رواية - حفل رئاسي / حفل يرعاه الرئيس

   

  رواية - حفل رئاسي /حفل يرعاه الرئيس

   

    

تعيش بغداد مفاجأة من نوع خاص. تورَّم القلق في نفوس الكبار من البعثيين، حال وصولهم يوم الثاني والعشرين من تموز، قاعة بنيت أصلا لتقديم العروض المسرحية، سميت بالخلد، من دون معرفة مسبقة، من ذاك الذي أسماها هكذا، بأنها سَتُخَلدُ مشهداً مثيراً، يأكل فيه الكبار أكباد أبنائهم، في حفل يصفق في ثنايا طقوسه الوثنية، ما تبقى من الأبناء لمنظر المضغ البطيء لأكباد أخوتهم نيئةً. 

يشهدون على دوافع الوليمة، والمضغ، ودس السم، مذهولين غير قادرين على التفريق، بين الوهم وبين الحقيقة، كأنهم قد أصيبوا جميعاً بهستيريا من نوع خاص، لم يذكرها علماء الصحة النفسية من قبل.
يكتمل الجمع حول المسرح المعد مكاناً للحفل الرئاسي، أو بالمعنى الأدق لمسرحية رئاسية.
الأدوار حددها الرئيس الجديد، والمشاهد حددها هو أيضا كرئيس، والناجون قالوا فيما بعد أن قوائم الضحايا قد حددها كذلك الرئيس، قبل ساعات من قرار أتخذه لتسويق فصولها على عجل، وقالوا أيضاً أنه كان ومنذ اللحظة الأولى، لاستلامه دفة الرئاسة مستعجلاً، وكأنه أصيب بضغط الزمن أو بحوازه كما يقال، يريد اليوم ممتداً، لا ينتهي بالساعة الرابعة والعشرين، يتمناه ثمان وأربعون، ولو كان قد أمتلك بعض من أسرار الكون، وقوانينه المادية، لجعله أكثر من ثمان وأربعين.
حضر هذا الفصل على هذا المسرح، بكامل لباسه المدني المستورد خصيصاً من هاروتز، الماركة البريطانية المشهورة. تتقدمه شلة جنود محاربين بلباسهم الزيتوني. تحيط به شلة أخرى، ومن خلفه مباشرة المقدم رباح المرافق الأقدم، تحدق عيناه بمن في القاعة واقفاً، يصفق لمقدم رئيسه، بعيني طائر الباز، قبل أنقضاضه على فأر خرج من جحره، ليلتقط الرزق.
كل شيء محسوب باتجاه اكتمال فعل الهستيريا، للموجودين في محيط المسرح مشاركاين ومشاهدين. وكل حركة مطلوب منها اسباغ الرهبة، على أجواء الحفل المسمى كناية، اجتماعاً لكادر الحزب المتقدم، بقصد الزيادة التراتبية، لوقع التأثير في عقل الحضور هستيرياً.
يأخذ الرئيس الجديد، أو صاحب الحفل ومخرجه في السر، المكان أعلى خشبة المسرح. توزع الجنود الحماة في زوايا القاعة، لتأدية الدور المخصص لهم، تأمين فعل الارهاب الهستيري في نفوس الموجودين. أصوات بساطيلهم عند احتكاكها بأرض القاعة، عوضت عن الموسيقى الكلاسيكية، التي أعتاد المخرجون العراقيون تقديمها مصاحبة، لأقتراب الممثلين واعتلائهم خشبته المعروفة. قال عنها الأخ غير الشقيق للرئيس في جلسة تبادل أنخاب النصر، بعد أسابيع من هذا الحفل، أنها كانت لازمة لتضخيم فعل الهستيريا.
ما زال الجمهور الحزبي المرهوب، واقفاً في مكانه ينتظر الأذن بالجلوس.
تعمد الرئيس تأخير الجلوس، لاعتبارت رآها واجبة، لتحقيق فعل القهر اللازم للنفوس الشقية، من أول لقاء له معهم كرئيس.
التفت الرفيق عزام، السفير في الوزارة، هنا في هذا الوضع، صوب زميله الرفيق رمزي، سأله بقدر من الاستغراب فيما إذا كان هذا المشهد إجتماعاً حزبياً، أم ندوة ثقافية، أم مؤتمراً للنقد والنقد الذاتي، حيث لم يعد يعرف حقاً حسب زعمه. طالبه رمزي بعدم الاستعجال والانتظار قليلاً، فالدقائق القادمة حسب ظنه ستجيب عن السؤال، وفوق هذا ستقدم مفاجئات لم يعهدها هو من قبل.
بقيّ عزام على حاله يسأل، وبقيَّ رمزي متمسكاً بمحاولات التهرب من الجواب، بينما ظل الآخرين في أماكنهم خلف تلك الكراسي الخشبية، التي شهدت عبر تاريخها الطويل، عروض مسرحية لفرق عراقية وعربية، وأخرى أجنبية مشهورة، خلت من المفاجئات، ومشاهد الهستيريا المثيرة للتوتر، وتعكير المزاج.
مشهد الدخول وارتطام البساطيل بالأرض الاسمنتية، وارتداد الكراسي الخشبية أثناء الوقوف، أثارت قدراً ملموساً من التوتر، وحققت غاية الرهبة المقصودة في نفوس الحضور، سحبتهم قسراً الى نوع من الصمت الجنائزي، يشبه في خوائه صمت الحملان، عند تعرضها لهجمات الذئاب. لكنه صمت مؤقت، لم يدم سوى ثوانٍ معدودات، فأهل السياسة لا يصمتون.
لم يتعودوا البقاء صامتين.
لا يؤمنون أصلاً بالحكاية التي تقول "اذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب" .
يصمتون فقط عندما يتكلم المسؤول، فكلامه سيف أمضى من الذهب.
ولأنهم لم يتعودوا، أو في الحقيقة لأنهم يمقتوا الصمت، بادر أحدهم أحتل مكاناً له آخر القاعة بكسره، من خلال هتاف وجد الآخرين أنفسهم مدفوعين، بوقع الهستيريا الى ترديده عالياً:
يحيا الرئيس.
فانتشرت إثره عدوى الهتاف، ومحاولات كسر الصمت.
كثيرون هم الراغبون بالهتاف، حتى شعروا بتدافع هتافاتهم في زحمة القاعة، التي عجت بنوايا تبديد الخوف، عن طريق الهتاف.
الرئيس من جانبه، ملتزم بالتوقيتات التي حددها هو، كمخرج للحفل، وملتزم بتعاقب المشاهد وتوزيع الأدوار التي رسمها هو، كاتب السيناريو الخاص بالحفل، لا يريد الحيدان عن مقاطعه الثابتة، وان عُرفَ عنه الخروج عن النص في حياته العملية، لكنه ليس في كل مرة يخرج فيها عن النص، وليس في هذه المرة، وهذا اليوم المميز في تاريخه السياسي، حيث الرغبة القوية بالتزام الثابت من النص. على هذا أعاد الصمت الى وقعه مطبقاً، بإشارة من يده اليمنى، تعني الاذن بالجلوس، وقطع الهتاف وان كان بحياته المجيدة.
وتعني له أخذ المكان الملائم على كرسي فخم، حول الطاولة الخشبية الأنيقة أعلى المسرح.
وتعني أيضاً رفع الستارة، والبدء بوقائع المشاهد على التوالي، لبدء السيناريو المعد باحكام.
وتعني كذلك حفل رئاسي من نوع خاص، يجهل المشاركون فيه، والمدعوون اليه، المرعوبون وغير المرعوبين، دوافع إقامته في هذا اليوم بالتحديد.
ينهض الرئيس من جديد، إيذانا بالوقوف، ورفع الشعار الخاص بافتتاح الاجتماع الحزبي، تقليد أرساه الحزب منذ تأسيسه، وسار عليه حتى اليوم.
ردد هو الشعار، جزء من الشعار، وأكمل المجتمعون الشطر الأخير منه، فَعُدَ الاجتماع قائماً.
جلس هو أولاً، ومن بعده أخذ الجميع أماكنهم على الكراسي الخشبية التي تطوى، باشارة من عنده.
نظر إليهم بعينين كانتا تبرقان، بريقاً لا يشاهد إلا من تلك الحيوانات الليلية، فَعَلَتْ رغوة الصمت افواههم المغلقة ثانية. ولأنه واحد منهم، مثلهم لا يحب الصمت، فبادر بتبديد ثناياه، بعرض متوالٍ لقدراته الخارقة، على قراءة نوايا المقابل، من خلال النظر في العيون قائلاً:
"المرضى، أنا أعرفهم من أعينهم، لو يصطفون أمامي خمسة آلاف واحد، فأنا أستطيع أن أكشف ما في قلبه من خلال عينيه، إلا حين يغطي عينيه بنظارة سوداء، عندها أطلب اليه أن يزيح النظارة عن عينيه".
يتصاعد صوت التصفيق مع تصاعد ضربات القلب، استجابة للرغبة في كسر الصمت. يعلو صداه سقف القاعة، حداً أعطى المشهد رهبة ذات وقع مخيف، كأنه دويٌ مصدره مجهول.
هتف أحدهم من أصحاب الصفوف الأولى هذه المرة، بحياته رئيساً عظيماً، يعرف كل شيء، يتحسس آلام الفقراء، ينصر المظلومين.
استجاب له آخر من الصفوف الوسطى بهتاف مقتضب، حيث قال بصوت متهدل كأنه قد أصيب برجفة:
أنتهى الظلم بمقدم الرئيس، يحيا الرئيس.
يتعالى التصفيق، فأشعره بنشوة أخذته بعيداً، كمن يحلق فوق السحاب، أسعده مثل مطرب بدأ الغناء تواً، ومعه تعالت أصوات الحضور بكلمة "الله". وتحت تأثير النشوة هذه، وهذا التصفيق الحار مسك قلمه ليكتب شيئاً، ثم عاود النظر الى صفوف الرفاق المرصوفة على الكراسي الخشبية، كانه يريد تكرار كلمة "الله" ليعيد وصلة غناء، أو يكرر بيتاً من الشعر أستهواه الحضور. فكرر مشهد القدرات الخارقة قائلاً:
" كنا كما اعتقد ـ في اجتماع بالمجلس الوطني، وكان موضوع الحديث العلاقات مع سوريا، كان الى جانبي الرفيق عزة ابراهيم، قلت له: اشوف نقطة سوداء في عقل وفي قلب محمد عايش. وهذه النقطة قطعاً لا يمكن ان أخطأ في انها موجودة. لكن فقط أريد منك معاونتي بملاحظاتك، في أي إتجاه يريد محمد عايش يفعل بها؟ وراح الرفيق عزة والتقى به وقال له: لماذا انت غير مرتاح؟ هل يوجد شيء لا يريحك؟. حكى له عايش حكايات عن أحد الرفاق. وادعى انه غير مرتاح من كلام أحد الرفاق في الجلسة. كنت أفتش عن أي رفيق يهز قناعتي فيما اشوفه. جاءني الرفيق عزة ابراهيم، قال لي: لا اعتقد بوجود شيء الا بهذه الحدود".
نعم سيدي، لقد شخصت بنباهتك النقطة السوداء في قلب الخائن، كان متآمراً حقوداً يستحق الموت، قال عزة الذي حصل على موقع النيابة قبل أيام، وهو جالس في مقعده بالصف الأول، وتعزيزاً لهذا القول أشر من مكانه، ملوحاً بكلتا يديه، بما يعلي من شأن الرئيس باني مجد البلاد.
يتفاجأ الرفاق بكلام رئيسهم، فيُعَبرون عن دهشتهم باندفاع شديد نحو التصفيق، وكأنهم يطلبون المزيد من الايضاح. وهو من جانبه كان مستعداً لإعطاء المزيد، بعد توهم العقل هلوسةً بسماع كلمة "الله"، قائلاً:
لقد تعرض الحزب والعراق الى مؤامرة خطيرة، تم اكتشافها بهمة الأخيار، هكذا هو قدرنا سنمضي بخطواتنا النضالية الى الأمام، وطريق النضال كما تعرفون محفوف بالمخاطر.
كلمات أتم بها المشهد الأول.
أعقبها بأخرى على شكل دفعات، مع كل مشاعر انتشاء وتصفيق، ووهم بسماع كلمة "الله" ليمهد من عنده الى مشهد جديد.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

822 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع