قراءة في كتاب "البحث عن جذور الإله الواحد: نقد الأيديولوجية الدينية
ايلاف/د.جواد بشارة:ينتاب قارئ الدكتور فالح مهدي حالة من الافتتان يشبه العبادة والصلوات ناجمة عن أسلوب الباحث وطبيعة المواضيع التي يتطرق لها منذ كتابه الأول " البحث عن منقذ" إلى كتابه الأخير " البحث عن جذور الإله الواحد" مروراً بكتبه وأبحاثه الأخرى وإبداعاته الأدبية الروائية والمسرحية التي تتحلى بالجرأة وسعة الأفق العلمية والفكرية التي يتحلى بها الكاتب.
في كتابه الأخير " البحث عن جذور الإله الواحد" هذا، يتناول الباحث موضوعاً حساساً ومسألة عويصة من الناحية الدينية والفلسفية والعلمية لأنها قابلة لمختلف الاجتهادات والتأويلات خاصة عندما يتعامل الباحث ومعه القارئ مع كتب ونصوص مقدسة لا يسمح عادة بمناقشتها أو الطعن في مصداقيتها.
فمنذ مقدمة البحث يطرح الكاتب إشكالية عدم العثور على أية براهين عن حقيقة حدوث الوقائع والقصص والحكايات التي وردت في العهد القديم واستنسخها القرآن فيما بعد بطريقته الخاصة وبأسلوبه الفريد. مستنداً في استنتاجاته على ما قدمه علماء الآثار في فلسطين القديمة وعلى وثائق رافدينية وفرعونية قديمة أيضاً. إلى جانب أبحاث لمفكرين وباحثين معاصرين ومتخصصين من أمثال جون دوليمو في كتابه " تاريخ الجنة" و جون بوتيرو في كتابه " ولادة الله" ويكشف هذا الأخير العلاقة بين اليهودية والثقافة البابلية التي أثرت بالفكر اليهودي والكتابات اليهودية ومنها بالطبع التوراة، لأن هذه العلاقة هي العمود الفقري لكل فكرة التوحيد كما يقول المؤلف وبات معروفاً أن حضارة وادي الرافدين ، أي السومريين والأكديين والآشوريين، احتوت على الكثير من النصوص التي تحدثت عن فكرة التوحيد والإله الواحد قبل التوراة والإنجيل والقرآن، كما ثبت أن أصل قصة الطوفان والنبي نوح في الكتب السماوية هي أسطورة رافدينية كتبت قبل 1500 عام من ظهور العهد القديم وهي ملحمة جلجامش والتي أخذها اليهود المقيمين في بابل بعد السبي اليهودي على يد نبوخذنصر حيث تم تقديم الدليل القاطع على سرقة اليهود للإرث البابلي وادعوا أنه منزل من الله على نبيهم . ولقد سعى المؤلف لعرض الفرق بين الإله الذي صنعته الآيديولوجية الدينية وبين الإله الكوني. أي ذلك الذي يعرفه آينشتين واستمد ماهيته وتعريفه من سبينوزا وهو الذي يجسد أعلى تناغم في الوجود وليس الإله الذي يشغل نفسه بمصائر الكائنات البشرية وبكل صغيرة وكبيرة عندهم، ويجزي أو يعاقب مخلوقاته، فإله الأديان محدود ومختزل بينما إله الأكوان كامل ولا محدود ولامتناهي، ولقد تناولت هذه المسألة باستفاضة في كتاب " إله الأديان وإله الأكوان" الذي سيصدر قريباً عن دار مزيوبوتاميا. وفي المقابل هناك من علماء الكونيات والفيزياء النظرية ممن لايعتقدون حتى بوجود إله مثل العالم البريطاني ستيفن هوكينغ ، وليس هوبكنس كما كتب الدكتور فالح، وقد عرض نظريته ورأيه في كتاب شهير صدر قبل بضعة أعوام باللغة الانجليزية تحت عنوان " التصميم العظيم" وترجمته بالفرنسية كانت" هل هناك مهندس عظيم لهذا الكون؟" ووضعنا أمام مشكلة فلسفية عويصة ، فإذا كان الكون قد خلق بفعل الصدفة فمن خلق الصدفة؟ لكن الدكتور فالح يهرب من هذه المعضلة الفلسفية بمهارة ويجر القاريء إلى نظريته هو بشأن موضوع الرب الدائري والعلاقة بين الحضارات القديمة ، المصرية والرفدينية والفينقية والكنعانية حسب أطروحة الباحث.كما يهرب من مسألة نزوع الإنسان لمعرفة سبب وجوده وما إذا كان بمحض الصدفة أم أن هناك خالق له وللأرض التي يعيش فوقها والتي خلقت من أجله ومن أجل سعادته كما تقول الكتب السماوية. يقف المؤلف مبهوراً أمام قدرة الدين ، أي دين، في تحريك الملايين من الناس حتى في الدول العلمانية المتقدمة والمتطورة فما بالك بالدول النامية أو المحكومة بالفكر الديني والعقل الخرافي؟ ولا ينسى المؤلف من أن يعرج على دور الثورتين الفرنسية 1789 والبلشفية 1917 في وقف المد الديني وسيطرة الكهنوت على الحياة الاجتماعية ، ومقولة ماركس الشهيرة " الدين أفيون الشعوب، ويتساءل " إذا كان الدين أفيون الشعوب فمن أين يا ترى يستمد طاقته وحيويته لكي يكون حاضراً وفاعلاً ومؤثراً في كل ما يخص الشأن الإنساني؟".
وكأي بحث علمي جاد يبدأ الباحث دراسته لتعريف الدين لغوياً ومفهومياً وسيكولوجياً، في مختلف اللغات، العربية والعبرية والانجليزية والفرنسية، واللاتينية، ويخلص إلى أن الدين في جوهر هو الطاعة والخضوع لحاكم أو قوة عليا، وبالتالي فإن الدين ما هو إلا علاقة مع الكائن العلوي، ورغم ذلك بقي الدين عصياً على التعريف بسبب تنوع الثقافات . هناك شعوب لديها تجارب عميقة ومتنوعة وثرية مع الأديان كالصين حيث تعايشت البوذية مع التاوية مع حضور الكونفوشيوسية والإسلام والمسيحية بكافة طوائفهما ومدارسهما الفقهية ، ونفس الشيء في الهند وانتشار الثقافة الهندوسية وتعاملها مع تعدد الآلهة حيث يوجد في الهند 33 مليون إله، مع وجود الديانات والثقافات المسيحية والإسلامية والبوذية واليهودية ، فالسائد هناك هو وحدة الوجود الصوفية ، فكل شيء هو الله وجزءاً منه، فالله المطلق ليس منفصلاً عن العالم والوجود بل هو مكون من كل شيء موجود في هذا الوجود. والبوذية لا تعترف بوجود إله لكنها تستند إلى مفاهيم ومبادئ المستنير بوذا، فالبوذية لا تدعو لعبادة الإله الواحدة ولا تعارض تعدد الآلهة . أما الإيمان في الثقافات القديمة فقد نشأ داخل زمان وفضاء معينين وإن تجربة المقدس الفرعونية والرافدينية ، السومرية والأكدية، تلقي ضوءاً على ثقافة المكان في هذه البقعة من العالم وتتميز التجربة المصرية الفرعونية عن غيرها في اعتبار الملك الفرعون إله ذو مظهر مهيب. أما في العصر الحديث فقد عد الدين بمثابة حالة اغتراب الإنسان عن ذاته كما يقول فيورباخ أو هو إنجاز متخيل للكائن البشري كما يقول ماركس فيما اعتبر فرويد الدين مجرد تعبير عصابي ، مرضي، لذلك اعتبر الدين في اللغة اللاتينية مفهوم يعني التجميع والاستقبال والتوحيد . وهو بالتالي مؤسسة هدفها توجيه التشريف إلى الرب والاحتفاء به ، إلى جانب كونه مجموعة من الطقوس والشعائر تهدف إلى تقديم الثناء والتبريك والقرابين إلى سلطة عليا مقدسة، لذا فهو عبارة عن الشعور الداخلي بذلك المقدس مع الإيمان بتلك القداسة، كما يخلص الباحث. وهناك تعريف أوضح لماركس للدين غير عبارة الدين أفيون الشعوب، والأصح هو الدين أفيون الشعب بالمفرد، والتي يعني بها أن الإيمان الأعمى الذي ينتفي فيه التفكير والقدر على التمحيص والنقد تؤدي بالمؤمن أن يغفو ويرقد رقدة الموتى عما يحيط به من أهوال ومصائب، ليس هذا فحسب ، بل تقوم الأيديولوجية الدينية بترويضه وجعله طيناً وعجيناً يتم التلاعب بوعيه وتوجيهه كيفما ارتأت تلك اليديولوجية، أما تعريفه الأكمل والأوضح فيقول فيه :" الدين هو النظرية العامة لهذا العالم ، قيمته الموسوعية، منطقه بشكله الشعبي، نقطة شرفه الروحانية، ولعه وحماسه البالغ، عقوبته الأخلاقية، طمأنينته وتبريراته الكونية، والتي تمثل الإنجاز المتخيل للكائن الإنساني والسبب في ذلك يكمن في أن الإنسان لا يمتلك الواقع الحقيقي" .. وفي المحصلة يصل المؤلف إلى التعريف التالي:" الدين نظام يستند في قيامه على المخيلة والتمثيل، إذ يقوم منذ لحظة ولادته بتقديم تفسير للعالم بل الكون كله ودور الإنسان فيه ، باعتبار أن الله أو الآلهة ، خلق هو ، أو خلقت هي ، كل شيء من أجله أو أجلها ، أي خلقا " المخيلة"، ويرسما عبر مجموعة المعادلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والطقسية، الطريق الذي يجب عليه أن يسلكه" التمثيل التصوري للإله"، مستندين في ذلك إلى مؤسسات أيديولوجية يقوم بخلقها وتطويرها". لذلك لا نجد هناك عقيدة بدون طقوس ولا يمكنها أن تستقيم وتستمر بدون تلك الشعائر والطقوس. من هنا يعود الباحث إلى نظريته الأثيرة عن المكان ودوره، ويربطها بمفهوم الدين ويقول أن الدين هو تفسير ، بل ترجمة متخيلة للنظام الكوني أوجده الحيز الدائري ، حيث ساعد هذا الحيز الدائري على وجود نظام العقائد بكل أشكالها، وعبر ثقافة المكان نشأ وترعرع الدين وأصبحت له اليد الطولى في كل ما يمت إلى الإنسان بصلة. ودليله على ذلك أن " الحيز الأفقي" الذي تعيشه الإنسانية في الزمن الحاضر، أفقد الدين الكثير من بريقه، حيث استطاع الإنسان المعاصر، بفضل التركيبات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القائمة، والتطور العلمي وسيادة الثقافة الحر، أن يجيب على الأسئلة الوجودية والجوهرية التي تقلقه وتتعلق بوجوده ومصيره ونظام حياته دون الحاجة إلى اللجوء للمعبد والمسجد والكنيسة أو الرجوع للمؤسسات الدينية. أما تولستوي فيقول أن الدين الحقيقي هو ذلك الذي يقيم علاقة ما بين العقل والمعرفة الإنسانية، ما يعني إلغاء دور المؤسسات الدينية، مثلما كان يعلم الفيلسوف والمفكر الفرنسي الشهير فولتير. فلكل دين عقيدة جامعة ووظائف تعمل على رسم وتوجيه حياة المؤمن وتحدد له ماهو ممنوع وماهو مسموح ، أو الحلال والحرام بالمفهوم الإسلامي. وبعد كل هذا الشرح والتفصيل يعود المؤلف ليطرح السؤال ماهو الدين إذاً؟ ليعود مرة أخرى ليخبرنا أن الدين هو بمثابة مجموعة من المباديء والإرشادات الأخلاقية والسلوكية التي تتحكم بالإنسان من خلال الطقوس والشعائر التي يتم تدوينها وتوجيهها مؤطرة بنقطتين جوهريتين هما الإيمان بمفهوم الخالق العلوي الأعلى الموجد لكل شيء، والذي يأخذ عدة صور وأسماء كيهوه بالنسبة لليهود والله بالنسبة للمسلمين وبراهما بالنسبة للهندوس الخ ... وهو مفهوم جوهري موجود في أغلب الديانات حتى في الديانات القديمة فإنليل هو الخالق عند السومريين والذي يتحول إلى مردوخ عند البابليين، بل وحتى عند الأقوام البدائية كما يقول عالم الأديان ميرسياإلياد. وفي كل الأديان هناك أولاً وقبل كل شيء يتوجب قبول مبدأ " الطاعة" والتسليم بالأوامر والتوجيهات المباشرة وغير المباشرة التي تصدرها المؤسسات الدينية بإسم الخالق وهي بطبيعتها ذات طابع أيديولوجي قسري وقمعي يأخذ طابع القدسية، ولقد أشار سبينوزا إلى ذلك في كتابه " رسالة في اللاهوت والسياسة " حيث أكد على مفهوم الطاعة باعتباره ركيزة جوهرية في قيام الإيمان.
وبعد الطاعة يأتي مفهوم أو مبدأ " الإيمان" الذي ينطوي على الثقة بالأشياء التي نأمل بها واليقين بأشياء لم نرها كما هو واضح في العقيدة المسيحية . والإيمان هو الثقة العميقة بمعتقد من المعتقدات لا سيما الأمر الروحاني الذي لا يمكن التأكد منه مادياً وينبغي تقبله وأن يكون المرء المؤمن على يقين من وجوده وصدقيته حتى لو لم يره أو يثبت لديه وجوده. هناك أسباب عديدة للتوحيد وانتقال الإنسان من تعدد الآلهة إلى إله واحد متعال لا تدركه الأبصار، فاطر السماوات والأرض، العالم القدير الخالق الخ.. حسبما أوردته صيغ القداسة الإسلامية كما في غيرها من الأديان السماوية؟ لماذا ظهرت الأديان التوحيدية في منطقة محددة واحدة هي الشرق الأوسط؟ يقول المؤلف في كتابه الرائد هذا أن أول محاول جادة للإجابة على هذه التساؤلات تمثلت بكتاب عالم النفس الشهير سيغموند فرويد الذي يحمل عنوان " موسى والتوحيد" وعرض فيه أطروحة غريبة تقول أن موسى هو أمير مصري خرج من مصر مع أتباعه بعد فشل تجربة الفرعون المجدد والجريء أخناتون الذي فرض عبادة إله الشمس آتون فقط ونبذ باقي الإلهة وهي أول محاولة للتوحيد في العصر الفرعوني. ويتساءل المؤلف ، هل يوجد توحيد قبل العهد القديم؟ ففي الألفية الثالثة قبل الميلاد كان النظام الديني والعقائدي قائماً على مفهوم تعدد الآلهة وتعدد اختصاصاتها لا سيما في الحضارة الرافدينية لكن محرري العهد القديم، أي من صاغوا التوراة والأسفار الخمسة لموسى في حقبة السبي البابلي تأثروا بها إلا أنهم ألغوا فكرة التعدد وتبنوا فكرة التوحيد وعبادة إله واحد خفي لا يرى هو أكبر وأقوى وأكثر عظمة من جميع الآلهة المعروفة آنذاك، وذلك للتغلب على إحباطاتهم النفسية. ولقد نجح كتاب العهد القديم في تأويل وتوظيف النصوص والأساطير والملاحم الرافدينية وعلى ٍرأسها ملحمة جلجامش بما يخدم هدفهم في عبادة الإله الواحد واختلقوا شخصية النبي نوح وعبادته للإله الأعلى الواحد القهار الذي غضب على البشر وقرر إبادتهم من خلال الطوفان وإنقاذه هو وعدد من أفراد عائلته وزوجين من كل الموجودات الحيوانية والنباتية لإعادة إعمار الأرض بالحياة الجديدة المبنية على عبادة الله الواحد وعدم الشرك به. فالرقم الطينية المكتشفة تقول بحدوث طوفان فعلاً وتروي قصته بعيداً عن القداسة الدينية التوراتية إلا أن اليهود عملوا على توظيفها دينياً ورمزياً وأسطورياً من أجل هدف محدد يقول أن مصير المشركين الهلاك ومصير المؤمنين الموحدين النجاة . ففي النص السومري أن الآلهة الشريرة قررت إغراق الأرض للتخلص من الإنسان وشروره وتحدياته للآلهة ومحو أثره من على وجه الأرض ، إلا أن الآلهة الخيرة قررت إنقاذ أتونابشتم وزوجته من تلك الكارثة ومنحهما الخلود. وجهت الآلهة الخيرة تابعها المخلص الأمين أوتونابشتم ببناء سفينة أو فلك ضخم ووضع عائلته ومقتنياته وأقاربه وحيواناته الأليفة والبرية داخل الفلك والإبحار نحو يابسة جديدة بعد غرق الأرض التي يعيش فيها. حور كتاب التوراة النص واختزلوا الآلهة بإله واحد واستبدلوا أوتونابتشم بنوح وألغوا فكرة الخلود فالله الواحد هو الوحيد الخالد الذي لا يموت، وبذلك ولدت فكرة التوحيد وعبادة الإله الواحد التي كررته واتبعته الديانات التوحيدية الأخرى، المسيحية والإسلام فهم يعبدون نفس الإله ولكن بصفات وتعريفات وتسميات وسمات متباينة ومتغايرة.
يأخذنا الكاتب الدكتور فالح مهدي في رحلة شيقة في الفصل الثاني من كتابه القيم في قراءة خاصة ومعمقة وتحليلية للتوراة لاسيما الأسفار الخمسة وعلى رأسها سفر التكوين. ويسرد لنا قصة الخلق كما وردت بالنص في التوراة في سفر التكوين في الإصحاح الأول، ومن ثم يقارن النص بالنصوص الرافدينية حول نفس الموضوع، أي ما عرف بقصة الخلق البابلية والتي كتبت بقرون طويلة قبل الأسطورة التوراتية .
بنت الأساطير الرافدينية تصورها لعملية خلق الكون استناداً على العناصر المعروفة مثل العدم والظلام الدامس. وعندما قررت الآلهة خلق الكون أوكلت الأمر إلى مردوخ الذي غدا نتيجة لذلك سيد الآلهة ويقوم بشق تيامات، إلهة المياه الجوفية، إلى نصفين من القسم السفلي يصنع الأرض ومن القسم العلوي يصنع السماء ثم يواصل عملية خلق العناصر الأخرى كالنور والرياح وبناءاً على ذلك جاء خلق الإنسان حسب الأساطير الرافدينية القديمة بمزج الطين بدم أحد الآلهة الذي اقتصر دوره على ذلك فقط إلى آخر الأسطورة... ولم تكن عملية الخلق البابلية سهلة على شاكلة كن فيكون، بل كانت عملية شاقة وخطيرة خاض فيها الإله مردوخ معركة عنيفة سالت فيها دماء كثيرة انتهت بمقتل تيامات التي تمثل الظلام والفوضى وبمقتلها خرج النور إلى الوجود وأقيم النظام بديلاً للفوضى . كلتا العمليتين، الرافدينية والتوراتية لا تتفقان بالطبع مع قصة ظهور الكون المرئي في العلوم الحديثة إذ أن الأمر استغرق مليارات السنين حسب نظرية الانفجار العظيم البغ بانغ. وهناك قصة للطوفان في نص سومري يتحدث عن الآلهة نينتور وأنليا وخلقهما لذوي الرؤوس السوداء ، أي السومريين، باعتبارهم الشعب الذي اختارته الآلهة يقابلهما في التوراة شخصان هما آدم ونوح.
ثم يقوم الباحث الدكتور فالح مهدي بقراءة أنثروبولوجية لــ "أدبا أو أدفا" السومري و"آدم" العبري أو التوراتي، فالأول خلقه الإله أيا ليحكم البشر وكان ملكاً على مدينة أريدو والثاني خلقه الله العبري أو التوراتي ليكون أب البشر كما وردت القصة في العهد القديم وتبنتها المسيحية والإسلام. يركز المؤلف على أوجه التشابه بين المصدرين أو النصين والشخصين لغوياً والتركيز على أهمية المكان وتعرضهما للاختبار وما لديهما من مشتركات سلوكية وصفات مشتركة والنتيجة التي توصل إليها الباحث هي أن قصة آدم عبارة عن مادة مركبة من مجموعة أساطير سابقة لنصها الوارد في العهد القديم . وبعد تقديم هذا العرض الوافي يلج الباحث مرة أخرى ليغوص تحليلياً في علاقة نوح التوراتي والطوفان الرافديني، حيث يأخذنا الدكتور فالح في رحلة ممتعة أخرى في أعماق الماضي الغارق في القدم وهو يحلل قصة الطوفان الرافدينية وطريقة العيش ونظام بناء المساكن والمشاحيف والقوارب التي ماتزال بعض ملامحها موجودة اليوم في أهوار الجنوب العراقي وطرق بناء السفن وهيكيليتها أو شكلها الهندسي وأحجامها والمواد المستخدمة في بنائها، ثم يقوم بالشيء ذاته وهو يشرح كيف رويت أسطورة الطوفان في العهد القديم وتفاصيلها ونوع الفلك الذي صنعه نوح ، بغية المقارنة وإثبات الأصل والفرع بينهما حيث ثبت له أن التوراة أو العهد القديم هو الذي سرق نص الأسطورة وفكرتها من النصوص الرافدينية السابقة له. وفي سياق بحثه يركز الدكتور فالح على مسألة مهمة وهي أن قصة النبي موسى كما رويت في العهد القديم تشبه بحذافيرها قصة سرجون الأكدي التي تسبقها بقرون وكيف أن والدته وضعته في قفة من القصب مقيرة ورمته في الماء حيث حمله النهر إلى سقاء الماء الذي رباه كأنه إبنه حيث أحبته الآلهة عشتار وساعدته على تولي العرش، مثلما هو الحال في قصة موسى . ويفرد حيزاً لا بأس به ليقدم لنا قصة الطوفان السومري وهي الأقدم بين 3000-2800 قبل الميلاد، وتروي قصة طوفان حصل قبل ذلك التاريخ بزمن طويل في فترة ممعنة في القدم وتم تداولها شفهياً ثم ثبتت على الألواح بعد نشأة الكتابة وهي الأسطورة التي أقحمت في ملحمة جلجامش كما يقول الباحث مما وفر الدليل على وجود علاقة بين العهد القديم والثقافة البابلية، حسب استنتاجات العالم فنكيل، حيث صار ينظر للطوفان كموجة غضب سماوية سوداء مدمرة اكتسحت كل شيء في طريقها وسمحت للآلهة بإعادة صنع الحياة فوق الأرض على نحو أفضل. ومن ثم يشرع الباحث في إقامة مقارنة بين أسطورة نوح والأساطير الرافدينية، حيث يقول النص العبري أن الله قرر أن ينهي الحياة فوق الأرض، هكذا وبدون مقدمات، بسبب فساد الإنسان، ولكن ما هو الفساد الذي ارتكبه الإنسان حتى يستحق مثل هذا العقاب القاسي وهو الإبادة التامة من على سطح الأرض؟ لم يرد نص ديني مقدس، لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن ، عن أسباب قرار الله في إحداث الطوفان وإغراق الأرض وما فيها عدا جماعة نوح وحيواناته. وعلمنا أن لنوح ثلاثة أبناء هم سام، الأصل في سلالة الساميين الذين منهم العرب والعبرانيين، وحام أبو الكنعانيين وبافث، ومن أبناء نوح انبثقت منهم شعوب الأرض الجديدة ما بعد الطوفان . وفجأة يصنع نوح من العنب نبيذاً لا ندري كيف تعلم ذلك ، وهو ليس بالأمر السهل، ثم يسكر وينام عارياً، ثم يراه إبنه حام وهو عاري فيعاقب الله حام لأنه نظر إلى عورة أبيه، والحال أن الذي يجب أن يعاقب هو نوح وليس إبنه وردد القرآن نفس القصة بكافة حيثياتها التوراتية دون أن يغير فيها كثيراً رغم الارتباك البادي على النص العبري. أما في النصوص الرافدينية التي دونت قبل ألف عام من طوفان التوراة، فإن الطوفان حدث بناءاً على أوامر الإله انكي ، ولم يكن السبب فساد الإنسان بل تعب وانزعاج الآلهة من ضجيج البشر، نوح ينفذ أمر الله بدون نقاش أو تردد بينما يعترض أتونابشتم للوهلة الأولى ويناقش إلهه أيا ويطالبه بإعلامه بأسباب قراره وماذا سيقول للناس في المدينة وكيف سيرد على تساؤلات الناس وشيوخهم ووجهائهم فيرد عليه إلهه " قل هكذا إني علمت إن انليل يبغضني فلا استطيع العيش في مدينتكم بعد الآن ولن أوجه وجهي إلى أرض انليل وأسكن فيها بل سأرد إلى ابسو وأعيش مع أيا ربي وعليكم سينزل وابلاً من المطر غزيراً. وفي ترجمة أخرى للنص الرافديني قام به العالم الفرنسي المتخصص بحضارات العراق القديمة بوتيرو يقول أوتونابشتم:" عندما فهمت ما طلب من توجهت إلى ربي أيا سائلاً: الأمر الذي كلفتني القيام به يا مولاي سأطبقه وسأنفذه، ولكن كيف سأواجه مدينتي ، شعبي، والشيوخ؟ عندها فتح أيا فاه وتكلم موجهاً كلامه لي، أنا عبده:" ستقول لهم ياشيخي الفطن التالي: يلازمني الخوف من أن إنليل لا يودني كثيراً ، لذا لن يطول بي المقام في مدينتكم ولن يبقى اثر لقدمي فوق إقليم إنليل بل سأهبط إلى الابشو وسأقيم برعاية مولاي أيا عندها سينزل عليكم إنليل مطراً غزيراً.
يكرس الباحث الفصل الثالث لسفر الخروج بعد أن تناول موضوع الخلق والتكوين وخلق الله للأرض والسماء في ستة أيام واستوائه على العرش كما جاء في العهد القديم والقرآن وتعامل مع الشخصيتين الأساسيتين وهما آدم ونوح. يركز الباحث الدكتور فالح مهدي في هذا الفصل على شخصيتي إبراهيم الذي عاش في حدود 1700 سنة قبل الميلاد، وموسى وسفر الخروج . مما لا ريب فيه أن ظاهرة النبوة كانت معروفة في الحضارات القديمة التي سبقت حقبة العبرانيين ولكن في نفس المنطقة تقريباً وهي فلسطين وسوريا والأناضول وبالطبع مصر والعراق. نقطة الإنطلاق في الإيمان التوحيدي والخروج من الشرك والتعددية يبدأ في النص العبراني من إبراهيم الذي تمرد على النمرود وحاول هذا الأخير حرقه وهو حي كما تقول النصوص الدينية التوحيدية ثم تأتي شخصية موسى لتكون هي الشخصية المركزية لجميع الأيديولوجيات التوحيدية فهو الذي طالب شعبه بعبادة إله واحد لكنه خاص ببني إسرائيل لذلك عرف العبرانيين بشعب الله المختار ، ونفس المكانة يحتلها موسى في الديانات التوحيدية الثلاثة وهي اليهودية والمسيحية والإسلامية، ولقد تم التركيز عليه كثيراً في القرآن. خرج موسى من مصر إلى فلسطين لإنقاذ نفسه وأتباعه ، وخرج عيسى من فلسطين إلى مصر لإنقاذ نفسه، وخرج محمد من مكة إلى المدينة لإنقاذ نفسه وأتباعه.
يعتبر سيغموند فرويد مصر هي مهد ديانة التوحيد في كتابه الشهير موسى والتوحيد. ويستند في ذلك إلى قصة الفرعون آخناتون 1353-1337 ، الذي فرض عباد إله الشمس آتون وإلغاء عبادة آمون إله القمر، والحال أن التوحيد اليهودي حدث بعد ثمانية قرون من وقع الحدث الأخناتوني كما يذكر الكاتب ، ومع ذلك فإن التوحيد العبري يعيد نفس طقوس ومراسيم وشعائر الملكية الفرعونية بل وحتى أيديولوجيتها باستناده للتوراة التي تعني الشريعة التي يجب اتباعها بعد أن انزل عليه الله محتويات الألواح العشرة ، ولكن لا يوجد اثر لأخناتون في التوراة التي تعتبر العمود الفقري للعهد القديم رغم إنه شخصية تاريخية مشار إليها بوضوح في النصوص الفرعونية بينما لايوجد نص تاريخي مثبت عن وجود شخصية موسى تاريخياً فلا يوجد لي اثر لشخص اسمه موسى في النصوص الفرعونية والسجلات المصرية التي عرف بأنها تدون كل شيء . شكك الكاتب في مصداقية وصلاحية الأطروحة الفرويدية عن موسى لأنه لا يستند إلى أية قاعدة تاريخية صلدة و لا يمكن الأخذ بها في دراسات الدين المقارن، بل إن أسطورته مأخوذة من نصوص أسطورية بابلية تناولت ولادة سرجون الأكدي كما ذكرنا أعلاه، استلهمها اليهود السبايا في بابل وأقحموها في نصوص العهد القديم . يسرد المؤلف أسباب ميوله للأطروحة البابلية بدلاً من الأطروحة الفرويدية قائلاً :" ولد موسى ووضع في قفة وهو الأمر البعيد عن الأعراف المصرية بينما هو أمر معروف في الثقافة الرافدينية بشأن ولادة سرجون الأكدي، وإن نوع القفة أو الطوافة التي وضع فيها موسى لم يكن معروفاً في مصر وبعيد عن هندسة السفن في مصر خاصة وإنها قفة أو طوافة طليت بالزفت أو القير غير المتوفر و الذي لم يألفه المصريون ولم يلجأوا إليه في بناء سفنهم فكان القير أو الزفت يستورد من سوريا وفلسطين إذا دعت الحاجة إليه. أشار الكاتب إلى أن موسى ملتحي كما جاء في النص العبري وهو نمط من أنماط وأدب اللياقة والهندام والوقار لكنه بعيد كلياً عن الإتكيت المصري في حين كان معروفاً ومنتشراً في وادي الرافدين، حمل موسى ألواحاً دونت فوقها وصياه العشرة والحال إن المصريين لم يلجأوا البتة إلى ألواح الطين بل إلى ورق البردي. يقول النص العبري أن إبنة الفرعون كانت تستحم في نهر النيل في لحظة مرور القفة أو الطوافة التي يوجد فيها الطفل موسى والحال أن ذلك بعيد عن آداب المجتمع المصري وتقاليده ، فإبنة الملك لا تستحم في ماء النهر بل في حمامات وأحواض خاصة فاخرة تعجز العين عن وصفها فهي أميرة وإبنة الفرعون الذي هو إله فوق الأرض فلا يمكنها أن تغتسل كباقي الناس في ماء النهر وأخيراً نسي كاتب النص العبري أن النيل في ذلك الوقت كان مليئاً بالتماسيح الخطرة .
من هنا يقول المؤلف أنه على المستوى التاريخي ، لم يبدأ التوحيد عند اليهود مع موسى، فالاكتشافات المتعلقة بالنقوش وبالدراسات المعمقة للعهد القديم أكدت على نحو قاطع أن الدين اليهودي ، في الألفية الأولى، لم يختلف عن أديان جيرانه. وإن لرب إسرائيل إسم متميز هو يهوه، أي ذلك الإسم الذي رفضت التلفظ به اليهودية المتأخرة، لأنه يشير إلى أنه جاء من ضمن عالم متعدد الآلهة. فالإسم للرب أو للإنسان، يراد له أن يفيد في التعريف بمن يحمل ذلك الإسم وتمييزه عن أقرانه. لذا فإسم " يهوه" وجد أصلاً لتمييز ذلك الرب عن بقية الآلهة. ففي أثناء تواجد مملكة إسرائيل ويهوذا، من القرن العاشر إلى القرن السابع قبل الميلاد، لم يكن يهوه إله اليهود الوحيد، بمعنى آخر أن التوحيد لم يرس دعائمه بعد عند العبرانيين. لقد اعتبر يهوه إله إسرائيل كما كان حال مردوخ إله البابليين، وكيموش إله المؤابين القريبين من يهود تلك الفترة. فاليهود والعبرانيين وغيرهم كثير، عبارة عن قبائل رحل سكنت شرق البحر الميت والصحراء السورية ، ولكل قبيلة أو قوم إلهه الخاص به. لم يحتفى بيهوه كإله أعزب، إذ كانت له أنيسة ، عبارة عن إلهة تشاركه حياته. ولقد أشارت العديد من الكتابات والشواهد الآثارية، إلى وجود اشيراح Asherah كإحدى الإلهات ضمن المجموعة التي يطلق عليها السامية الغربية هي التي كانت إلى جانب يهوه، وهناك دلائل لوجودها عند الأوغاريتيين، قدماء الفلسطينيين وعند سكان وادي الرافدين وبعض تلك الوثائق والنقوش تعود إلى القرن السابع والثامن قبل الميلاد والتي وردت فيها عبارة مثل :" أبارككم باسم يهوه الشاهد على ما أقول ورفيقته اشيراح " أو " أبارككم باسم يهوه رب السامرة وبإسم رفيقته اشيراح" .. وبالتالي كانت فكرة تمجيد وعبادة يهوه وحده قد حصلت بعد تطور طويل وصراع سياسي وأيديولوجي بين يهود الشمال الذين يعبدون بعل، ويهود الجنوب ممثلين بهذا الملك ولا يعبدون إلا يهوه ، وكذلك كرد فعل ضد العنف الآشوري الذي يشترط الخضوع التام للملك الآشوري،كما جاء في كتاب " تحقيق حول الإله الواحد " الذي قدم له توماس رومر في سلسلة عالم الكتاب المقدس منشورات بايارد 2010 في باريس. ففي سفر التثنية هناك تأكيد على أن الرب الوحيد الجدير بالعبادة هو يهوه وليس الملك الآشوري وربه. والتشبث بعبادة إله واحد تم بعد السبي البابلي لليهود أي بعد حوالي ستة قرون قبل الميلاد. فهدم أورشليم لم يكن نتيجة لضعف يهوه بل بالعكس فلقد مكن يهوه البابليين في ذلك لمعاقبة " شعبه" الذي لم يطعه ولم يتعبد له وحده ، ما يعني أن قوة يهوه وعظمته تشمل حتى أعداء شعبه الذين أعانهم وساعدهم على تحقيق السبي ، ولقد استفاد علماء وفقهاء ومعلمي ورجال الدين اليهود على الأساطير العراقية القديمة التي اطلعوا واستفادوا منها في تحرير نصوص العهد القديم. لقد لعبت بابل دوراً جوهرياً في إخراج ذلك الكتاب المقدس من شكله البسيط ومنحته التعقيد الذي شهدته تلك الحضارة المتقدمة ، فتضمن منهجية ونمط تفكير جديدين ، ولقد انتبه كبار المختصين في دراسات العهد القديم إلى ذلك التأثير العظيم الذي وصل إلى حد النقل الحرفي الفج لنصوص رافدينية كما لاحظنا ذلك في قصة الخلق وملحمة الطوفان التي شكلت العمود الفقري للكتب أو الأسفار الخمسة الأولى للتوراة المنسوبة لموسى، كما جاء في بحث الدكتور فالح مهدي المهم السابق في كتابه " الخضوع السني والإحباط الشيعي ، نقد العقل الدائري. فحتى نجمة داود السداسية اليهودية هي في الأصل نجمة بابلية. وفي الأجزاء الأولى من سفر التكوين ، تم التعبير عن يهوه بأنه رب الكون وخالق كل شيء وسمي " الإلوهيم" وهي تعني الرب ولكن بصيغة الجمع أي الأرباب ولقد أكد محررو ذلك الجزء من أن كل آلهة الشعوب الأخرى ما هي إلا تعبير وتجسيم للإله الأوحد يهوه. واستمدوا من الزرادشتية فكرة الجنة والنار، والوعد بحياة أفضل بعد الموت، كما شاع لدى يهود السبي البابلي الذين حررهم فيما بعد الملك قورش الفارسي، في حين أن يهود مستعمرة الإلفانتين éléphantine المصرية كانوا يعبدون إلى جانب يهوه، إلهين آخرين هما آنات وأشيم ــ بيتال، بما ينسجم مع المعتقدات المصرية المتمثلة بالثالوث،كما جاء في كتاب " تحقيق حول الإله الواحد المشار إليه أعلاه.
ثم ينهي الكاتب بحثه عن جذور الإله الواحد في عرض الصلوات والقرابين والشعائر التي قدمها البشر للإلهة على مر العصور وأهميتها النفسية والفلسفية بغية العثور على علاقة مباشرة مع الكائن الأعلى التي قد تؤثر في سلوك الله ، ووضع الدين في خدمة الآيديولجيات، وإن المخيلة البشرية هي حجر الزاوية لحياكة القصص والأساطير وهي بديهية أنثروبولوجية قابلة للتعميم على كل أديان العالم فالأساطير والخرافات مادة تتكرر في كافة الأديان، خاصة تلك التي تتحدث عن المقدس والمسخ والوحوش الخرافية والشياطين والجن والعفاريت والأبطال الأسطوريين، وهي بالتالي نتاج للأوهام الفردية والجماعية حيث يتمتع الوهم الديني بديناميكية تتوافق وتنسجم مع نظامه المنطقي الداخلي الخاص به الذي يفرز له مدوناته ونصوصه الأسطورية والخرافية ويضفي عليها طابع القدسية، فالأديان برمتها ما هي إلا أنظمة إدارية للمقدس كما يقول الدكتور فالح مهدي . لا يتفق المؤلف الدكتور فالح مهدي مع أطروحة الباحث الفرنسي باسكال بويير في كتابه المهم " وخلق الإنسان الآلهة " الصادر عام 2003 والذي قرأته بإمعان ووجدته علمياً جاداً أتفق مع أغلب ما جاء فيه وبالذات لأنه أدخل معادلات علمية في الشأـن الديني توصل من خلالها إلى أن الآلهة من ابتكار الإنسان بغية إعانته ومساندته في ما يواجهه من تحديات ، فكل ذلك الابتكار الذهني البشري ناجم عن النشاط العقلي للإنسان الذي يعبر عن حاجته ومواجهته لألغاز وجوده ، فالدين نشاط ذهني محض يدفع المرء لكي يفكر ويتأمل ويبحث عن إجابات للغز الكون المحيط به ولغز الموت المتربص به ولغز الأسئلة الوجودية التي تؤرق حياته . يتسرع الكاتب في القول أنه مع كل التقدم العلمي المذهل حقاً، فقد بقي أصل الكون لغزاً حقيقياً، ذلك إن الإنفجار الكبير ، مما يطلق عليه البغ بانغ، لا يؤخذ به علمياً باعتباره ذاك الذي أنجب الكون. فالسؤال المتعلق بولادة الكون بعيد كل البعد عن إيجاد إجابات مقنعة لحل ذلك اللغز الذي يشكل إحدى أم التحديات أما علماء الطبيعة والفيزياء، وأقول له أرجو ألا تتسرع في الحكم على أشياء ومواضيع تجهلها ولم تتعمق فيها كفاية فلا يكفي قراءة كتاب أو دراسة لكي نصل إلى هذا الاستنتاج التعسفي فهذا المجال واسع وغني رغم تعقيده وقدم الكثير من الإجابات في العقود الثلاثة المنصرمة ومنها أن نظرية الانفجار العظيم ثبتت علمياً ومختبرياً واتفق بشأنها كل الوسط العلمي تقريباً وتدرس اليوم في الجامعات والمدارس والمعاهد المتخصصة، فهذا مجال علمي دقيق لا ينبغي الخوض فيه بهذا النوع من الخفة
750 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع