تلك هي - رواية للدكتور سعد العبيدي / الجزء العاشر

      

    تلك هي - رواية للدكتور سعد العبيدي / الجزء العاشر

    

بيت الحاجة رضية

الذهاب الى الناصرية، هذا اليوم وفي ليل يتحرك فيه المنتفضون ورجال الحكومة، وقطاع طرق، أمر صعب، لا وسائط نقل ميسورة، ولا جسد يتحمل أعباء المشي يمكن الاعتماد عليه. 

يدنو كريم من سالم ليسره:
- السيارة عائدة الى الحزب، كيف لي الذهاب بها الى الناصرية؟. لا علم لي بتطورات الموقف على الطريق، كما ان الوقود فيها قليل لا يوصلها الى هناك.
يرد سالم بقدر من العصبية:
- كأنك تتكلم عن نفسك، بعد أن تعاهدنا على السير معا.
ان قرار الذهاب الى الناصرية وان كان يخصك ومتروك أمره لك وحدك، لكني سأرافقك وان كان مشياً على الاقدام.
لقد مشينا من الكويت الى البصرة، فما المانع أن نمشي الى الناصرية.
يلتفت اليه كريم بالقول:
- الله سبحانه عوضني بك أخاً وصديقاً بدلاً من المرحوم وليد، أدعو من الله أن يديم الاخوة الى الابد، أنا أشعر كأني أعيش معك أخاً من زمان.
فيردعليه:
- كريم دعنا من المجاملات، سأذهب الى أهلي لاطمئنهم عن خروجي من السجن، وأعود اليك لنلتقي في بيت الحاجة رضية، ومنها نتوجه الى الناصرية هذا المساء حتما.
- سأنتظرك.
الاهل ينتظرون، عارفين بكل التفاصيل، عاتبين على التأخر عن طمأنتهم منذ كسر السجن والخروج من خلف قضبانه الحديدية.
لكي يقطع عليهم سلسلة العتب، قال:
- اسمعوني جميعكم، أنتم أعز ما أملك في هذه الحياة، لا أريد الابتعاد عنكم، أحداث اليوم، حملتني مسؤولية غير طبيعية، واطلاق سراحي من المركز على يد كريم، وضع ديناً في ذمتي، وأنتم أدرى بمن يدخل سجن البعث لا يخرج منه سليماً بأي حال من الاحوال، لا اريد الابتعاد عن الموضوع بالشعارات الوطنية، لكن الوطن فعلاً محتاجنا كشباب هذا اليوم، عليه تحمّلوني، وتحمّلوا غيابي عنكم ربما لأيام.
يتدخل الأب:
- نحن كنا يائسين من رؤياك ثانية، ونعرف أنك عنيد، والذي تريده تتجه الى تنفيذه، وان كان في آخر الدنيا، اتكل على الله، وسنكون بانتظارك، عارفين هذه المرة أنك ستعود لنا باذن الله.
- مع السلامة جميعاً.
يصل بيت الحاجة رضية، يجلس في السيارة منتظراً كريم، وبندقيته جانباً، يشعر انه قد تعلم الكثير من الدروس بمرافقته هذا الصديق الشجاع، لهذه الساعات الستة من نصف النهار المليء بالاحداث.
الساعات القليلة الماضية حملت في جعبتها الكثير، الاجهزة الامنية تساقطت، انتقل من تبقى من ضباطها على قيد الحياة الى بيوت معدة كمخابئ مسبقة، عملهم الأمني تحول سريعاً الى الاختباء والترقب، بانتظار الخطوة القادمة تبعاً لتطورات الموقف.
القيادات العسكرية داخل المدينة أخلت مقراتها، غادر غالبية ضباطها الكبار باتجاه المقرات العسكرية الموجودة خارج المدينة، وغادر غالبية الضباط الشباب الى محافظات أخرى بينها بغداد.
الجامع الرئيسي في محلة الجمهورية، يشهد كثيراً من التطورات، شباب يتواصل قدومهم من الأهوار، وأجهزة اتصال تنصب وصلاتها أعلى المنارة، وسيارة وقود حوضية مملوءة من بقايا موقع البصرة في معسكر محمد القاسم، تجلب لتستقر جوار الجامع، يصرف الوقود منها بورقة موقعة من السيد... المجاهد علي يصبح الرجل الثاني في السلم القيادي للمقر، لا أحد يعرف طبيعة عمله وجهة اتصاله، المهم انه من قوات الفرقان، والأهم انه مع الآخرين يسعون لاسقاط الديكتاتور.
كريم الذي صحا على نشوة الانتصار على الشرطة، يجد في داخله رغبة ملحة لزيارة الجامع، عسى ان يستفهم شيئاً يفيده في رحلته المجهولة الى الناصرية، يعيد المجاهد علي تقديمه الى السيد، بطلاً قائداً جماهيرياً، شجاعاً، يعرض عليه الانضمام الى قوات الفرقان، فيتعكز في رفضه على ضرورة الذهاب الى الناصرية، ليداري قلق أهله في هذه الظروف الصعبة.
يبارك السيد خطوته قائلاً:
- أقدر نيتك الذهاب الى الاهل فالله سبحانه وتعالى أوصى بالاهل خيراً، وزيارتهم واجب شرعي، ثم يخرج ورقتين، الاولى لملأ خزان الوقود لسيارته الحزبية، والثانية لعدم التعرض اليه أثناء التنقل على الطريق مؤكداً قوله:
- املأ خزان السيارة بالوقود الكافي للعودة، نحن بانتظارك، لأننا نحتاجك، والورقة الثانية لعدم التعرض قد تحتاجها، قواتنا الآن منتشرة حتى الكوت، وهم يعرفون الختم جيداً.
فيجيب كريم:
- شكرا لك سيدنا، سأعود ان شاء الله في القريب العاجل، والتساهيل من الله العلي القدير.
العشاء الذي شارك وصديقه سالم في تهيئته ختاماً لعزاء المرحوم وليد ينتهي مبكراً بدفع من الحاجة رضية، التي تحاول الحث في الاسراع بالتوجه الى الناصرية.
النسوة المعزيات يتركن المكان، وكذلك الحاضرين من الرجال، سالم ينظر في ساعته، يظن أن صاحبه قد تأخر، لكنّه لا يريد ازعاجه فموقف التعزية صعب، والوداع أصعب.
الحاجة تمسك كريماً من يده بقوة، ترجوه وتتوسل اليه أن يحافظ على حياته:
- انك الباقي لنا في الحياة... تقبله من جبينه مع تأكيد:
- ابني العزيز، بعد ما أوصيك على نفسك.
يعيد تقبيلها من رأسها، قائلاً:
- أمي الحبيبة، انت لنا العّزاء في هذه الحياة، حافظي على نفسك وعلى أمل انها أمانة لديك، انتم أهلي وأحبتي، سأعود لاطمئن عليكم مهما كلف الأمر.
أمل التي غادرها البكاء لفترة أنشغلت فيها بالتعزية، وتقديم العشاء، خرجت من غرفتها، تسير بتأن، كأنها في سيرها البطيئ هذا، تحاول أن لا تخدش الارض التي تسير عليها. أتكأت بكلتا يديها الرقيقتين على حافة الباب، وعاودت البكاء بشدة.
كريم الذي شاهدها آخر مرة صبية، تلعب مع زميلاتها في باب الدار، فكر في لحظة الحزن هذه، قائلاً بصوت غير مسموع، انها لم تكن أمل أخت المرحوم التي أعرفها، فأحسَ ساعتها دفقة نور قد سرت في جهازه العصبي، شعر اثرها بالخجل من نفسه، فأغمض عينيه خشية الاستمرار بالنظر اليها وهم في موقف حزن، لا يبيح النظر تحت أي سبب من الاسباب.
هي أيضا ترى كريم من هذه المسافة القريبة لأول مرة، وفي ظروف تتلاطم فيها المشاعر بين الحزن على عزيز ذهب الى الابد، وبين الفخر بصديق له أصبحت سيرته شجاعاً وفياً على كل لسان، زاده قيمة في نظرها موقفه الشجاع مع والدتها في الهجوم على المركز، نفذت نظرته الى قلبها الذي يأكله الهم، أحست انها وسط هذا الحزن تنتظر تكرارها، وأحست في داخلها خوفاً عليه من ليل كئيب... إحساس لم تدرك غاياته البعيدة، أو في الواقع لم تفسره الا في اطار رد الجميل، لما قام به من أخذ بالثار واكمال ترتيبات العزاء، ومع هذا خجلت هي أيضا من احساسها الغريب، فبقيت في مكانها شاحبة الوجه كأنها لا تأبه للوداع.
يودعهم كريم بحرارة عاشق. يودع حبيبته ذهابا الى المجهول، يسرع خطاه نحو الباب، لم يلتفت الى الوراء لكي لا يشاهد الدموع في مآقي، يحس أنها تريد منه البقاء.

للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/42827-2020-01-09-16-47-49.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

541 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع