إهــــــــــداء
الى كل من سُجِنَ ظلماً من أهل العراق.
الى كل من تعذب في سجنه من أبناء العراق.
لكي يتذكروا وقع الألم ولا يظلموا غيرهم، أذا ما تمكنوا يوماً، هم أو أبنائهم أو أحفادهم من بعدهم، بعد أن أصبح القهر، والظلم والانتقام شائعاً في هذا العراق.
اذهب الى بيتك. لا تتحدث بما حدث... هل فهمت؟.
أجاب بالموافقة صمتاً، وكأنه فهم المغزى المطلوب.
هو لن يتحدث الى أي انسان، حتى لزوجته الأقرب الى القلب.
ولن يتحدث الى بناته أو أصدقائه، ولا الى رفاقه المقربون.
سوف أغلق صندوق الأسرار، لن أفتحه أبداً، هكذا قال لنفسه، بعد تلقيه التحذير الواضح من جاسب، وهو في الطريق الى البيت عائداً من رحلة أبو غريب، السجن المركزي للدولة العراقية.
لقد غلقه بالفعل الا في الأحلام، التي تتسرب من خلالها آلام التعذيب، وحشرجة الموتى، وصرخات منتصف الليل، على شكل كوابيس، رافقته منذ اليوم الأول لخروجه، وباقي الزملاء، وكأنه بتكرارها قد فقد مفاتيح التحكم، بذلك الصندوق المقفل فقط في المنام.
المنام أصبح مقلقاً، يخافه سبيلاً لخروج كلمة أو عبارة، يفسرها الجلادون افشاءاً للأسرار، وعدم تنفيذ الأوامر الصادرة بتقييد اللسان.
أنا أعرف طارق جيداً، هو من أبناء قريتي الجمجمة التي أحبها، عرفته منذ زمن طويل، وعرفت الكثير من أسراره، ولم أعرف ما مر به من تجربة مرعبة أثناء سجنه، أدت به الى هذا الانقلاب على الذات... انقلاب كبير، وهو الانسان المبدئي الذي أعرفه غير ميال الى الانقلاب.
كما عرفت سرمد عن قرب، كان مديراً لي في العمل، وكانت علاقتي به متميزة، وعرفت الكثير من أوصافه، التي تقدمه خطوات عن أبناء جيله العسكريين والحزبيين، ولم أعرف كذلك تفاصيل تجربته في السجن، لأنه هو أيضا قد أغلق صندوق أسراره، بمفاتيح الخوف ذاتها، مثله مثل طارق وحليم وعزام وشكري، والآخرين الناجين من المجزرة، حتى أني وعندما ألتقيته في شارع الشيخ عمر أول مرة، بعد خمس سنوات من مغادرته الجب، حاولت التقرب من ذاكرته، بدافع التعرف الشخصي عن أصل الموضوع، فشعرت بأن قلق العالم كان موجوداً، في صوته الرافض للبوح.
مازلت أتذكر نبرة ذلك الصوت المنفعلة، عندما قال لا أتذكر، وذلك السكون الذي أعقبه، واحساسي انه سكون ليس حقيقياً، جاء من عقل يضج بحزمٍ من صخب الأفكار.
جلست مع طارق أول مرة بعيداً خارج البلاد، أردت تفاصيل تلك الأيام، كان يتهرب من ذكر التفاصيل.
هل كان خائفاً من العودة الى ذكريات سجن أبو غريب؟.
أو أن الذكريات المؤلمة، قد أخذت لها مكاناً بعيداً في قعر ذاكرته الموصدة، لا يريد عقله الباطن خروج لها، يترك جروحاً في ذاته الواهنة؟.
أو أن طعم العلقم في ذكرياته، بعد أكثر من خمس وثلاثين عاماً على تجربة وصفت بالمرة، وأكثر من عشرين سنة، على مغادرة البلاد غير متأسفاً على رمي سبع حصوات وراء ظهره، حين وقف متجاوزاً خط الحدود العراقية السعودية، أيام الانتفاضة الشعبانية التي فتحت له أبواب الهروب واسعة، ومهدت له أو لعقله المرهق كسر جميع الأقفال.
لا أدري، قد يكون الخوف أو خليط المشاعر المفعمة بالأسى، دافعا لكل ذاك الكتمان، كانوا يتهربون دوماً عن ذكر التفاصيل الخاصة بهم، وباقي رفاق شاركوهم زنازينهم، وحفلات التعذيب، وسكرات الموت.
أمر يثير الحيرة والاستغراب.
إنهم لم يكونوا طارئين على بنية الحزب الذي قدمهم، قرابين لاعتلاء قائدهم سدة الرئاسة، وهم الكبار والمنظرين والقادة المنفذين، الذين ساروا معه الطريق، والتجربة التي يصفونها أو يحلوا لهم وصفها، بتجربة نضال.
ولم يكونوا قلة، فالعدد الإجمالي خمس وخمسون، أُعدِمَ منهم اثنان وعشرون بتفويض من المحكمة الحزبية، وثلاث وثلاثون، توزعت عليهم أحكاماً بالسجن، بين الخمسة عشر عاما، وبين السنة الواحدة، قُتل منهم خلال فترة الثلاث سنوات ونصف، أربعة عشر ضحية بطرق مختلفة، وما تبقى منهم خرجوا نصف مقتولين، بعد أن ذاقوا مر العذاب على أيدي الرفاق الجلادين.
إنزل هذا بيتك... هل كانت تلك الكلمة هي البداية الفعلية لطريق الحرية؟.
أم انها كانت بداية قيود جديدة، سوف يفرضها النظام على مناضليه القدامى؟.
أم ان رحلة الحياة الجديدة، ستبدأ مع خطوته التالية، عند دخول البيت، بعد ساعات من مغادرته رهبة سجن شاع اسمه أبو غريب؟.
أعرف انه لم يتحدث بالتفاصيل الى زوجته، أقرب الناس اليه.
بقيَّ متكتماً على أسرار تلك الفترة، التي قضاها في السجن بعيداً عنها، وأربع بنات في ريعان الشباب.
هل هي مرحلة الذل بعد الرخاء الذي عاشه، في حضن السلطة التي سجنته بتهمة التآمر؟.
أم انها مرحلة جديدة من عفو عن خطأ ارتكبه النظام بحقه، وباقي الرفاق؟.
ومع هذا وذاك وعلى الرغم من التكتم عن اسرار تلك الأيام، الا أن حصولي على بعض التفاصيل من آخرين، كان المفتاح السحري لاستفزاز طارق وسرمد وحليم وعزام، وآخرين ممن تبقى على قيد الحياة، للحديث عن التفاصيل المؤلمة لتلك الأيام، باشارة بدأت متشابهة، على شكل غصة، أو لعثمة وصفها طارق ببعض كلمات قائلاً:
حاولتُ مرارا أن أتكلم، لكني ما استطعت. لم يكن ثمة إمكانية لاخراج المكبوت.
كنت وكل مرة أهم فيها لاخراج القليل منه، أجد نفسي وكأني أهذي من كثر القيود.
منذ أن خرجت لم اذق طعم النوم العادي، توقضني الكوابيس أكثر من مرة، وعيناي كأنهما انقلبتا، وأصطبغا بلون الدم.
الإحساس بالآدمية الذي يبقيني انسانا في هذا الوجود، لم يعد موجوداً.
أجزائي أحسبها مقطعة في داخلي، مثل أولئك الذين قتلوا تعذيباً.
عقلي الذي طحنته الأفكار التي تتصارع في طريق الخروج المسدود، احسه كومة أفكار أنتظر خروجها لأعيش بلا أفكار.
بعدها بدأ تداعي الأفكار سيل لا ينقطع، روى فيه أدق التفاصيل، وكذلك فعل الآخرون، كانهم يكتبون بأنفسهم قصة عذاباتهم، ومعاناة من نوع خاص.
342 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع