أفلاطون الذي همشه العرب له علاقة بالربيع العربي

      

       مؤلفات أفلاطون في التراث العربي لاقت مصيرا بائسا

التراث العربي أهمل مؤلفات أفلاطون رغم أن كتاباته كانت أقرب إلى الروح العربية من مؤلفات أرسطو المُحْتَفَى به.

العرب/ممدوح فرّاج النّابي:راج في الدراسات البلاغية التي اهتمت بتأثير الفلسفة اليونانية على البلاغة العربية، الإشارة إلى التأثير القوي والحضور الكبير لفلسفتي أرسطو وأفلاطون في التراث العربي البلاغي. وإن كان هذا ملموسا في الكثير من البحوث فإنه ليس صحيحا بشكل كلي كما يعتقد الكثيرون.

راجت الكثير من البحوث التي تقر بتأثيرات الفلسفة اليونانية على الخطابة العربية، وما قدمته من إسهامات معرفية حول البلاغة، وممارستها المهمّة خاصّة في الخطابة. لكن يأتي كتاب “ضد البلاغة: الخطابة والسلطة والتضليل عند أفلاطون”. وهو إصدار مشترك للدكتور عماد عبداللطيف مع الدكتور محمد الولي والدكتور حاتم عبيد، ليفند هذه المقولات الرائجة ويدحضها.

التجاهل والحفاوة
جاء الكتاب، الصادر عن دار العين المصرية، في خمسة فصول عُنيت جميعها بتتبع آثار أفلاطون في التراث العربي ومظاهر الاهتمام العربي المعاصر ببلاغته. وكذلك دراسة أبعاد مختلفة من بلاغة أفلاطون في محاورات جورجياس وفيدروس ومنكسينوس، والجمهورية، ويوثيديموس، وبروتاجوراس، ومينون. في الفصل الأول المعنون بـ“التلقي العربي لبلاغة أفلاطون من التجاهل إلى الحفاوة“ يشير عماد عبداللطيف إلى الاهتمام الذي حظي به كتاب “الخطابة/ البلاغة” لأرسطو منذ ترجمته المبكِّرة ما بين أواخر القرن الثاني والثلث الأوّل من القرن الثالث الهجرييْن، وقُدِّمَتْ له العديد من الشروح والتلخيصات على يد علماء عظام كالفارابي وابن سينا وابن رشد، بل تجاوز تأثيره نطاق البلاغة والخطابة إلى دراسات النقد والأدب.

في مقابل الاهتمام الذي حظي به أرسطو، كان التجاهل والإهمال مصير كتابات أفلاطون، خاصة محاورتي “جورجياس وفيدروس” باستثناء فقرات قليلة كتبها الفارابي. وهذا الإهمال لفت انتباه الفيلسوف عبدالرحمن بدوي فتحدّث عن المصير البائس الذي لقيته مؤلفات أفلاطون في التراث العربي. ويلفت بدوي إلى مفارقة مدهشة تتمثّل في أن كتابات أفلاطون المهملة كانت أقرب إلى الروح العربية من مؤلفات أرسطو المُحْتَفَى به.

النّابيعلى الرغم ممّا يسوقه المؤلف من عوامل أَسْهَمَتْ بطرق غير مباشرة في عدم شيوع الفلسفة اليونانية لدى العرب، خاصّة موقف التراث الدينيّ منها، إلا أنَّ الكثير من الكتابات والأفكار تسرَّبَتْ لدى العرب بفضل الترجمات الأولى التي أولاها حنين بن إسحاق، ويحيى بن عُدي للحكيمين؛ أفلاطون وأرسطو، إضافة إلى ما قدَّمه المفكِّرون العرب من كتابات مُمهِّدَة لدراسة فلسفة أفلاطون على نحو ما فعل الفارابي وحنين بن إسحاق، وكذلك شرح ابن رشد لمحاورة الجمهورية (السياسة). كما حضر أفلاطون في التراث العربي بوصفه أحد حكماء الزمان، فنُسِبَتْ إليه عبارات كثيرة عالج فيها جملة من الاهتمامات المعرفيّة الإنسانيّة، وعلوم الدين والتصوف والفلك والموسيقى والأخلاق.

                   

ويشير عبداللطيف إلى مفارقة عجيبة مفادها أنه مع هذا الذيوع الذي حظي به أفلاطون إلا أن ما كتبه أفلاطون للبلاغة لم يترجم إلى العربية، ويقصد محاورات جورجياس وفيدروس ومنكسينوس. وهو الأمر الذي جعله يتساءل: هل هذا راجع لعدم معرفة بوجود هذه الأعمال أم أن ثمّة تجاهلا مقصودا لها؟ الغريب أن المؤلف يؤكّد بجزم أن العرب عرفوا هذه المؤلفات مُقدِّما الدليل مما كتبه الفارابي عن كتب أفلاطون، وقد أورد فيه تلخيصا شديدا للمحاورات الثلاث.

ثمّ يتتبع المؤلف حضور بلاغة أفلاطون في متن المُنجز البلاغيّ العربيّ، على نحو ما أورده الجاحظ في كتابه “الحيوان” وإن كان خلا أهم كتاب بلاغي له ويقصد “البيان والتبيين” من ذكر لأفلاطون، وإن كان ردّد اسمه هو وأرسطو على استحياء في الحيوان وغيره من كتب البلاغة العربيّة.

ينتهي المؤلف بناء على هذه المتابعة لأثر أفلاطون في البلاغة العربية إلى نتيجة غاية في الأهمية، تتمثّل في أنّ القول بتأثير يوناني في البلاغة العربية يحتاج إلى تصحيح، فمن الممكن التحدث عن تأثير أرسطي في البلاغة العربية وإن كان محدودا للغاية، ويُعلل عبداللطيف السّبب في التفاوت في الاستقبال بهجوم أفلاطون على بعض الممارسات البلاغية، مقابل ثقافة تميل إلى تقديس البلاغة، علاوة على طريقة تأليف أفلاطون لكتاباته التي هي أشبه بمحاورة كانت هي الأخرى بمثابة حجر عثرة أمام إتاحة أعماله باللغة العربية عبر الترجمة المباشرة. وبهذا ظلت أعماله حول البلاغة غير متاحة في العربية حتى أواسط العقد السابع من القرن العشرين.

التلاعب بالجماهير

في الفصل الثاني المعنون “موقف أفلاطون من البلاغة من خلال محاورتي جورجياس وفيدروس” يستعرض المؤلف نقد أفلاطون للتلاعب في الخطابات الجماهيرية في أثينا القديمة، بوصفه محطة مهمّة من محطات مقاومة التلاعب بعقول البشر.

ومن ثم سعى الباحث حاتم عبيد في دراسته “على هامش خطابة أفلاطون: عودة إلى محاورات لم تنل حظها” إلى استجلاء موقف أفلاطون من الخطابة، واستكمال الصورة الناقصة التي نشأت عن الاعتماد على محاورتي جورجياس وفيدروس وحدهما، وهنا يسعى لاستكشاف تصورات الخطابة كما تجلَّت في محاورات يوثيديموس وبروتاجوراس ومينون، ثمّ يعود عبيد مرّة أخرى في الفصل الخامس من الكتاب للربط بين نقد أفلاطون للخطابة وأحد أبرز الأحداث السياسية العربية في العصر الحديث أي الربيع العربي بعنوان “الخطابة في الربيع العربي: عودة إلى خطابتيْ أفلاطون وأرسطو لفهم الراهن واستشراف الآتي” فيتساءل عن الخطابة وماهيتها وأهميتها بالنسبة إلى الناس؟ وما أنواع الحجج التي يستعملها الخطيب في إقناع سامعية؟

في البداية يقرّ الكاتب أن أحداث الربيع العربي ستفتح الباب واسعا أمام تغيرات آتية لا محالة، بدأت طلائعها تظهر رغم صلابة المنظومات القديمة والشرسة، فيرصد أهمّ هذه التحولات والتغييرات، وإن كان مفرطا بالأمل على نحو علاقة الجماهير بالخطابات السياسية ومتابعتها لها بعد عقود من الإعراض عنها، والانصراف إلى غيرها، إضافة إلى أنها فتحت الأفواه التي كانت مُكَبَّلَة غير قادرة على النطق، لعهود طويلة، وهو ما يعني اعتبار حرية التعبير مكسبا لهذه الثورات، وهنا يستخلص من هذا أهمية جديدة لفن الخطابة ويعدُّها “فنا نافعا وخطيرا في آن معا”، وهو ما يتفق مع ما قاله أرسطو وهو يرد على مَن يتهم الخطابة بإحداث الضرر.

فميلاد الخطابة على حدِّ قوله مرتبط بموت الطاغية. ومن هنا نشأت الخطابة وظهر من يعلِّم قواعدها، وصارت صنعة يتعلمها الناس وتدر على السفسطائيين أموالا طائلة لاسيما في مدينة أثينا.

ويجدّد محمد الولي ما أُثير من عداء للخطابة، وهو ناتج كما يقول عن الخوف من استفحال تأثيرها في التدبير السياسي، ولكنه ينتهي بعد عرض لمحاورة جورجياس، إلى التأكيد على أن الخطابة تهتم دائما بالعدل. على عكس ما سعى سقراط حين وضعهما على طرفي نقيض، لا يتحقّق أحدهما إلا بإبطال الآخر. ويرى الكاتب أن السبب الرئيسي لنقد الخطابة عند أفلاطون، ليس الخطابة في حد ذاتها وإنما نقد السياسة التي تبررها.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

423 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع