ناجي جواد الساعاتي وقبر الشاعر الكبير معروف الرصافي الذي كاد ان يودي بحياته في سن مبكرة.
في رثاءه لوالدي المرحوم ناجي جواد الساعاتي نشر الأخ الدكتور رشيد الخيون مقالا عنونه ( ناجي جواد الساعاتي عرَّاب الثقافة العراقية)، وكتب فيه ان هذا الرجل لوحده كان يقوم بدور وزارة للثقافة كاملة. وبكل تواضع أقول ان هذا لعمري هو الوصف الدقيق للمرحوم والدي. وعندما كبرنا نحن ابناءه وبناته بدانا نشعر بقيمة ما كان يفعله، و مكانته بين العراقيين بكافة شرائحهم ، مثقفين وتجار وأدباء وبسطاء، ومن خلال علاقاته هذه ومحبة الناس له كنّا نحضر ونلتقي بالقامات الأدبية الكبيرة ووجوه المجتمع التي كانت تزوره في متجره او التي كان يحرص على استضافتها سواء في داره او في النوادي الاجتماعية عندما يكون العدد اكبر مما يتسعه الدار.
وقبل فترة نَشَرتُ على هذا الموقع الجميل صورة جماعية لإحدى هذه الدعوات، والتي تكرم شقيقي د شوقي بتدوين اسماء التي ضمتهم حول الصورة. ولا يمكن ان ننسى نحن ابناءه وبناته ما كان يضيفه، ولا يزال، اسمه اللامع و ومكانته الطيبة علينا من إحترام وتقدير، واذكر انني في مرة من المرات في الغربة احتجت الى مساعدة احد الأساتذة ذوي المراكز العالية، وكنت مترددا في طلب مساعدته لكوني لم أكن سوى طالبا صغيرا في بداية طريقي العلمي. وبعد استجمعت قواي ذهبت اليه، واستقبلني الرجل بصورة ودية جدا بثت في نفسي الراحة وألطمانينة، وعندما شكرته على تفضله بمساعدتي، سألته عن إمكانية ان ألجأ اليه ثانية، قال بالتأكيد لانك ابن رجل صاحب فضل عليّ لانه هو من كفلني لكي اسافر في بعثة للدراسة في الخارج في وقت لم تكن عائلتي من اليسر لكي تفعل ذلك، و ما أقوم به معك هو جزء من رد جميل والدك علي. وأستطيع ان اسرد من هذه القصص الكثير.
ما ذكرني بهذه الذكريات هو الأخ العلامة الدكتور وليد محمود خالص، الذي كتب لي قبل ايام يخبرني كم انه شعر بالفخر عندما قرأ في كتاب استاذه المرحوم الدكتور يوسف عز الدين عن الشاعر العراقي العربي الكبير معروف الرصافي، (الرصافي يروي سيرة حياته)، ان قبر الشاعر كاد ان يندرس و يندثر لولا مبادرة ناجي جواد الساعاتي الذي قام بإعادة بناءه. وذكرني هذا الامر بحادثة مؤلمة، او كادت ان تكون كارثية على والدي وعلينا نحن صغاره آنذاك. و لها صلة بالموضوع، وهي توضح نوازع الخير والشر في البشر، فمثل ما يوجد أشخاص لا يذكرون او لا يسعون الا في الخير، فان هناك نفوس جبلت على الشر والاساءة للآخرين، وفِي بعض الاحيان تطوعا.
بعد الإطاحة بنظام المرحوم عبد الكريم قاسم في 8 شباط 1963، والحملة الدموية التي قام بها النظام الجديد على الشيوعيين واليساريين وكل من أُتُهِمٓ بهذه الصفة، صدرت في بغداد جريدة يومية جديدة تابعة للسلطة الجديدة أطلق عليها اسم الجماهير. وفِي هذه الجريدة كان هناك صحفي سيّء يكتب عمودا بعنوان (هل تعلم) استخدمه للإساءة الى العراقيين الشرفاء والوطنيين وأبناء العوائل الكريمة. وفِي احدالاعداد في ايّام التصفيات الدموية كتب في عاموده الخبر التالي (هل تعلم ان الشيوعي ناجي جواد الساعاتي قد قام ببناء قبر مشهد)، وكل من عاش وعاصر تلك الفترة يتذكر ما مصير من يُتهم بكونه شيوعيا او حتى يساريا. لقد كانت تهمة كهذه كافية لان تودي بحياة من يُتهم بها آنذاك. عندما قرأ والدي الخبر اصابه قلق، ليس فقط على حياته، بل على مستقبلنا نحن صغاره من بعده. ولكن ظل الخبر بدون معنى ومُحير، وعندما سالت والدي عن ما قصده كاتبه قال لا ادري هل هو فقط لكي يتهمني بالشيوعية وانا لست كذلك، ام انها محاولة للابتزاز؟ ثم أن العمل الذي قمت به بعد ثورة 1958 هو اعادة بناء قبر الشاعر المرحوم الرصافي كي يصبح سهل الاستدلال عليه لمن يرغب في زيارته. ولم تكن من عادة والدي ان يتبجح بما يفعل، ولولا هذه الحادثة لما عرفنا نحن ابناءه قصة قبر المرحوم الرصافي. وظل الخبر لغزا. بعد يومين او ثلاثة زاره صحفي آخر من أصدقائه و حل له هذا اللغز، حيث اخبره بان ذلك الصحفي السيء كتب الخبر على أساس ان والدي قد بنى قبر المرحوم فهد، سكرتير عام الحزب الشيوعي الذي اعدم عام 1949، ولكن العناية الإلهية تدخلت لتحمي والدي فحدث الخطأ المطبعي وتحولت الكلمة الى مشهد. والعجيب في الامر ان المرحوم والدي لم يحمل اية ضغينة ضد هذا الصحفي السئ، واذكر انني سألته مرة وبعد سنين طويلة و بعد ان استذكرنا الحادثة، عن اسمه الا انه رفض ان يعطيني الاسم وقال لي لقد نسيته، ولم تفلح محاولاتي لاقناعه بذكر الاسم. المهم ورغم هذه الحادثة، وحوادث اخرى تعرض لها والدي اتسمت بالجحود ورد الاحسان بالإساءة، لم يغير من اندفاعه في مد يد العون لكل من يحتاجه وهو قادر على ذلك. رحم الله الشخصية البغدادية الأصيلة الوالد ناجي جواد الذي سيبقى موضع فخر واعتزاز لنا نحن ابناءه وبناته وأحفاده ما حيينا.
1258 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع