للغجريات خصوصيات لا يفهمها إلا من عاشها (لوحة للفنانة رامه دهنه)
تعد رواية “الغجرية” للكاتبة المغربية الشابة من الروايات المغربية القليلة التي تشد قارئها منذ الصفحات الأولى لحدثها الاستثنائي، وحتى آخر صفحاتها الـ223 من القطع الكبير، وقد أسهبت الكاتبة في صفحات كثيرة منها في تعداد الصفات وتكرار الوصف والاقتباس من الشعراء والمفكّرين، ممّا يجعل القارئ يبحث عن نهاية لما انشغلتْ به الكاتبة عن متابعة خيوط سردها ومصائر أبطالها.
العرب فيصل عبدالحسن:تبدأ رواية “الغجرية” للكاتبة المغربية الشابة وئام المددي بلقاء غريب بزوجته الغجرية وابنته القادمتين من فرنسا في مراكش، غريب أو بدر، الذي فقد ذاكرته بعد أحداث دراماتيكية عاشها في العراق أثناء حرب تحرير دولة الكويت 1990، وصدرت الرواية قبل أشهر عن المركز الثقافي بالدار البيضاء 2017، بقسمين، وكل قسم تضمن تسعة فصول، وحازت المرتبة الأولى في مسابقة الطيب صالح للرواية في العام الماضي.
صراع الهويات
تعدّدت الأمكنة في رواية “الغجرية”، فانتقلت الساردة بين المغرب والعراق وإسبانيا وفرنسا، وبذلك أغنت الرواية بعمق جغرافي ومعرفي، وجعلت سردها أكثر إمتاعا للقارئ، وصار الخيال أحسن وسيلة للسفر عبر هذه البلدان.
وليس تعدّد الأمكنة وحده الذي أضاف للقارئ رؤية شاملة لشخصياتها، بل أضافت له الكاتبة صراع الهويات، فالبطل بدر مغربي أمازيغي، مثقّف، يقرأ للسياب ومحمود درويش وأليوت وهو من مراكش، واضطر -بسبب شحّة الأعمال بالمغرب- للعمل كفلاح في الكوت بالعراق، بعد أن طلبت حكومة العراق الآلاف من المغاربة لإصلاح الأراضي في الكوت في السبعينات من القرن الماضي، وطلبت منهم العيش في العراق كمواطنين عراقيين، وهيأت لهم سكنا لائقا قرب الأراضي التي وزّعتها عليهم.
هوية أخرى فرضتها الساردة في متنها، هي مهتاب الغجرية العراقية، التي يلتقيها بدر في أحد الأعراس والمعروف عن غجر العراق أنَّهم يعملون بإحياء الأعراس، وخلال ذلك تقدّم الغجريات رقصاتهنّ بملابسهنّ المزركشة، وغنائهنّ الريفي العذب.
وهوية الغجر في العراق هوية تحمل أبعادا ميثولوجية وأسطورية في المخيال الشعبي العراقي، ويندر اندماج الغجر في المجتمع العراقي، وهم عادة يعيشون في مخيمات بعيدة عن المناطق السكنية التي يعيش فيها باقي المجتمع، ولا اختلاط بينهم وبين باقي المجتمع إلاّ نادرا، والعلاقة الوحيدة التي يرتبطون بها بالمجتمع، هي أثناء ممارسة مهنتهم في الرقص لإحياء الأفراح أو عند استقبال الزائرين في مخيّمهم، لتقديم وصلات الرقص للتسرية عنهم لقاء مبالغ مالية، وبما فيها ثمن الطعام والشراب اللذين يقدّمان للزائرين.
ولا تحدث في العادة زواجات بين الغجر وبين الغرباء من خارج محيطهم إلاّ في ما ندر، أو كما حدث لبدر المغربي الذي تزوّج مهتاب الغجرية، وهو حدث فريد لسببين: أولا، صعوبة التفاهم بين طرفين أحدهما يتكلم اللهجة المغربية غير المفهومة للكثيرين في المشرق العربي إلاّ بصعوبة، وغجرية لا تتحدث سوى اللغة الدومرية.
والدومرية خليط من الكلمات الهندية القديمة والإيرانية، ولا يتحدث الغجر “الكاولية”، وهي التسمية العراقية للغجر، إلاّ القليل منهم بعض الكلمات باللهجة الدارجة العراقية، التي بدورها يجد المغربي صعوبة كبيرة في فهمها.
والسبب الثاني، اختلاف المنظومة القيميّة والأخلاقيّة الكبير بين من تربى في مراكش، التي لها تاريخ طويل مع التزمّت الأخلاقي والعادات القبليّة، وفتاة تربّت في مخيّم للغجر تعلّمت فيه كيف ترقص وتغازل الزبائن وتبيع جسدها لمن يدفع أكثر، ووفق هذه المنظومة، فإنَّ أكثر الغجريات نفوذا وسلطة في المخيّم هي من تستطيع أن تجعل في دائرة رقصها أكبر عدد ممكن من الرجال، وتستطيع آخر الليل أن تجذب أكبر عدد من العشاق إلى خيمتها. وعدم معرفة الروائية بما ترتديه الغجريات في العراق، وفي مدينة الكوت بالذات، في حياتهنّ اليومية واضح، فقد افترضت أنّ الغجرية مهتاب مرسال ترتدي تنورة بيضاء كباقي نساء المدينة!
وتقول الساردة عن ذلك “تاهت قدما بدر بين أروقة السوق، أما عيناه فقد كانتا تائهتين وراء بياض تنّورة الغجرية”، (ص 30)، والحال أنّ الغجريات في العراق لا يرتدين التنورات، ولديهنّ أزياء خاصة بهنّ سواء للرقص أو للحياة العامة، وليس بينهنّ ممن تستعمل التنورة، كما أنهنّ لا ينزلن إلى الأسواق، ولا يختلطن بعامة الناس لمحاذير كثيرة اجتماعية وأخلاقية معروفة لدى الغجر وبقية المجتمع الحضري والريفي في العراق.
العودة إلى مراكش
قصة الحب بين مهتاب وبدر تتكلّل بالزواج، ويفرض بدر عليها عاداته وتقاليده، فيمنعها من الرقص أو العودة إلى مخيّم الغجر، وتهرب معه بعيدا عن الأهل والأصحاب، وتنجب له فتاة يسميانها قمر، ولكن بسبب ظروف حرب الخليج الثانية وتحرير دولة الكويت ينفصل عنها.
وهنا تضع الكاتبة افتراضين لمصيره، الأول حملته نسخة الرواية الذاهبة إلى مسابقة “الطيب صالح” في السودان، التي حكت فيها عن التحاقه بصفوف المقاومة العراقية ضد المارينز، أما في النسخة التي هي طبعة المركز الثقافي، فقد حكت فيها شيئا مغايرا عن مشاركة بدر في صفوف الانتفاضة ضد النظام العراقي بعد الانسحاب من الكويت.
وفي الحالتين لم تكن الروائية موفقة، إذ عندما تمّ تحرير دولة الكويت لم تكن هناك مقاومة عراقية ضد جنود المارينز، لينضمّ إليها بدر، أما مساهمته في الانتفاضة ضدّ الجيش العراقي، فهذه غير ممكنة أيضا، لأنَّه مغربي، والانتفاضة منذ البداية اتخذت طابعا طائفيا، وحالما يعرف أولئك المنتفضون أنَّ معهم أحد المغاربة من الذين استقدمتهم الحكومة العراقية للعمل في مزارع الكوت، فسيُقتل فورا بدعوى أنَّه من مخابرات النظام العراقي، وقد التحق بالمنتفضين لينقل المعلومات عن تحركاتهم.
والفرضية الأخرى الخاطئة التي وقعت فيها الكاتبة، أنه حالما يختفي بدر من بيت الزوجية لينضمّ إلى صفوف المقاومة ضد المارينز أو ضد الجيش العراقي حسب الفرضيتين السابقتين، فإنَّ الغجرية مهتاب لكي تنال رزقها ورزق ابنتها قمر، تقرّر العودة لمهنة الرقص!
وهذه المرّة لا تجد غير جنود المارينز لترقص أمامهم، ليغدقوا عليها العطاء، كعادة الأميركيين في البلدان المحتلة، وهذا لم يحدث في الواقع طبعا، لأنّه حالما تم تحرير دولة الكويت وقعت اتفاقية الخيمة في صفوان، ولم يكن لجنود المارينز وجود على الأرض أو المدن العراقية، لكي ترقص لهم مهتاب وتريحهم من عناء الحرب والمقاومة الشعبية. وتفرُّ مهتاب مع غريغوريو (جندي إسباني) إلى إسبانيا بعد أن يشوّه بدر فمها بآلة حادة، لأنَّها في غيابه عادت للرقص، ويتبنى غريغوريو وزوجته آن ابنتها قمر، ويطلقان عليها اسم لونا، ويبقى غريغوريو عشيقا بالسرّ لمهتاب التي يقدّمها لزوجته آن كمربية شرقية للونا، وتستر الرواية معتمدة التشويق والإثارة إلى آخر سطر فيها.
كُتبت الرواية بلغة شعرية، واستطاعت الكاتبة المغربية وئام المددي أن تظهر معرفة بالأماكن التي تابعت فيها أبطال روايتها، ونقلت لنا بعين الكاميرا ما تحدثه الحروب من خراب في حياة الناس.
1057 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع