تلك هي - رواية للدكتور سعد العبيدي / الجزء التاسع عشر
مشروع هجرة
للجامع رواده، ومقاتلوه، يصلّون على الشهيد، يشيعونه، يستأجرون سيارة توصله الى النجف الاشرف ليدفن هناك مع الاباء والاجداد شهيداً. يحس الصديقان الغربة وسط الجمع الذي ودع جثمان الشهيد، فيستأذنان العودة الى البيت، بعد أن ألغيَّ الهجوم اثر اكتشاف النوايا.
الشمس دخلت محاقها فتبدو قريبة من الارض. الطريق الى البيت يـأخذ وقتا أكثر من اللازم، زاد خلاله اللوم والانتقاد والتفكير بتحليل الوالد وتشخيصه المتشائم هذا الصباح. تأييد كامل دفعهم الى الاستعجال بالعودة، كأنهم يريدون التشكي امامه وسماع المزيد من التحليل، عله يخفف بعض مشاعر الانفعال السوداوي المؤلم.
أفكار مثيرة تملأ عقول الجمهور الناصري، أبو كريم وعائلته ينتظرون. الصديقان يعودان بمرارة اخفاق احساها أول مرة في حياة ثورية بانت وكأنها عقد من الزمان.
يحسمان الموقف بلسان كريم حال دخولهما البيت:
- ما قلته صباحا صحيح، كله صحيح، لقد احسسنا في طريق عودتنا الى البيت كأننا لعبنا الورقة الأخيرة، في توجهنا للمشاركة بالهجوم الفاشل على مواضع الفرقة، تحت قيادة مقاتل خبر شجاعة الهور، دون معرفة فنية بقتال العسكر النظامي على مواضع دفاعية. كدنا نخسر حياتنا بمجازفة غير محسوبة، واصرار غير مبرر.
يستمع الوالد بامعان، تَعودَ ان يسمع دون مقاطعة، يعيد الرأي المتشائم ذاته، يحذر من الانسياق وراء العواطف في مثل هذه الظروف الصعبة، كـأنه يقرأ الموقف كتابا مقررا، قد دَرسَّهُ عندما كان معلما أيام زمان.
الاستراحة مهمة بعد هذا العناء البدني والنفسي. وجبة العشاء جاهزة، يتناولونها سوية مع العائلة. الغرفة العلوية المعزولة، مناسبة لخلوة يعيدون فيها الحسابات.
يوم آخر في الناصرية، خال من حمل البندقية، دوافعه الاستكشاف والنظر الى الواقع من زاوية المشاهد الأقرب الى الحياد، بدلا من الثائر المشارك في الاحداث. تجوال بين جموع المسلحين الذين تكاثروا بالانشطار، والقدوم المكثف من العشائر القريبة، وثوار من وسط الاهوار، وبين مظاهرات توسعت مطالبها بالقصاص من أعضاء الحزب والاجهزة الامنية.
سيارت تجوب الشوارع، تقصد بيوت الحزبيين المسجلة عناوينها في عقول المضطهدين، تجمعُ من لم تسعفه أصوله العشائرية للاختباء دخيلا بين ابناء العمومة.
محاولات لتنصيب محافظ جديد بعد الاستشعار بفراغ اداري، تفشل في حمى تنافس شديد بين مجاميع مسلحة، تنتقل معالمه الى العشائر الكبرى التي تسعى الواحدة منها، ان يكون المحافظ من بين ابنائها.
تنظيمات سياسية وطنية تظهر على الساحة، لا تقوى على الصمود في دائرة المنافسة مع عشائر تمرست باستخدام السلاح والجاه وحيل اقتناص الفرص. يُترك الموضوع وتدار المحافظة، بفيدرالية القطاعات التي يحدد مساحتها أصحاب السلاح. الوقود احد هذه الفيدراليات، تُثَبت سعره العشيرة، ينفذ خزينه بعد يوم، تنتهي فيدراليته، تنتقل العشيرة بشيخها ونفوذها المدعوم بالسلاح الى الصحة. فيدرالية أخرى عائدها مضمون تسيطر على العيادة الخارجية للمستشفى الوحيد بالمدينة، يحدد الشيخ نبهان سقف الاجور، يجبيها لصالحه، لا يؤمن بالمشاركة النسبية مع الطبيب، ولا حتى مع أفراد عشيرته الداعمين لفيدراليته. يهرب الاطباء والكادر التمريضي، فتنتهي الفيدرالية الاخرى. يخرج الشيخ ممتعضا من نظرية المشاركة، يرفض الخوض في فيدراليات البلدية، والكهرباء، لخلل في نظام الجباية. يطرح نفسه محافظا على وفق فلسفته في الاستحواذ. يفشل في الحصول على مبتغاه لظهور منافسين أشداء، شيوخ عشائر أخرى يؤمنون بنفس النظرية.
ليل الناصرية مختلف عن نهارها. ثوار يداهمون. يلتقون في مواقعهم. يستذكرون. يحسبون. يضعون أهداف غدهم. آخرون من الشباب يتجمعون حول النار عند صديق، يسهرون حتى الصباح، تخفيفا لمعاناة يوم طويل لاعلاقة له بالغد، ولا بثواره القائمين. سهرة الليلة ترتبت عند كريم. الطابق العلوي يُحجز لخمسة أصدقاء من ايام الدراسة الجامعية، سهرة لهو قاسمها المشترك قنينتا مشروب معتق جلبها صابر المعروف باحتسائه المفرط للكحول، يرددون أغاني تتحدث عن كيفية اللجوء الى الهور هربا من رجال الامن وعن الحنين الى الحبيب والاهل وحسرة الفراق، بانغام حزينة كلها انين يلائم معانيها التي تحمل في داخلها البساطة والحرارة واللوعة. يجترون على مهل ذكريات الدراسة. يستعرضون جانبا من حياتهم العسكرية المحفوفة بالمخاطر والترحال والفراق، تلهب احاسيسهم وتذكي عواطفهم، وتفتح شهيتهم لمزيد من الشراب، لا ينسون مغامرات الصبا، وارهاصات المستقبل القاتم في ظل الظروف الحالية... استعراضات عادة ما تُقطع بنداء أحدهم لتناول كأس جديد، وطلب مُلِحْ لمواصلة الغناء أو بطرفة يبرع بها سالم البصري. واقعٌ يُعبرون فيه عن طبيعة شباب الناصرية الذين لا ينسون الغناء في عز كفاحهم لحياة أفضل وسط الصعاب. يتفقون قبل الاستسلام للنوم قريبا من آذان الفجر، ان مكانهم خارج التناقضات القائمة للاحداث، انهم مختلفون عن غيرهم من الثوار، لا يستطيعون توجيه السلاح الى صدور زملائهم العسكريين لمجرد الاستيلاء على السلاح، ولا رغبة لهم بالانتقام من الحزبيين الذين اذاقوهم ويل الملاحقة عندما كانوا يتأخرون عن الالتحاق الى وحداتهم العسكرية ايام الحرب. يريدون مجتمعا مدنيا حديثا بلا ملاحقة ولا حروب، وآخرين أقوى منهم في ساحة الصراع ينتجون خراب يفضي الى حروب سوف لن يخفت سعيرها مادام الخراب، سمة تطبع السلوك.
سمير الواصل متسربا من وحدته في الكويت مشيا هذا اليوم، انتهت في داخله مشاعر التأمل، وضاعت مع انفعالات المشي الطويل أهدافه اليسارية في اقامة المجتمع القائم على العدل والمساواة، يفكر فقط بترك الناصرية والعراق والعالم العربي بأسره. يقترح الذهاب الى قوات التحالف الموجودة قريبا من قاعدة علي بن ابي طالب الجوية. يقص على اصدقاء العمر حكاية اعتراضه وصديقه من قبلهم على الطريق السريع واستلامهم عرض خاص لنقلهم على الفور الى الكويت، ومنها الى امريكا، ووجود مئات الشباب بعضهم ليسوا من الناصرية يرومون المغادرة، انها فرصة سوف لن تتكرر، يجملها بالقول:
- عليّ ان أهاجر، لابد من تحقيق حلم طالما غازل مخيلتي وروحي.
يؤيده صالح الذي فقد عينه اليمنى في الحرب الخليجية الاولى، ويضيف:
- لا امل لنا بحياة تلسعنا فيها نيران الحروب اينما نكون.
- لا امل في انتفاضة اصحابها منقسمون، يتحركون بلا قيادة ولا هدف معلوم، وفوق هذا وذاك فان الامريكان اصحاب الشأن، لا يرغبون بالتغيير، يريدون أبقاء صدام، لاغراض لا نفهمها، ولا يفهمها الكبار.
عليّ أن أهاجر، لقد قررت الرحيل، سوف لن اخبر احداً من أهلي حتى الدقائق الاخيرة. لا طاقة لي بتحمل وجع الرأس. أريد أن أعيش ما تبقى من العمر في بلاد الغرب، مع شقراواتها، بلا وجع الحزب القائد، ولا صيحات الجيش الشعبي، ولا مسلحين يجوبون الشوارع، يطلقون النار ليل نهار.
كريم الذي استهوته الفكرة، غير قادر على تنفيذها في الوقت الراهن، لمسؤوليته الاخلاقية عن عائلة الصديق، يرد بوجع:
- كيف لي ان اتركها وحيدة في زمن أقل ما يقال عنه غدار.
اتفاق تُسرّع من حصوله نشوة الخمر، واستعدادات كريم لايصال من يريد الرحيل الى المكان الذي يعسكر فيه الحلفاء، يعرض الفكرة على سالم، عله يتمنع خجلا، لكن الاخير يقطع الشك باليقين، بعبارة شعبية دارجة:
- (رجلي على رجلك). لقد بدأنا سوية وسننتهي سوية.
يحضر الثلاثة اصحاب فكرة الرحيل بحقائبهما الخفيفة بعد الفطور، يصطحبهما كريم وسالم الى المعسكر الامريكي، قريبا من الطريق السريع ناحية القاعدة الجوية.
خيمٌ منصوبة، في كل واحدة منها، طاولة يجلس على كرسيها، عسكري، ليس بالضرورة ان يكون رجلا، فهناك العديد من المجندات، يؤدينَّ مثل هكذا واجبات بكفاءة لا تفرقهن في الاداء عن الرجال، يرتدون جميعا ملابس قتال عسكرية.
مئات الشباب العراقيين، تختطفهم هجرة من النوع الذي يترك فيها الاب أبناءه، والابن اباه، والعاشق حبيبته، املا في الحرية أو هربا من الموت، يقفون جميعا بالدور. تصل المجموعة، يبقى سالم في السيارة.
الخيمة التي قدمهم اليها التسلسل بالدور تعتمرها فتاة شقراء جميلة، بادرة خير تشبع الرغبة في الهجرة الى بلاد الشقراوات، كأنها اختيرت خصيصا لاغواء صالح الذي يحلم بعلاقة فراش مع أحداهن، ومن بعده لتنتهي الحياة.
تخاطبه مباشرة:
- هل تتكلم الانجليزية يا سيدي.
- القليل منها.
- تفضل أملأ هذا النموذج، وعندما تجد صعوبة نبهني لاساعدك، ثم تلتفت الى كريم بلغة عربية فصيحة:
- وأنت الا تملأ نموذجا وتسافر مع أصدقائك.
يجيبها بلوعة:
- ليست لي الرغبة الآن، أو مكتوب عليّ البقاء الآن، حضرت فقط لايصال أصدقائي الى هذا المكان ولاودعهم فيه، قد لا نلتقي بعد.
تحاوره بهدوء:
- أنك ستندم، الفرصة لن تتكرر، في غضون يومين ستكونون في الكويت، ومنها الى أمريكا بلد الاحلام.
يكمل حواره معها بهدوء أيضا:
- حياتنا ياسيدتي كلها ندم، نحن نادمون على مجيئنا لهذه الدنيا، نادمون على شباب قضيناه في الحروب، وسيأتي اليوم الذي قد نندم فيه ...... لم يكمل ما أراد قوله.
فتبادره بالقول:
- قلها بماذا ستندم مستقبلا.
- اعفيني، لم نتعوّد البوح بكل ما نريد قوله.
لايمكنني القول وأنا أقف أمام جندي حاربني بالامس.
تطمئنه برقة الأنثى:
- تكلم نحن في أمريكا نسمع كل شيء. لا نخشى النقد ولا اللوم، هكذا هي الحرية التي نعيشها.
يجيبها بصراحة:
- أنتم الان في العراق وعلى أرضه، تشمون هواءه، من يضمن أن لا تتصفوا ببعض ما نتصف به. سامحيني، سوف لن أكمل القول، سأجعل موضوعها واحداً من سلسلة ندم لا تنتهي الا بالموت.
أما هي فتحاول الدخول في صلب الموضوع:
- أنت متشائم، أنا لا أتفق معك، ثم يا سيدي لماذا تقبلون الاضطهاد والعيش طوال الوقت تحت كوابيس الخوف. ألم يقل شاعركم العربي على ما أذكر أبو القاسم الشابي:
اذا الشعب يوما أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر.
يرد عليها بقدر من التشاؤم:
- انه شاعر، وما يقوله شعراؤنا خيال لا صلة له بالواقع. ولكي ينقل الحديث من السياسة التي لا تستهويه، ويلطف الاجواء، قدم فمه من أذنها اليمنى، وكأنه يسرها:
- لدي حبيبة لا يمكن تركها وحيدة في عالم مجهول.
تبتسم بملأ فمها الجميل قائلة:
- هذا شيء جيد، لا متعة في الحياة بلا حبيب.
- وأنتِ هل لك حبيب.
- نعم لقد درست الأدب العربي معه في كاليفورنيا، وتركته فيها منذ شهرين، عندما التحقت بالخدمة العسكرية في هذه الحرب اللعينة لاجمع بعض المال، انها فرصة جيدة لجمع المال، هكذا هي امريكا يا سيدي الرافض الذهاب اليها، المال فيها سر الحياة، الحرية أسمى شيء في الحياة. هل ما زلت ترفض الذهاب اليها مجانا؟. سأقدم لك عرضاً في هذا المجال. أذهب وأجلب حبيبتك، وسأقبل طلبكما سوية في الحال.
يرد بمثل عراقي دارج كنوع من الاستهزاء:
- (عرب وين وطنبورة وين).
- نعم، ماذا تقول.
- مثل عراقي، لم يتسن درجه في مفردات الادب العربي الذي درستهِ، وشرحه يطول.
يعانق صديقاه مثل عناق حبيب مفارق، يودعمها، يعود الى سالم، يحكي الحكاية أثناء عودتهم بالسيارة.
يختمها بالقول:
- آه كم تمنيت ان اكون معهم، لو سنحت هذه الفرصة قبل أسبوع من الآن، لكنت أول الذاهبين.
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/46273-2020-10-05-09-31-48.html
399 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع