رواية - حفل رئاسي - الردهة السجن
إنها ليست غرفة إنعاش خاصة، ولا ردهة علاج عامة، هي قاعة تشبه تلك القاعات القديمة، لثكنات عسكرية شيدها البريطانيون، اثر دخول جيوشهم العراق بعد الحرب العالمية الأولى. شبابيكها الثلاث، تغلفها من الخارج قضبان حديد سميكة، تتوزع على أرضها المكسية بطبقة من الإسمنت، أربعة أسرة من الحديد مبعثرة بغير انتظام.
هيئة الجنديان اللذان يتواجدان داخلها، بأسلحتهم الآلية وقيافتهم القتالية تثير الدهشة.
تجهم المدنيان بينهما يعزز هذه الدهشة.
حضر الطبيب لإتمام إجراءات الفحص واستلام المريض، إجراء روتيني عند الانتقال من مستشفى، الى آخر داخل البلد الواحد، بل ومن ردهة الى أخرى داخل المستشفى الواحد.
سأل أولا عن اسم المريض؟.
حاول طارق من جانبه الإجابة، سبقه المدني القريب من السرير، معطياً اسماً ثلاثياً مغايراً، ومعلومات وافية، في محاولة منه، يعتقدها ضرورية لسد الثغرات الامنية، إذا ما تم الاستمرار في الكلام:
انه محمد حسن عبد الرحمن، عمره أربعون سنة، عمله موظف مدني في وزارة الدفاع.
نعم؟.... سأل طارق ثم سكت، وكذلك الآخرين، فأكمل الطبيب اجراءات الاستلام، واضعاً اسمه النقيب الطبيب خالد حسين، وتوقيعه البسيط على الصحيفة الطبية. غادر بعدها القاعة دون التفوه بكلمة واحدة.
ينتصب شعره فزعاً، كان لحضتها كمن يتقدم الخطوة الأخيرة، باتجاه تنفيذ حكم الاعدام، لم يعد يقوى على التفسير، لا وقت لديه للتفسير، كل شيء حاصل هنا، في هذا اليوم غريب.
الجنود المسلحون.
المدنيون الواقفون.
الردهة الطبية السجن، وحراسها المتأهبون.
وما حصل في الأمس كذلك غريب.
الترحاب المفرط بالأشواق، من قبل علي حسن المجيد.
السلام الحار، ودعوة الغداء التي تقدم بها برزان رئيس جهاز المخابرات العتيد.
والأغرب منهما معاً، هذا الاسم الذي سُجل به محمد في الصحيفة الطبية. ... غرابة دفعته الى التوجه بالكلام صوب المدني، الذي منحه الاسم قبل قليل، مستفسراً عن حاله، وفيما إذا كان موقوفاً، فحصل على ما يكفي لاتمام التفسير.
نعم توقيف احترازي على ذمة المؤامرة.
عندها شعر بالدوار، وكأن مظلته لم تنفتح أثناء القفز من طائرة تحلق على أرتفاع قليل.
نزع الكمامة التي وضعت على الفم، لتعويض نقص الاوكسجين في الدم، طالباً الخروج من المستشفى، والتوجه على الفور الى غرف التحقيق قائلاً، لا علاقة لي بالمؤامرة.
أنا بعيد عن الخيانة، وعن أي مؤامرة.
ثقتي بنفسي عالية، وكذلك بالرفاق في القيادة، وعلى رأسهم السيد الرئيس.
لكنك مصاب بالجلطة، والأوامر التي بحوزتي، الحفاظ على حياتك حتى تتعافى، ومن بعده اصطحابك الى التحقيق، لماذا الاستعجال؟.
قالها الشخص المدني الواقف في المواجهة. وقال هو كلاماً يفهم منه القدرة على تحمل المسؤولية، مثلما تحملها في ألمانيا قبل أربعة أيام. كلامٌ أتمه بلهاثٍ، يكاد يُخرج القلب من قفصه الصدري. الأمر الذي دفع المدني طلب الهدوء، والبقاء في المكان، بغية الاتصال بالهاتف، والحصول على اذن الخروج.
كان وقع الدقائق التي مرت، أنتظاراً لإذن الخروج ثقيل على القلب، وكان الألم يعتصره من الداخل، بدرجة زيدّت من الوجع وغشاوة العينين، وأكبرت من حوله غرابة الموقف، هذا اللغز الخاص بالمؤامرة، وضاعفت تعقيدات التفسير.
تحسس بكلتا يديه الجانب الأيسر من الصدر، كأنه يريد التأكد من قدرة القلب على مواجهة الموقف الجديد، فشعر لحظتها تمركز الألم وسطه، قلباً لم يتعافى بعد، ورغبة في داخله ابعاد هذا الألم، أو تأجيله حتى اثبات براءاته من المشاركة في المؤامرة، التي لا يعرف لها جذور.
سأله الشخص المدني، بعد تأمينه الاتصال بمراجعه في الجهاز، فيما إذا كان قادراً على المشي، فحصل على اجابة سريعة تؤشر اصراراً على المشي، من دون الحاجة الى معاونة أحد.
السيارة الفولكس واگن تقف في الشارع الفرعي المحاذي للقاعة، جلس هو أو أجبر على الجلوس في الحوض الخلفي، وبجانبه الشاب المدني الثاني، المنتسب هو الآخر الى المخابرات. وبعد اتمام جلوسه من دون اجهاد على القلب، سأل عن الوجهة فيما إذا كانت الى المخابرات، أو الى رئيسها الرفيق أبو محمد، الذي كان عنده ضيفاً في الأمس... كلام عابر للترويح عن مشاعر الاحساس بالابتئاس، أو لاثبات الذات الحزبي، حصاده طلب السكوت والامتناع عن الكلام، ووعد بالتعرف قريباً على المكان، وامتلاك الوقت الكافي للدفاع عن النفس، الأمارة بسوء المشاركة في المؤامرة.
لكنه يريد أن يتكلم مدفوع باحباطات الخيبة، والضياع التي لَفَتْ ثنايا عقله. وعندما واجه الأمر الحازم بالسكوت، وغياب فرص النفاذ لما يريده من كلام، قال مع نفسه، يا الهي هل يمكن أن ينتهي الانسان هكذا في لحظة، من دون أن يتكلم!.
نعم ماذا قلت؟... وعندما رد بالنفي، وانه يتكلم مع نفسه، طلب منه أن يصمت، فالأوامر التي لديه تحتم أن يصمت.
وهل مناجاة الصمت ممنوعة؟.
سأل كمن يريد أن يستمر في الكلام عن أي شيء، ليثبت أنه واعٍ أو انه مازال موجوداً، بعد الشك الذي تسرب الى نفسه من انه يحلم. فجاءه الرد، إصمت والا ستتلقى ما لا تتوقعه، ونحن في الشارع سائرون نحو المصير المحتوم.
....................................
اعتاد اللواء الركن وليد محمود سيرت، قائد الفيلق الأول، الموجود معسكره في كركوك، مدينة الذهب الأسود. التمرن على الرمي المباشر، بالمسدس في ميدان خاص أُعدَ لهذا الغرض، قريباً من المقر، نهجاً أسبوعياً، ورياضةً عدّها لازمة لإدامة اللياقة العقلية، وإبقاء التركيز دقيقاً، وسعياً لتسجيل رقم قياسي، بدقة الرمي للضباط القادة، من دون اسقاط من الحسابات الخاصة، قراءة كتاب يزيد من سعة الاطلاع، يطور قابليات الحوار، يحسن أساليب الكتابة، وينمي القدرات المعرفية.
يجاوره في خط الرمي، أمين سر الفرع العسكري للحزب السيد فنر شاهر، في محاولة منه تقليد هذا القائد المعروف، بانضباطه وغزارة معلوماته العامة، فضلاً عن العسكرية التي يتقن فنونها بجدارة. لكن السيد فنر لم يكمل الرمي بحسب المنهج، الذي سار عليه القائد، بعد أن طَلبَ منه سعيد مدير مكتبه، العودة المستعجلة الى المقر، للرد على مكالمة هاتفية من القيادة القطرية، فوجه كلامه الى القائد وليد، مستأذناً السماح بالعودة الى المكتب لأمر هام، واعداً تناول العشاء معاً في المساء.
رد عليه باشارة القبول والعودة الى مقره، بعد آخر اطلاقة سيرميها في الهدف، خلال الدقائق الثلاث القادمة. هكذا هو، دقيق في التعامل مع وقت، يريد استثمار جله من أجل التسلح بالمعرفة، والخبرة التي لا تتوقف عند حدود معينة، بحسب رأي طالما كرره أمام الضباط الذين يعملون بامرته.
لم يتوقف الهاتف الأحمر، الموصول مباشرة بأمانة سر القطر عن الرنين، يحاول المتكلم في معاودته الاتصال كل دقيقة، التأكد جاهداً من عودة عضو القيادة الى مكتبه، وكأن أمراً قد حدث هاماً في بغداد.
مسك سماعة الهاتف بيده اليسرى، أصغى جيداً الى التوجيهات الآتية من الرفيق عضو القيادة القطرية، وزير الدفاع شخصياً، سجل الكلمات بحجم كبير على ورقة، كانت موجودة على سطح مكتبه، وبخط غير واضح، كأن أصابع يده غير مسيطرة على القلم، حتى بات يكرر كلمة نعم، بعد كل كلمتين يسجلها، لغرض إعادة تكرار الأمر المطلوب، فامتلأت الورقة بكلمات قليلة متفرقة، أزاحها جانباً، وتناول أخرى بارتباك واضح، دفع سعيد أن يحملق فيها، بعينين فارغتين من كل معنى، سوى الرغبة في الاطلاع على ما يثير الفضول، وان كان وقوفه الى الخلف بمسافة تزيد عن المتر.
تمنعَ عن القراءة خوفاً، عندما فهم مادتها، فحاول إدارة رأسه باتجاه الشباك الجانبي، لكنه عاودها بدوافع الفضول ذاتها، فتأكد أن المكتوب:
التوجه فوراً، بصحبة اثنين من أعضاء الفروع، ومدير المخابرات الشمالية، الى مقر الخائن وليد، لقاء القبض عليه، وإذلاله.
يجلب حياً الى بغداد على الفور.
لا يسمح له الاتصال بأي شخص كان.
هناك ضابط من جهاز المخابرات، سيصل المكتب في الوقت القريب، لديه كل التفاصيل، يجري التنسيق معه لما يتعلق بالتنفيذ".
نعم سيتم إجراء اللازم بمجرد وصول الضابط، قال فنر، ثم وضع السماعة في مكانها، ليأخذه العقل غصباً الى بعيد، كأنه هرب من مكان يتحصن فيه الى آخر مكشوف في البعيد.
فكر في المفاجئة غير المحسوبة التي قد تحدث، وفي كيفية تنفيذ الأمر، وفيما يقوله عند المواجهة المباشرة مع اللواء وليد، وهو العارف به، ضابط صعب وشجاع؟. جلس في مكانه ينتظر ضابط المخابرات، يخطط لما سيقول، وما يتخذ من إجراءات تنفيذ المهمة العسيرة، لضمان نجاحها بلا إثارة وردود أفعال. بينما وقف وليد في مكتبه بعد عودته من الرمي مباشرة، يتابع تأشيرات الخريطة، مع ضابط ركن الاستخبارات.
قصر قامته النسبي أضاف له مسحة وجاهة، على العكس مما هو معهود. أشرَ بيد يسرى أعتاد استخدامها، بدلاً من اليمنى التي أصيبت بإطلاقة قناص في القتال. سأل عن علامات مميزة، وعوارض جبلية، واشجار متفرقة، ومنابع مياه، كأنه مكتشف يحاول تثبيت، وقائع أدرك وجودها للمرة الأولى، في الطبيعة الكونية الواسعة.
دعونا نشرع، قال فنر الى مجموعته، بعد اكتمال طاقمها، بوصول ضابط المخابرات، في نصف الساعة التي أعقبت استلامه أمر القبض، عن طريق الهاتف. وقبل أن يدخلوا على القائد المعرّف خائناً منذ لحظات، عرجّوا على رئيس أركانه، أوحوا له قرب وصول زائر مهم من بغداد بطائرة سمتية، زادوا من سعة الايحاء بتقريب صورته من الرئيس، فهو الأهم، والأوحد، ومن يريد الاطمئنان على سير العمل في هذا المقر المهم. طلبوا بصريح العبارة، ضرورة إخلاء المقر، من جميع الحمايات الخاصة بالقائد، ورجال الانضباط، كإجراء أمني يهم الرئيس.
نفذ رئيس الأركان من جانبه من دون الحاجة لاشعار القائد، فأخلى المقر من رجال الحمايات والانضباط، وأوقف ضباط المقر في صف عريض، حسب القدم العسكري، إيذانا باستقبال الرئيس. عندها دخل الطاقم على القائد وهو على حاله، واقف أمام الخرائط التي تبين، مواقع قوات فيلقه في عموم القاطع.
أوقف القائد متابعته، أذِنَ لضابط الاستخبارات الموجود معه بالانصراف، ابتسم مرحباً بالرفيق فنر، ومن معه من أعضاء التنظيم الذين يعرفهم باعتباره واحد منهم. أشار لهم بالجلوس:
تفضلوا، أهلا بكم في قيادة الفيلق، الآن سيحين موعد الفطور الصباحي، يشرفنا مشاركتكم ضباط المقر فطورهم.
لم نأتِ الى هنا من أجل الجلوس، قالها فنر بلغة فضة، دفعت وليد القائد المعتد بنفسه الاستفسار بغرابة عن أسباب المجيء، وبلغة مؤدبة فيها قدر من الصرامة. فأجاب فنر، الذي حاول أمام جماعته الظهور بمظهر قوي، من أين يأتي الخير والخونة مندسين بيننا؟.
لا تطيل الكلام، أنت موقوف بأمر من الحزب، تفضل معنا.
رمق وليد مسؤوله عضو القيادة بنظرة تعجّب، لها معان كثيرة. لم يعلق على الكلام الذي ملء الغرفة، استعراضاً قلقاً أبداه الحضور، جميعهم من دون استثناء... اشادة بالقائد الضرورة، وبالحزب العظيم، وبمواقف الاخلاص للثورة والوطن، وكلمات أخرى، ذات معان فارغة المحتوى، كأنها جوفاء، يريد اصحابها تبادل اثبات الولاء فيما بينهم، وان كان مغلفاً بالخوف، وإن كانوا هم في المراكز العليا من حكم البلاد.
مد يده بثبات الى غطاء الرأس "البيرية"، لتكتمل قيافته العسكرية كما هي عادته، ومن بعدها قدم كلتا يديه، بثبات أيضاً، الى الرفيق الذي كان يشاركه الرمي قبل نصف ساعة من الآن، إشارة لوضع الأغلال، معلناً جهوزيته.
وهو هكذا، وقبل أن يخطو خطوته الأولى معتقلاً على يد الرفاق، قال بصوت أقل حدة، لقد أستعجل كثيراً.
ماذا تقول؟.... لا لم أقل شيئا، أتكلم عن دوران العجلة.
ماذا تقصد؟.
أمور لا يمكن أن تفهمها. قد تفهمها مستقبلاً، إذا لم يطالك غبارها.
صف الضباط الواقف على جنب، في الممر الطويل، بدعوى الترحيب بالزائر المهم، يتصدع نفسياً، حال المشاهدة الأولية لمنظر السائرين، أمامهم في هذه الساعة الصباحية من النهار.
أمين سر الفرع في الأمام، مزهواً بإلقاء القبض على رفيقم القائد، بطريقة لم تحدث من قبل، ولم يقرأوا عنها في تاريخ الأمم والجيوش، ساسة البلاد يأكلون قادة جيوشهم، كأنهم أعداء.
يعقبه هو في المشي، قائد عرف بالجرأة، مكبل اليدين، رافعاً الرأس، وإن وُصفَ من آسريه بالخائن قبل قليل، لا يعترف بتوصيف الخيانة الآتية منهم، رفاق يحسبهم بائسين، ولم يحسبها خيانة بأي حال من الأحوال، هي من وجهة نظره، ومنذ اللحظة الاولى، تصفية حسابات، ومساعي سيطرة على الحكم، وبسط نفوذ مخطط له.
يطوقه في المشي ثلاثة هم أعضاء الفرع، ومدير المخابرات الشمالية.
يدفعه ضابط المخابرات القادم من بغداد، ببندقيته نصف أخمص، كلما تباطء في السير، كمن يريد حرمانه من استعراض، طمأنة جمهور يحبه، أو تفويت الفرصة عليه... فرصة ارادها سانحة لإلقاء تبعة الخيانة على آسريه.
لم يؤدوا التحية التي اعتادوا تأديتها.
لا يمكنهم تأدية التحية.
التحية لا تؤدى لموصوف بالخيانة، بحضور واصفيه.
ولا لمن نزعت رتبته العسكرية، وسيق مكبل اليدين، مطعوناً من رفاقه الجلادين.
صوبَّ نظره إليهم، واقفين بلا حراك، مثل تماثيل حجرية، كأنه يريد القول شيئاً لم يفهمه أحد منهم، وإن قرأه البعض وداعاً أخيراً. وقبل أن يبتعد عنهم، دققوا في ابتسامته الشامتة بآسريه، فأخذوا جرعة علاج، لقلق في نفوسهم من التبعات.
لقد تركوه هكذا آسفين، وتركهم هو في وضع، كأن الحزن قد تجمد في قلوبهم حائرين، وبات الخوف دفقات تسري متواصلة، في عروقهم المتيبسة.
موقف صعب، بل أكثر من صعب، أخذ وسطه الرائد الركن فؤاد حسين علي، صديقه الرائد حاتم عبد الأمير الفيحان جانباً. سأله عن الكيفية التي هوى فيها هذا القائد الفذ، مثل سعف نخيل عراقي، سقط بعد يباس.
لم يفهم حاتم قصده، أو لم يريد أن يفهم، وبدلاً من أن يفهم، طلب التستر على القول والمشي جانباً، مردداً العبارة الشائعة في العراق، من أن للجدران آذان.
حاول فؤاد الإبتعاد عن الجدران، والتحسس من سماعها للكلام، بالخروج معاً الى الباحة المجاورة، بحجة انقطاع النفس، وقرب الشعور بالاختناق، وأجاب عن السؤال الذي وجهه قبل قليل قائلاً:
لقد هوى هذا الضابط العظيم، بسبب تاريخه العسكري الفريد، إنه الأول في تخرجه على دورته في الكلية العسكرية البريطانية "سانت هيرست" وكذلك الأول على كلية الأركان العراقية. أجاد اللغة الإنجليزية بطلاقة، فهم العربية بحرفية عالية. ألف في العلوم العسكرية كتباً، وكراسات عدة بعد تخرجه مباشرة. ألمَّ بصنوف الجيش وتعاليمها أكثر من أصحابها. عشق مهنته، بات فيها معلماً من الطراز الأول. أحب عائلته وأخلص لها. قدَّر أصدقائه القليلين. آراءه عن التوازن والردع، وعن الطبيعة، والتاريخ، وعلوم النفس، والاجتماع تبهر سامعيه، تثير احترام العارفين، وعداء الجهلة الوصوليين والانتهازيين. ثم عاود طرح السؤال:
هل عرفت، لمَ هوى هذا النجم اللامع، وسط الظلام؟. فأجابه:
أن هذا الكلام خطير، أأمل عدم تكراره أمام أحد سواي قال حاتم، ومع هذا قد يكون ما حصل نتيجة اشتباه، وقد يعود قريباً الى مقره، خاصة وان القيادة لا تفرط منطقياً، بقائد كبير مثل اللواء وليد.
لم يؤيده في هذا الرأي، أكد وهماً يتلبسه في هذا الجانب على وجه الخصوص. ولتعزيز وجهة نظره الخاصة بالوهم، قص عليه ما سمعه من خاله اسماعيل حنتوش، الذي ولد في الكرخ عام 1900، وعاش معهم عازباً في البيت القديم بسوق حمادة، من أن صناعياً من أهل الكرخ، كان ماهراً في صنعته. عكف على صنع بندقية تشبه بندقية البرنو الألمانية الشهيرة. أهداها الى الملك فيصل الأول الذي كرمه على صنعها.
سأل حاتم، وما شكل العلاقة بين الموضوعين؟.... فطلب فؤاد التريث، وعدم الاستعجال حتى أنتهاء القصة. وأكمل، ان الصنائعي الماهر، مات في السجن بعد تكريم الملك بشهور، بتهمة التجسس للألمان. ومن ذاك اليوم، لم نسمع أحداً في العراق صنع بندقية، أو حتى إبرة لها، وسوف لن نسمع من الآن فصاعداً، عن قائد متميز وعالم كبير. منهياً كلامه، بالتأكيد على عدم عودة القائد، لأن وجودهُ عالماً، وضابطاً جيداً أصبح عائقاً أمام تسلق الأقل منه قدماً، ومنزلة من باقي الضباط.
فؤاد، أنت تهذي، ماذا تقول؟.
دعنا ننتظر الأيام وسنسمع العجب.
القائد سيقدم حياته ثمناً لقدرات عالية، وسط صفوف من الجهلة، وصائدي فرص انتهازيين.
ما زلت تهذي.
رد وعيونه كادت تدمع حزناً على قائد، وبلد بعبارة قصيرة "وما فائدة الهذيان سوى الترويح عن النفس، التي خارت قواها من وقع الصدمة".
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/36865-2018-09-06-06-34-22.html
404 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع