تلك هي - رواية للدكتور سعد العبيدي / الجزء السابع عشر
تعارف عابر
شاخت مرابع البصرة وحواريها من وجع الحرب، يبس سعف نخيلها الوارف على ضفاف جداولها واحوازها من ألم الحرب، أصبحت أشباح نخيل تعصف بها رياح الغل، تغلف ما تبقى من خضرة بساتينها ذرات رماد حملتها رياح جنوبية من آبار نفط أحرقت عمداً في الكويت، كست ابنيتها الرثة لوناً حزيناً غير مألوف لأبنائها، وجعلت هواؤها المشبع بالرطوبة يدمي العيون.
انها في مأتم كبير، تلبس ثوباً أسوداً.
أهلها، حيطانها، كبارها، صغارها مكتئبون يطحنهم وجع الخذلان.
ألسنة النار المتوهجة للحرب تأكل العباد والزرع والارواح التائهة، ثمان سنوات لم تنقطع فيها مسيرات الشهداء، ألبست الجدران سواداً باهتاً، أرصفتها تمتلئ بالحفر والعثرات ومياه مطر أختلطت بأخرى آسنة، شوارعها الموحلة تمتلئ بعسكريين مكسورين في حرب أخرى، أصبحوا بين يوم وليلة يتسكعون ضباطاً وجنوداً دون تمييز، فالرتب التي ميزتهم في أيام عزهم أسقطتها هذه الحرب الاخرى، وازالت فوارقها مشاعر اللوم على طريق الانسحاب، وابقتهم نتيجتها المفزعة يهيمون على وجوههم مثل اسماك تتخبط في بركة يتسرب منها شحيح ماء أخضر، منعزلين عن العراق، يعيشون ألم الغرق ووأد الحياة.
كريم الجندي الجامعي، لم يدرك على وجه التحديد:
أكان الذي يحدث حوله من صنع خياله المشوش؟.
أم أن القضية برمتها من الدقة في الوضوح قد أخذت وضع كابوس؟.
ومع هذا فإنه واعٍ لأصوات الماشين من حوله، والأنفجارات القريبة، ولمزيد من التيقن، ألتفت الى جندي يسير قريباً منه تائهاً يطحنه الكابوس، بادر القول:
- سأخلع هذا الحذاء الذي رافقني طوال خدمتي العسكرية، مثل ظلي، لم أعد اتحمل وزنه الثقيل، بعد هذا المشي الطويل، من الكويت حتى صفوان.
يستدير اليه، يتفحصه بامتهان، كأنه يستعيد بتأمله ذكريات ماضٍ مؤلم لفها العقل في خلاياه الملآنه، وأحداث حاضر مفزع تفتش عن مكان لها بين المكبوت فيقول:
- ومن ينظر اليك فيما اذا خلعته ورميته تذكاراً لأم المعارك.
ألم تر الجميع من حولك، قد خلعوا أحذيتهم بعد أن تورمت اقدامهم من طول المشي؟.
فيجيبه:
- لم أعد أتحمل حتى التفكير بمواصلة المشي بهذا الوزن الذي أحس بسببه وكأنني أحمل على ضهري شوال رز من العنبر يزيد على المائة كيلو، لا أعلم كيف يمكن الوصول إلى الناصرية.
- دعنا نصل البصرة أولا، ومن بعدها يحلها من حشرنا في الكويت، حشر المنبوذين في طواحين رعب، لا يمكن الخروج منها بسلام.
البصرة تمطر سماؤها بغزارة، كأنها قربة ماء هائلة، إنشقت فجأة ، استمرت على غير عادتها طوال ليلتين تبكي مطراً، ارادته كافياً لغسل هموم أهلها وعسكرها المهزوم، والتذكير بأيام الطوفان في غابر الزمان، فتغطت شوارعها وأزقتها القذرة بالوحل، وباتت أرضها تنفث رائحة كريهة، مثل زفرة السمك المنشور على حبال التجفيف صيفاً، فضاقت أمكنتها على هذا العسكر المسجل في سجلات حربها الخاسرة، أنه قد نجا من معركة لم يُشاهد فيها عدوه، وضاقت كذلك على أبناء محافظات أخرى، قدموا من بعيد، يسألون ويفتشون بين جثث تناثرت على طول الطريق الموسوم بالموت، علهم يعثرون على من سُجّلَ مفقوداً في ذات السجلات.
عشائرها التي اعتادت ايقاد نار مواقدها أوقات النصر الموهوم، لتَضيّف أصحابه المارين قرب مرابعها، أطفأت نيرانها أثناء عودتهم مكسورين، احتجاجاً على خسارتهم منازلة لم يكونوا لها متهيئيين، وربما ترقباً للاستفادة من وهن الانكسار، أو محاولة لازاحة مشاعر الذنب التي تجثوا على صدورهم نتيجة الرقص التزلفي على مسرح القائد الكبير.
في لجة المطر الغزير يرفع كريم رأسه في ضيق، يعاود الكلام مع رفيق الدرب الذي سايره من قبل صفوان قائلاً:
- لم أتشرف باسمك حتى الآن، لقد مشينا نصف نهار، ولم يسأل أحدنا عن اسم الآخر.
وبأنفاس تزفر التعب يجيبه الآخر:
- وما فائدة الاسماء، في أجواء يسقط كل خطوة فيها انسان، دعنا هكذا بدون أسماء، لنتجنب الحزن على بعضنا، فيما اذا سقط ميتاً في الطريق.
كريم الذي حطمت قسوة الاحداث في داخله كل الحواس، بعد ان أخذت منه الصديق العزيز، وتركته شبه إنسان يذوب في بحر تقطعت فيه أوصال الأمل، وعقل لم يبق فيه مجال الى الحزن:
- أنا (كريم) من الناصرية، جندي أحتياط في الفوج الثالث اللواء الخامس عشر، هارب من الحرب، دَفنتُ هذا اليوم في صحراء الكويت وليد الاقرب اليَّ في هذه الحياة.
رد الآخر وقد طبع ابتسامة باهتة على شفتين هزيلتين، يتصاعد الشارب الكث بعد انفتاحهما، ليعطي صورة طبيعية، فيها الكثير من الاطمئنان:
- وأنا (حسيب) من كتيبة مدفعية الميدان الثالثة، هارب أيضا من الحرب.
السرادق المخصصة لاستضافة الموعودين بالنصر بقيت مفتوحة، دون مواقد. الاستراحة فيها والمبيت على حصرانها الرثة لقاء ثمن يدفع مقدماً. الشاي المغشوش يقدم كذلك بثمن يدفع مقدماً.
البيوت العريقة في الزبير والبصرة أمتلأت بمعارفها من الاصدقاء المنسحبين، واؤلئك القادمين يتابعون اولادهم المفقودين، من لم يجد مكاناً من المحظوظين، افترش أرضية اسمنتية لبناية بقي هيكلها خاوياً، يستريح فيها، ينتقد، يشتُمُ، يلوم، يجد رفيق طريق يعاود معه السير الى ديار الأهل البعيدة عن البصرة بلا حذاء.
الاقوياء من المنسحبين بينهم كريم ورفيق دربه حسيب، تحولت أبدانهم الى آلات تتحرك بشكل ميكانيكي دون إحساس بالألم، لا يتوقفون، يستمرون بالسير مع استراحات بسيطة، حتى غص بتواجدهم الشارع والزقاق والطريق العام، كأنهم في رتل مشاة يسير بلا انتظام، لا يمكن تحديد بدايته ولا نهايته على حد سواء.
- انظر الى ذلك الذي يسير قريباً منا، انه ضابط برتبة لواء، قال كريم.
تفحصه بعيون شوشت بصرها قطرات مطر تسللت اليها وسأل:
- كيف عرفت، والرجل لا يحمل رتبة عسكرية، وقد خلع الحذاء مثلنا، وسار كذلك مثلما نسير على غير هدى؟.
- انه اللواء سمير عبد الحق مدير ادارة الفرقة، لقد نزع رتبته العسكرية، وسار على هذا الطريق المشؤوم، بعد أن عطلَّ سائقه سيارة الصالون التي كانت بحوزته، خوفاً من تعرضها للقصف الجوي.
- انها الاشتراكية التي وعدونا بتطبيقها، ها هي تطبيقاتها، تساوي بيننا جنوداً وضباطاً نسير جميعا على طريق الهلاك، قال حسيب.
الوقت يمر بطيئا، مغموسا بالتعب، الجوع يعصر البطون، مطعم الوردة البيضاء في البصرة القديمة، يقدم وجبة رز مع حساء العدس ورغيف خبز بارد بعشرة دنانير أو لقاء بندقية كلاشنكوف بمخازنها العامرة من العتاد المصنع في معامل الاسكندرية... شرط مسبق، بتوفر العتاد، واذا ما خلت الصفقة من العتاد، تنقص الوجبة رغيف خبز او اناء حساء.
الجائعون كثر، عليهم ان يقرروا سريعاً، هكذا هي التعريفة، لا وقت للانتظار، فالمطعم مزدحم، وشروطه واضحة تنادي بها الحاجة أديبة من طاولتها المنصوبة في مدخله، مطعماً أسسته شعبياً من القصب الممشوق على الرصيف المحاذي لمحل بقالتها المعروف بالغش في الوزن، وخليط المواد، حشدّت له جهد أولادها الثلاثة، وبناتها الاربعة، ذكية بالفطرة، أدركت الفرصة سانحة، تنبهت سريعاً الى تجارة حرب مربحة.
وجبة غذاء تقدمها من بقايا غش في الميزان، أقتطعته من الفقراء، لا تكلف ربع دينار، مقابل بندقية محشوة بالعتاد تقتنصها من الجياع المنكسرين.
البندقية مطلوبة بشكل غير مسبوق، تجارها يعرضون أسعاراً تقارب العشرة دنانير. امامها فرصة لرفعها الى خمسة عشر ديناراً، قدّرها عبد المجيد، مهرب السلاح المعروف الى مقاتلي الأهوار هذه الايام.
الربح الوفير أنعش آمالها بالغنى السريع، فأخذت تفكر جدياً بفتح مطعم على نفس الطراز في ساحة (أم البروم، وسط العشار) لجمع أكبر عدد ممكن من البنادق والمسدسات، تنوي ادخال القاذفة والهاون الى القائمة، بعد ان سأل عبد المجيد عن واحدة منها هذا الصباح.
- الآن، وصلنا البصرة، الوقت بات متأخراً، دعنا نسد رمقنا بوجبة غداء في هذا المطعم، نحسبها عشاء أو سحور، لم يعد الأمر يفرق عندي، فقد تداخلت الاوقات في هذا الزمن البائس، لدي بندقية سأعطيها ثمناً، ومعها عشرة دنانير، تمنحنا وجبتين سوف نتذكرهما ما دمنا على قيد الحياة، قال حسيب.
تقدم كريم خطوة باتجاه المطعم قائلاً:
- دعك من البندقية التي قد تحتاجها في الطريق، لدي ما يكفي من المال لوجبتين، واذا لم تعطنا هذه العجوز ما نريد سأقوم بتهديم المطعم على رأسها، لقد طفحَ بيّ الكيل.
وجبة الطعام هي الألذ على طريق الجوع الطويل، أفترقا بعدها بساعتين دون عناق، وكأنهما لم يتعارفا.
توجه كريم صوب محلة الجمهورية، يمشي حافياً وفي أعماق أنفاسه اللاهثة يحس القيود، وبطء الخطوات التي يسير بها.
يمضي الوقت ثقيلاً، ينكمش تدريجياً، يضيق به الفضاء، تقترب منه جدران المحلة التي يقصدها، يحس وكأنها تخنقه عند آخر الطريق.
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/45727-2020-08-22-08-45-45.html
448 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع