ما كان ماكيافيلي ماكيافيليًا... لكن شُبّه لكم!

          

                       نيكولو ماكيافيلي

إيلاف: اشتهر كتاب نيكولو ماكيافيلي "الأمير" بإعلائه النفعية السياسية من دون حياء. لكن قبل 15 عامًا على هذا الكتاب، في عام 1513، كان ماكيافيلي يدافع عن المدرسة الجمهورية الشعبية عاملًا بلا كلل، ولكن من دون نجاح في النهاية، على منع عودة فلورنسا إلى حكم آل ميديتشي.

تقول إريكا بينر في كتابها "كن كالثعلب" Be Like the Fox (منشورات دار نورتون؛ 384 صفحة) إن كتاب "الأمير" عمل من أعمال التخريب السري، يستخدم المفارقة والمكيدة لإيصال رسالة جمهورية بثبات. وباعتماد أساليب معاصرة في الخطاب، ترسم بينر صورة شيقة لمفكر سياسي لمّاح أدرك مخاطر السلطوية وبحث عن سبل درئها في وقت تعذر فيه الخطاب المستقل.

رواية مختلفة للتاريخ
كثيرًا ما نقع اليوم على كتابة جديدة للتاريخ، حيث عصر النهضة خرافة، وما حدث الإصلاح الديني بظهور البروتستانتية أبدًا، والمجاعة الإيرلندية الكبرى كانت مجرد أزمة غذائية عابرة. وتورطت بريطانيا بحكم الهند نتيجة سلسلة من الأخطاء المؤسفة، وما كان أتيلا الهوني شريرًا كما جرى تصويره.
هذا مكيافيلي وهذا عالمه

لذا، كان من المحتم أن يطلع أحد بكتاب يقول فيه إن ماكيافيلي ماكان ماكيافيليًا. وهذا أمر معروف بمعنى ما. فالدبلوماسي والسياسي الشهير الذي عاش في القرن السادس عشر كان جمهوريًا صلبًا وإصلاحيًا شجب الفساد في المواقع العليا ومقت الطغاة.

هذه كلها مواقف لا تضمن لصاحبها حياة هادئة في فلورنسا تحت حكم آل ميديتشي. وكان ماكيافيلي بوصفه إنسانيًا من نمط ليفي وسيسيرو يحث مواطنيه على وضع المعتقدات السائدة موضع تساؤل، وألا يصدقوا كلام السلطة في ظاهره، وأن الحكام يجب ألا يُخدعوا بأمجاد كاذبة، والنَسَب النبيل ليس ضمانة للفضيلة بأي حال من الأحوال.

كان ماكيافيلي يضع المصلحة العامة فوق المصالح الخاصة، وينبذ الطائفية السياسية، ويدعو إلى معاملة الأعداء معاملة عادلة، وإلى تطبيق حكم القانون واحترام الآخر.

واقعية سياسية
لكن ماكيافيلي كتب في زمن اصطدم فيه هذا التراث الإنساني القديم برؤية العصر الحديث الأكثر تشكيكًا. وإن كان مقت الحكام المستبدين، فذلك لا يعني أنه إعتقد أنه من الممكن الثقة بقدرة المواطنين على أن يديروا شؤونهم بأنفسهم، بل على العكس، فإن استهانته بقدراتهم موقف معهود في السياسة المحافظة، ذلك أن المحافظين يميلون إلى الاعتقاد أن البشر مخلوقات قاصرة، محدودة القدرات، يحتاجون إلى من يضبطهم انضباطًا صارمًا إذا أُريد اعتصار شيء مفيد منهم. أما الليبراليون فيثقون بغرائز الإنسانية الرحيمة التي ستزدهر ما أن تُحرر من قيودها.

لا شك في المعسكر الذي ينتمي إليه كاتب "الأمير". فنحن ندشن عصر السياسة الواقعية التي تشك في المُثُل العليا والدوافع النبيلة. واللافت في عمل ماكيافيلي أن هذه النظرة الناقمة إلى السياسة تصبح جزءًا من الفلسفة السياسية نفسها.

على التفكير أن يستند إلى واقع البشر كما هم، وليس كما نتمنى أن يكونوا. وعلى الأمراء وأصحاب السلطة أن يحكموا بالفضيلة إذا أمكنهم ذلك، لكن إن لم يتسن لهم تحقيق غاياتهم إلا بالحيلة والغدر والقسوة... فليكن. وإذا اقتضت الضرورة، فليحنثوا بقسمهم، وليخدعوا حلفاءهم وليغتالوا خصومهم. وهذا انحراف مذهل عن التقليد الكلاسيكي.

أنسنة الكتاب
في سيرة حياة ماكيافيلي التي ترويها بينر في كتاب مشوق، تتعاطى مع هذه القضايا على أنها قضايا إشكالية. لا تنظر إلى ماكيافيلي من منطلق أنه ليس ماكيافيليًا فحسب، بل تعدّه رجلًا طيب القلب وشخصية محبوبة.

لكن نقادًا يرون أن في تقويم بينر هذا تحريفًا صارخًا للتاريخ، مشيرين إلى أن بينر لم تكتب كلمة واحدة ضد ماكيافيلي، الذي كان معجبًا بسيزار بورجيا دوق فالنتينو الملطخة يده بالدماء، وأنها تنساق مع موضة كتابة السير برفع الكفلة في التعامل مع موضوعها والإشارة إليه باسمه الأول ونسج حوارات معه (أو معها) ليبدو إنسانيًا.

يكمن هذا الافتراض القائل إن القارئ سيمل التاريخ من دون إحيائه بتوابل روائية كاذبة، وراء الكثير من أعمال السيرة التي نُشرت أخيرًا. ونتيجة لذلك ينسحب نقد الموضوع ويخلي الطريق للتعاطف معه.

لكن الناقد تيري إيغلتون يسجل للكاتبة بينر أنها رغم تساهلها مع "نيكولو"، كما تسميه، لا تغالي في نسج الحوارات الوهمية والسيناريوهات الخيالية لشد القارئ إلى سيرة حياة موضوعها.

شيطنة غير منصفة
يتجنب الكتاب عمومًا التزيين الروائي لأسباب عدة، ليس أقلها أن تاريخ فلورنسا في القرن السادس عشر درامي بما يغنيه عن مثل هذه الإضافات الروائية، لما يحويه من مؤامرات ودسائس ومشاغبات سياسي وأزمات دبلوماسية وقساوسة متعصبين وكوارث عسكرية.

نجد غالبية هذه الوقائع في كتاب "الأمير" الذي يدعو صاحبه إلى ممارسة القوة والاحتيال السياسي. تعترف بينر نفسها بأن آل ميديتشي ما كانوا لينظروا بعطف إلى رجل ينصحهم بأن يكونوا أشرارًا مثل ماكيافيلي، لكنهم احتضنوه على الرغم من ذلك.

ويرد بعض المواقف المشينة التي يطرحها ماكيافيلي في "الأمير" في كتابات أخرى له، كرأيه القائل: "الغاية تبرر الوسيلة".
لكن شيطنة ماكيافيلي لا تنصف التعقيد الذي وسم حياته وعمله، على الرغم من أن أمثَلَته ليست بدورها هي الحل.

مع ذلك، كتاب "كن كالثعلب" عمل قيم من أعمال "الهدم والإنقاذ"، كُتب بجزالة ومعرفة بعيدة عن الاستعراضية، يجعل القارئ يتطلع إلى كتاب بينر الجديد، "مارتن لوثر: خادم البابا".

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1066 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع