قراءة في مجموعة (قصائدي تطفح ليلاً ) للشاعر الدكتور فاروق فائق كوبرلو - عندما تعصف الريح بالسكينة المفتقدة
محمد حسين الداغستاني /كركوك
الريح والموج والليل والحزن ، تلك هي المرادفات المتلاحقة بإسراف بيّن عبر نصوص المجموعة الشعرية الجديدة للشاعر الدكتور فاروق فائق كوبرلو الموسومة (قصائدي تطفح ليلاً) ، وكأن الصخب الناجم عن تلاقح سمات الطبيعة المحمومة كان لوحده القادر على تجسيد المعاناة العسيرة لولادة النص المضني .
وبدا واضحاً بأن جلّ الرموز الثرية المستقاة من الطبيعة في المجموعة إقترنت بدلالاتها العنيفة وقد تم توظيفها بإنسيابية سلسلة من لدن الشاعر لإضفاء حالة الغليان والكمد والقنوط على لغته الشعرية االمفعمة بالبساطة والمباشرة أحياناً نتيجة غزارة إنتاجه الأدبي التي رفدت المكتبتين العربية والتركمانية ب 43 مؤلفاً في شتى الأجناس الأدبية مما أدى ذلك إلى هيمنة طقسٍ فريد يكاد يكون متقارباً في الرؤى والمشتركات لتكوين أسلوبه التركيبي .
وفي لغته الشعرية فقد كان كوبرلو في أغلب نصوص المجموعة ميالاً إلى إبتدائها بالتراكيب الأسمية مثل (هامات النجوم ... ، رماح القدر .. ، شلال هادر...، طير مذعور ... ، الوحش الغاضب ... ، جذع مبتور .. ، القارعة تقرع ... إلخ ) وكانت هناك حالات معينة إستخدم فيها حروف الجر ، والمقصد في ذلك توافقَ تماماً مع مشروعه اللغوي الشعري الهادف الى تكريس الأجواء الملبدة بالفوران والحركة الصاخبة ، فضلاً عن شحن اللغة بقدر لا يستهان به من الإيحاء بعدم الإستقرار والإفتقاد الى السكينة والرضوخ للواقع الموجوع :
وعلى إمتداد الريح
ثمة دهشة زائلة
تسرق المحطات ، تتأسر الكلمات
لا سعادة لهذه الريح
سوى الرقص فوق الأمواج !
لقد إتكأ كوبرلو على التغييروالحركة النشطة الدؤوبة للطبيعة الضاجة بالتدفق والمحتشدة بالأفعال التي بَصَمت النصوص بسيماء القلق والحزن وكانت الريح سيدة الحدث فيها دون منازع :
وتخطف الأشرعة من الرياح الليل
شرارة الطيوف تحرقني
والبيادر تغلي وتمور
الأوراق المتساقطة لا تصلي صباحاً
وعيون العنادل تكتحل بنار الحسرة
سراجي لا يصهل
يتوجس في ظل الهمس
وحتى الأمواج لا تقهر !
فالريح في النص ناتج فعل درامي مدهش بحيث تصطف الصور الشعرية أفقياً للتعبير عن عنفوانيتها وشبقها الآسر للصراع مع المتناقضات ، وبوعي أو دون وعي من الشاعر فالإصرار واضح على تأكيد المدلول السلبي وإقصاء الإيجابي في مكونات الطبيعة عبر المجموعة بكاملها فيما تزخرتراث الشعر العربي الحديث بالإيحاءات المفرحة والجميلة لمفردة الريح ، فهاهي عمالقة الآلهة تقول لكلكامش عندما عاد منتصراً الى مدينته (أوردك) :
فأطهم لك عربة ً من اللازود والذهب
عجلاتها من النظار
وزينتها حجارة كريمة
تربطها عواصف الرياح خيولاً
وكذلك الشاعر عمرأبو الهيجاء عندما تناول الجانب الآخر المضئ للريح كرمز للإحتفاء والأمان والسكينة والخشوع المقدس :
ردني يا حفاء اليدين النقوش
على حافة الليل
وصل معي على سجادة الريح القديمة .
فأين كل هذا من ريح كوبرلو التي تكتسح كل جميل وتحجب الشمس وتفتك بالنور في فضاء الحرية :
في الفضاء الرحب
ثمة ريح صلعاء ، ترصد بعيون عوراء
لتواري الشمس
وتقتل الضياء في الفلاة !
ومثلما الريح عامل فتك ، فهي بذرة مكنونة في سويداء اللاوعي ، تحيل ليل الشاعر الى كابوس من التحسب من الآت الذي يعكس الخوف حتى من الضياء ... هذا الغد المضمغ بالقلق المتلفع بالمجهول :
وأنا أهرب من ليالٍ عسيرة
أتشبث بحبال الأمواه
خوفاً من الغرق !
وأنا خلف ضجيج الزحام
خوفاً من الأرق ... خوفاً من الريح
خوفاً من إلتماعات الزجاج !
وليت الأمر يقتصر على الخوف والتحسب فالريح تنزف وتجهض عطاء الأرض بل وتودي الى صمت عاقر في أجمل ساعات اليوم وتحول الدم القاني الى مجرد سائل أصفر وتفقِد الأغنية سحرها وتـُقلب الأرض الى يباب قاحل :
نزفت الريح دماء صفراء
والموسيقى جرس أخرس
آنذاك جف صوت البحر وقت السحر
ولم تسمع للأرض أغنية !
ولتكتمل الصورة الشعرية بخصوصيتها لدى كوبرلو فهو يستنفذ قدرته الرومانسية الكامنة في لغته المغلفة بالحزن الشفيف واليأس من القادم الأفضل فيعصر الكلمة حرفاً حرفاً ليجمع الريح مع النور والظلام في متوالية موسيقية طرية وآسرة :
تجوب ذاكرتي رماد قصائدي
التي إحترقت
وأضرمت مع الريح
وتناثرت حباتها مع زخات المطر
وتراقصت كالعصافير السرية
والزهور القلقة !
ومن المدهش حقاً أن تكون فسحة الحب شحيحة وخجولة ومترددة في المجموعة مقارنة بحجم نصوصها ، ففي أتون الرياح والأشرعة والأمواج الكاسحة توارت المرأة أو الحبيبة خلف ضباب البحر المترامي إلاّ فيما ندر ، واستطال تصميم الشاعر ليضم حوافي الموجودات بعناد وتركيزها في بؤرة متوترة تعج بالقوة والفعل المدوي ، فيما كان إحتباس الحضور الأنثوي لافتاً مع ما يمنح ذلك الحروف والكلمات والشعر الطراوة والنداوة ، لكنه في إسفاره الخجول تعمد عدم الإخلال بتركيبة المجموعة البنائية ومنهجها الرامي الى تغليب حالات الطبيعة ورموزها فوق أي إعتبار ، بل ذهب بعيداً في هذا المنحى الفريد عندما حرص حتى في غزله على إقتران عيون الحبيبة بالبحر وكائناته الحية :
دثريني بوجهك الموجّل
تمعني فيّ بعينيك الحالمتين
لأقرأ خارطة البحر
وأغذي الأسماك والمحار
وعلى ذات المنوال تتوالى نصوص المجموعة المثقلة بأهواء الأمواج المتلاطمة وشجون الناس والموجودات من حول الشاعر في تناغم فريد مع هبة كل ريح عاصف صرصر وإطلالة فجر يفتقر الى الأمل ، وكأن الشاعر يتمترس خلف هذه المدلولات ليعبر رمزاً ليس عن حزنه فحسب وإنما لمعاناة جيل وملّة مجبولة على الألم نتيجة الأحداث الجسيمة والمؤلمة التي عاشها شعبه ، وهنا .. هنا فقط ، يسمح فاروق كوبرلو لحزمة فرح في لفتة نادرة لكي تخترق إحدى نصوصه العتمة وتنفذ من خلال كوة صغيرة نحو الفضاء الرحب ، فتغمر الكلمة المعبرة عن الضائع المفقود بقبلاتها الدافئة للفجر ، وتتناغم مع تراث قومي زاخر بالمدلولات والوقائع وحكايات الشجن والبطولة المتمثلة بالقوريات (*) الأثيرة :
قصائدي تطفح ليلاً
تغسل خدود الأنجم بالقبلات
تتسحر مع الفجر
وتنام مع القوريات
في أسرة المسرات !
ربما لم يأت فاروق كوبرلو بالاستثناء لغة وبناء وإيقاعاً وصورة قياساً الى مجاميعه السابقة ، لكن جمرة إختيارته كانت حارقة ، ونتؤات رموزه حادة ، ولعنات ليله وبحره وريحه كانت تمور وتظطرب باللواعج ، فعبّروراء السطور بصدق عن محنة الانسان المنفي والمغترب بين ناسه وفي وطنه القريب قبل المهجر البعيد !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) القوريات : من الموروث الشعبي التركماني وتتكون من رباعيات جناسية ذات دلالات عميقة مثل الأبوذية العراقية في الجنوب والفرات الأوسط وتشكل لوحدها منظومة عاطفية مؤثرة وموحية .
2970 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع