العربية.نت – عهد فاضل:لا يكون الشعر، دائماً، صورة من حياة الشاعر، أو نسخة من طبيعته وصفاته. وليس بالضرورة أن يأتي الشاعر بقيم اجتماعية، وتكون سيرته الذاتية متفقةً معها. فقد يكون عالماً باللغة وبحراً في علومها، إلا أنه، رغم ذلك العِلم الواسع، قد يكون بخيلاً يقتّر على نفسه وعلى غيره، كأبي الأسود الدؤلي، ظالم بن عمرو بن سفيان، والمتوفى سنة 69 للهجرة، والذي يعرّفه ياقوت الحموي بالنقل، في "معجم الأدباء" بأنه "أول من وضَع (علم أو قواعد) العربية".
إلا أن الدؤلي، رغم سعة علمه، فقد كان واحداً من أشهر أربعة بخلاء، إلى جانب الحطيئة، وحميد الأرقط، وخالد بن صفوان. حسب ما نقل الحموي في معجمه. وكذلك يفعل الجاحظ إذ عدّه من بين بخلائه.
وقصص البخلاء كثيرة في المصنفات العربية القديمة، إلا أن أعجبها ما اتصل بشاعر اشتُهر بمدح الكرم، وهو أبو الطيب المتنبي، المتوفى سنة 354هـ.
وكذلك فإن المتنبي الذي اشتهر بتعظيم نفسه، في شعره، والمتفاخر الدائم بفروسيته التي عبّر عنها في مواضع كثيرة من شعره، فمن العجيب أن يكون جباناً، في الواقع، ويهرب ويصوّت لأبسط حدث يحصل.
وترد رواية أخرى عن إهانته نفسه وهو يحصي النقود وينشغل عن ضيوفه، الأمر الذي جعل صورته تهتز، وهو بهذا الحرص على إيجاد درهم سقط بين ثنايا حصير، فقيل له: "أما يكفيك ما في هذه الأكياس (من مال) حتى أدميت إصبعك لأجل هذه القطعة؟".
وكذلك عندما قام سيف الدولة الحمداني، برمي بعض عطاياه على الغلمان، دون أن يخص المتنبي بشيء منها، فزاحمَ "الغلمان يلتقط معهم، فغمزهم عليه سيف الدولة، فداسوه وركبوه وصارت عمامته في رقبته، فاستحى!". فقيل عنه، وقتها، أمام سيف الدولة: "يتعاظم تلك العظمة، وينزل إلى هذه المنزلة، لولا حماقته؟!".
وجميع ذلك، من العوالم التي لا تتفق، تقريباً، مع ما أورده المتنبي عن نفسه في شعره. حتى لكأن الإنتاج الأدبي، غير متّسق، بالضرورة، مع الطبيعة الشخصية للشاعر. وهو أمر يبرز بقوة، فيما نقل عن المتنبي الذي نقل عنه، أيضاً، أنه كان يوهم العامّة ويتحايل عليهم لإقناعهم بمقدرات "غير عادية" لديه، الأمر الذي حدا بأحد مصنّفي الأدب، لاتهام المتنبي بقتل كلب مسكين، عبر دس السم في طعامه، لإقناع شخص ما، بمسألة ادّعاها لنفسه!
عمامة المتنبي علقت بشجرة فظن أن الروم قد ظفرت به!
كان سيف الدولة الحمداني، ممدوح المتنبي الأشهر، قد اصطحب الشاعر معه، عدة مرات في غزواته. إلا أن إحدى هذه الغزوات، كشفت ذعر المتنبي وخوفه، عندما كان يسوق فرسه، وإذ بطرف عمامته يعلق بغصن إحدى الأشجار في الطريق. فانتابه هلعٌ شديد، بعدما ظنّ أن الروم قد أمسكت به، خصوصاً أنه كلما جرى بفرسه، كانت عمامته تنتشر!
فأخذ المتنبي يصيح: "الأمان، يا علج!". فقال له سيف الدولة مستغرباً ذعره: "هذه شجرة علقت بعمامتك!". وتقول الرواية التي وردت في كتاب "الصبح المنبي عن حيثية المتنبي" ليوسف الدمشقي البديعي المتوفى سنة 1073هـ، إن سيف الدولة علّق أيضاً على رد فعل المتنبي المذعور بعدما انكشف أمره وعرف أن خوفه كان بسبب شجرة علقت بها عمامته: "فودّ أن الأرض غيّبته!".
يُضرب ولا يرد الضربة بل يكتفي بالرحيل حزناً وغضباً
ذعر المتنبي وهلعه لمّا علقت عمامته بشجرة، فظن أن الروم ظفرت به، يتفق مع الحادثة التي تعرّض فيها للضرب، ولم يردّ الضربة بمثلها. فقد قام نحوي ويدعى ابن خالويه، وهو لغوي مشهور وكان مقدماً عند سيف الدولة أيضاً، بضرب المتنبي على وجهه، بمفتاح معدني كان يحمله، فـ"شجّه"، كما يقول ابن خلكان المتوفى سنة 681هـ، في "وفيات الأعيان"، وأدت الضربة إلى أن يسيل الدم على ثيابه.
وكل الروايات التي تناولت هذه الحادثة، ومنها "البداية والنهاية" للحافظ المؤرخ ابن كثير (701-774هـ)، لم تشر أي واحدة منها إلى أن المتنبي قد ردّ الضربة بمثلها. وتتفق كل الروايات أنه "غضب" فقط، ثم رحل إلى مصر، في الحادثة المعروفة.
متفاخرٌ بفروسية ولا يجيد استعمال السلاح وبخيلٌ يمدح الكرم!
وترد رواية مقتل المتنبي، في كثير من المصنفات العربية، وتختلف في تفاصيل معينة. إلا أن رواية مقتله في "خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب" لعبد القادر بن عمر البغدادي (1030-1093هـ) تكشف جانباً من تلك الحادثة، يتعلق بعدم إجادة المتنبي استعمال سلاحه، وهو المتفاخر بالسيف والرمح أيّما تفاخر.
فجاء في "الخزانة" بعد خبر مقتل المتنبي على يد فاتك بن أبي جهل، وقيام الأخير بطعن الشاعر على يساره ثم نكّسه عن فرسه: "وقال بعض من شاهده: إنه لم تكن فيه فروسية، وإنما كان سيف الدولة سلّمه إلى النخاسين والروّاض، في حلب، فاستجرأ على الركض، فأما استعمال السلاح، فلم يكن من عمله".
وقصة قتله، ذاتها، كشفت جانب البخل في شخصيته. فقد ورد في "الصبح المنبي"، أن من أسباب مقتل المتنبي، إضافة إلى سرده التفاصيل والأسباب الأخرى المعروفة الثابتة، هو بخله. إذ إن بعض الفرسان طلبوا منه خمسين درهماً لقاء مرافقتهم له وحمايته، فرفض "ومنعه الشحُّ والكبر!" من ذلك.
ويضيف البديعي، أن المتنبي كان "إذا سافر لا يترك في بيته درهماً ولا شيئاً يساويه". وقد أورد ابن كثير، هو الآخر، قصة الخمسين درهماً التي رفض المتنبي دفعها لقاء حمايته: "فمنعه الشحّ والكبر"، التي وردت كما هي في "البداية والنهاية".
ويضيف "الصبح المنبي" بالنقل، أن المتنبي "لم يكن فيه ما يشينه ويسقطه، إلا بخله وشرهه على المال!".
وقيل للمتنبي: "قد شاع عنك البخل في الآفاق، ما قد صار سمراً بين الرفاق، وأنت تمدح في شعرك الكرم وأهله، وتذم البخل وأهله. ومعلوم أن البخل قبيحٌ، ومنكَ أقبح، لأنك تتعاطى كبر النفس وعلو الهمة وطلب المُلك، والبخل ينافي سائر ذلك".
وتقول الرواية السالفة، إن المتنبي اعترف ببخله، وذكر سبباً في ذلك، من خلال حادثة حصلت في صباه، وقال: "إن لبخلي سبباً..". ثم يروي الحادثة التي أرغمته، كما قال، على حب جمع مئة ألف دينار، بعد مساجلة مع بائع بطّيخ. بحسب رواية البديعي.
سمّم كلباً وقتله ليوهم شخصاً بأمر جلل!
ومن قصص المتنبي العجيبة، أنه قام بتسميم كلب وقتله، ليوهم شخصاً بأنه يمتلك مزايا معرفة القادم من الأيام.
وتقول الرواية، إن أبا الطيب كان في اللاذقية "أو في غيرها من السواحل" وكان بصحبته رجلٌ يرافقه من مكان إلى آخر، فلقيهما كلبٌ ألحّ في النباح عليهما، ثم انصرف. فقال المتنبي للرجل الذي كان معه: "إنك ستجد الكلب قد مات!".
ولمّا عاد الرجل في وقت لاحق، فإذا به يرى الكلب ميتاً، فعلاً. فيعلّق "الصبح المنبي" على الحادثة بقوله: "لا يمتنع أن يكون أعد له شيئاً من المطاعم مسموماً وألقاه، وهو يخفي عن صاحبه ما فعل!".
وترد قصص كثيرة لا تتفق مع الصورة التي يقدمها المتنبي عن نفسه، في شعره. فهو يظهر حرصاً على جمع دراهم من على الأرض، تعرّضت للتقطيع بسيف، إثر مجادلة حماسية. وعندما قيل له أن يترك "أحد الخدّام يلتقطها ويأتي بها إليك"، فيرفض قائلاً: "بل صاحب الحاجة أَولى".
ولعلّ من مفارقات حياة هذا الرجل، أن "أسخف" ما في شعره و"أوهنه" وأكثره "ركاكة" كان سبب مقتله ومقتل ابنه وغلمانه، بحد ما جاء في "الصبح المنبي". وهي القصيدة الشهيرة التي أولها: "ما أنصف القوم ضبّة، وأمّه الطرطبة".
لكن، على الرغم مما يمكن أن تشكله هذه الصفات الشخصية في الشاعر، وقد تصدم البعض وقد لا تصدم البعض الآخر، فإن المتنبي يظل شاغل الناس، شاعراً من أرفع طبقة من الشعراء العرب المحدثين.
589 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع