد طويلا، يكفي أن يقص فيه كل التفاصيل الى سالم الذي سيسامحه على نكث وعد العشاء والتأخير.
العشاء اشبه بالجاهز، حيث الطبخ اليومي لعشاء على روح المرحوم وليد طيلة الايام التي أنقضت، عادة التزمت بها الحاجة على الرغم من عسر الحال. أمل تبطئ من جانبها التهيئة والنقل، وكأنها تريد منه البقاء لاطول فترة ممكنة، فليل البصرة موحش هذه الايام.
لقد فهم الرسالة، شعر بنشوة لم يشعرها من قبل على الرغم من أجواء الحزن التي يعيشها مشاركة معها أحلى وأعز حبيبة.
يطرق سالم الباب مخاطباً:
- لقد تأخر الوقت، والموعد قد أنتهى من ساعتين.
تجيبه الحاجة، وكأنها متوقعة قدومه في أي وقت:
- أدخل أبني سالم. تعال أشرب الشاي معنا.
لقد وجدت الحاجة بمشاركة سالم في شرب الشاي، مخرجاً مريحاً لوجود كريم في البيت بهذه الساعة.
العشار في هذه البصرة الموصوفة بجمالها يصبح خربة. الأزبال في كل مكان. المقاهي المعهودة على شط العرب تقفل أبوابها، يسكن بعضها مسلحون. محال الشرب كذلك تغلق أبوابها، يغادرها الرواد المنعمون والادباء والفنانون والسواح القادمون من باقي مدن العراق والبحارة المارون بالميناء، والمترددون اليها من الجارة الكويت. فندق شيراتون الشهير، تعرض لضرر كبير جراء القصف، أكمل على باقي أثاثه النهابة المتربصون.
يسأل:
- أين يمكن قضاء الليل؟. لا فائدة من قضائه خارج البيت، لان الرمي المتقطع مازال موجوداً يبدد عتمة الهدوء، واذا ما دخلنا للسلام على الاهل سوف لا نستطيع الخروج قبل ساعات.
يكمل سالم حديثه:
- الوالد قبل قليل أكد أن جماعات من خار ج البصرة تدخلها بقصد الثأر لم تخرج منها بعد، وأطراف سياسية معارضة للنظام، تحاول تنظيم ادارة مدنية، تفشل لضعف الامكانيات، وسعة الخلافات بين المسلحين المسيطرين على المقرات.
- لقد ضاعت البصرة يا أخي كما ضاعت الناصرية.
- مع هذا فالحرية التي حصلنا عليها حتى الآن متعة، تشعرنا جميعاً بالارتياح، نتكلم بلا حساب، نشتم بلا حساب، كل شيء مسموح، لا أحد يفكر في الغد ولا بالمكتوب، ولا بأي حساب.
يسأله كريم:
- وما أخبار الشباب هنا.
يجيبه سالم:
- انهم مثل أقرانهم في الناصرية، يفكرون بالذهاب الى القوات الامريكية المتواجدة في صفوان، سعياً الى الهجرة، أعدادهم بدأت بالازدياد، كما يقول أخي سلمان.
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/46532-2020-10-27-11-27-12.html
704 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع