جلال الدين الرومي أكثر الشخصيات تداولا
وضع الناقد الفرنسي فيليب لوجون ميثاقا لجنس السيرة الذاتية الأدبي، ومن أبرز شروطه تطابق الهُويات الثلاث؛ الأنا والهُو والمؤلف، كما هو حاضر في “اعترافات” القديس أوغسطين، وأيضًا في “اعترافات” جان جاك روسو. لكن بخلاف السيرة الذاتية انتشرت في الأدب العربي مؤخرا روايات السيرة الغيرية ومنها الرواية الفائزة بجائزة البوكر لهذا العام “موت صغير” لمحمد حسن علوان، ما يدل على رواج هذا النوع من الأدب.
العرب ممدوح فرّاج النّابي:جاءتْ سيرة طه حسين “الأيام” عام 1926 كرد فعل للمحاكمة التي جرت له عقب إصدار كتابه “الشعر الجاهلي” عام 1926. كانت السيرة أشبه باستراحة المُحارب من المعركة التي خاضها مع الأصولية الدينيّة التي انتهت به إلى التكفير والإخراج من المِلَّة، لكن طه حسين أراد بعد تلك المعركة أن يردّ عمليًّا على هؤلاء المشكّكين في هويته الدينية وعقليته. وبالفعل بدأ مراجعة ماضيه حتى تلك اللحظة الفارقة، فغدت السّيرة تسرية عن النفس أولاً، وثانيًا -وهذا هو المهمّ- كأنها رسالة تقول لهؤلاء المتربصين ها هو طه حسين الذي انتصر على كافة العقبات التي واجهته. الغريب أن طه حسين خالف الشكل السيري في اعتماده على الضمير الغائب، وكأنّه يروي عن شخصية بعيدة عنه، وإن كان لجوء طه حسين إلى هذا الضمير الأعمى (على حدِّ وصف عبدالله إبراهيم) ليتطابق مع حالته.
سرد الذات الآخر
ازدهرتْ في فترة التسعينات من القرن الماضي كتابة الذات، وإن كانت لها إرهاصات تعود إلى بدايات عصر النهضة، حيث الكتابات التي جاءت بعد علاقة التأثّر والتأثير بالغرب، على نحو “السّاق على السّاق” 1855 لأحمد فارس الشدياق، التي كانت بمثابة أوّل محاولة لرقش الذات، مُدَشِّنَة لأوليات روايات السيرة الذاتية. وهناك مَن يعود إلى زمن أقدم نسبيًا؛ إلى كتاب «المنقذ من الضلال» لأبي حامد الغزالي الذي وضع فيه سيرته الروحية متحدثًا بصراحة عن حالة شكّ مرّ بها، وعمّا صادفه من ظروف نتيجة هذه الحالة، وعن أنه لم يخرج عن هذه الحالة الصعبة إلا «بنورٍ قذفه الله في الصدر» بتعبير الناقد عبدالله إبراهيم. يُقرُّ كثيرون بأن العرب لم يعرفوا فن الاعترافات باستثناء محاولات محدودة، يدرج ضمنها كتاب “المنقذ من الضلال” على عكس ما هو مُنتشر في الآداب الغربية حيث هيمنة الاعتراف والمكاشفة التي هي شرط من شروط تحقّق جنس “السيرة الذاتية”، إضافة إلى التمثّل لميثاق السّيرة كما وضعه فيليب لوجون.
نشطتْ موجة كتابة الذات في العقد الأوّل من تسعينات القرن الماضي، فجاءت روايات كل من عفاف السَّيد وميّ التلمسانيّ وميرال الطحاوي وسحر الموجي وهدى حسين وغيرهن، وهي الكتابات التي شكَّلت موجة جديدة في هذه الحقبة على نحو ما استلمحتْ ناقدًا مثل شكري مُحمّد عيَّاد، ووسَمَها بـ “كتابات البنات”، وكتب تحت هذا العنوان مقالات عِدّة في مجلة الهلال المصرية. في مقابل هذا الخفوت الذي مُنِي به هذا النوع في الآونة الأخيرة مُقارنة بفترة الذيوع في التسعينات إلى بدايات الألفية الجديدة، ظهر وسطع نوع آخر مُغاير له وهو السيرة الغيرية أو رواية الشخصيّة. والمقصود بها هو “الجنس الأدبي الذي يكتبه بعض الأفراد عن غيرهم من الناس، سواء أكانوا من الأعلام الذين عاشوا في الزمن الماضي أم في الزمن الحاضر”.
تاريخيًّا السّيرة الغيرية أقدم من السّيرة الذاتية؛ لأنّها بَرَزَتْ مع التأريخ والأدب، وتكفي للاستدلال على هذا قراءة النقوش على الجداريات التي كتبها قدماء المصريون تخليدًا لسير ملوكهم وأبطالهم. ثمّة تطوُّر ملحوظ في كتابة رواية السيرة الغيرية (إنْ جاز الوصف) على نحو ما حدث مع السيرة الذاتية، فلم تعد السيرة الغيرية مجرد سير الأعلام أو التراجم التي حفلت بها كتب التاريخ، بل جاءت في بناء محكم على نحو ما فعلت عبلة الرويني في كتابها عن أمل دنقل المعنون بـ”الجنوبي”. وهناك مَن زاوج بين المرجعيّ والتخييل لتكون لدينا سيرة غيريّة روائيّة على غرار رواية السيرة الذاتية أو السيرة الذاتية الروائية. اللافت أنه في الفترة الأخيرة انتشرت الروايات التي تتناول سيرة شخصيات على اختلاف أنواعها؛ أدبيّة مثل رواية “سرور” 2013، للكاتب طلال فيصل عن سيرة الشاعر المصري نجيب سرور، أو ثقافية كرواية “بليغ” 2017 لطلال فيصل أيضًا عن الملحن بليغ حمدي، أو دينيّة صوفيّة كما في شخصية سلطان العاشقين جلال الدين الرومي، ورواية “الجُنيد، ألم المعرفة” لعبدالإله بن عرفة، التي تناولت شخصية الجنيد البغدادي، و”موت صغير” لمحمد حسن علوان، والأخيرة تتناول شخصية محي الدين بن عربي.
أما الروايات التي تناولت شخصيات تاريخية صرفة، فهي قديمة وتعود إلى جرجي زيدان وعلي أحمد باكثير، وإن كان الخيط ممتدًا إلى عصرنا الحاضر على نحو ما فعل يوسف زيدان في روايته عزازيل 2006، وكذلك ما كتبه الروائي الإنكليزي من أصل باكستاني طارق علي عن شخصية “صلاح الدين الأيوبي” في إطار رواياته عن الإسلام ومنها “في ظل شجرة الرومان” التي كانت تتحدث عن انهيار الحضارة الإسلامية في الأندلس، وغيرها من الأعمال التي تناولت شخصيات لها مرجعية تاريخية.
إفلاس أم تواصل
في ظل هذا الانتشار لكتابات روايات السيرة الغيرية، نتساءل أولاً: لماذا يلجأ الروائيون إلى استحضار شخصيات من المدونة التاريخية بمختلف أيديولوجياتها ليكتبوا عنها؟ هل هو إفلاس أم نضوب إبداعي، حيث يعمد الكاتب إلى تنشيط الخيال بسرد المعلوماتية؟
ثانيًا: هل هذه الروايات تعدُّ روايات تاريخية لأنها تعتمد في المقام الأوّل على شخصية لها حاضر تاريخي، أم تخرج عن إطار التاريخ بما أضفاه التخييل لها من أحداث؟ ثالثًا: هل تمثّل هذه الشخصيات التي يكتب عنها المؤلف إسقاطًا من نوع ما على الحقبة التي تتناولها المروية والتي عاشتْ فيها الشخصية؟
والأهم، هل يتدخل الكاتب ويُحرِّف التاريخ الشخصي للشخصية التي يتناولها أم أنّه يلتزم بالمادة الأتوبغرافية؟ وإذا التزم بالمادة ما الفرق بين الرواية الشخصية والسير والتراجم؟ نقف عند نماذج من روايات السيرة الغيرية؛ لنرى كيف تناول الكتاب في مروياتهم الشخصيات الأدبية والصوفية، وما الرسائل التي مرروها في أعمالهم؟
الروايات العرفانية
يُطلق البعض على الروايات التي تهتمُّ بالموروث الصّوفي الروايات العرفانية، على اعتبار أن هذه الروايات تقع في منطقة “اللاتحديد بين التخييل والواقعي”، وثانيًا لأنّها تتناول شخصيات عرفانيّة مالكة لأسرار معرفية، وخارطة سلوكية، وهو ما يجعلها حاملة لقيم أخلاقية تسمو بها عن عالمها الواقعي إلى عالم رمزي، مما يمنحها هوية بطولية عرفانية متميزة، على حد تعبير عبدالإله البريكي.
وهي حسب رأي عبدالإله بن عرفة “مشروع روائي رائد ومختلف… يَرُدُّ مفهوم القطيعة ويرفضها، والتي كانت رائجة في لحظة ثقافية معينة، ويسعى إلى إعادة الوصل مع ذاكرتنا وتاريخنا وموروثنا الثقافي والأدبي والفكري والعرفاني والتفكير والتجديد فيه”. من أشهر الشخصيات الصوفيّة التي تناولها الخطاب الروائي، شخصية الصُّوفي جلال الدين الرومي (1207 – 1273 م)؛ لثرائها وأيضًا لزخم العصر الذي عاشت فيه. وقد تمَّ تناول هذه الشخصية في أكثر من عمل، وكان أوّل الأعمال التي تطرَّقت إلى شخصية الرومي وعلاقته بصديقه شمس التبريزي، رواية التركية أليف شفق، “عشق” أو “قواعد العشق الأربعون”ٍ.
أليف شفق لم تقف في الرواية عند تاريخ الرومي وإنما اقتصرت على أربعين ليلة قضاها شمس التبريزي في صحبة صديقه. حضور الرومي وكذلك شمس التبريزي كان حضورًا باهتًا، باستثناء القواعد الأربعين. الرواية تأتي عبر مراوحة بين حكاية عزيز وإيلا روبنشتاين التخيليّة وحكاية جلال الدين الرومي وشمس التبريزي الحقيقية.
على العكس تمامًا جاء حضور الشخصيتين في رواية الإيرانية نيهال تجدّد “الرومي نار العشق”، حيث قدمت الكاتبة هنا الإطار الزماني والتاريخي للشخصية بالإضافة إلى أنها تابعت تطوّر الشخصيات والصراع الذي وقعت فيه بسبب هذا الالتقاء والجذب. نيهال تجدّد قدمت حياة جلال الدين الرومي كاملة منذ أن كان فقيهًا كبيرًا في الدين إلى أن قابل شمس التبريزي وصولاً إلى نقطة التحول باختفاء شمس. كما تناولتْ جميع الشخصيات التي كانت في محيط الرومي بما فيها الشخصيات المجهولة كشخصية حسام الدين جلبي.
الرواية الثالثة التي تناولت شخصية الرومي هي رواية “بنت مولانا” للفرنسية مورل مفري، والرواية تناولت شخصية كيما سلطان، الفتاة التي أرسلها أبوها إلى الرومي للتعلُّم، وصولاً إلى زواجها بالتبريزي، وهو ما كان بمثابة النار التي أحرقت الجميع. تُركِّز الرِّواية على سيرة كيما منذ أن كانتْ جنينًا في بَطن أمها آفدكيا، والنبوءات التي لاحقتها وأيضًا الوصايا والبشارات، ومنها نفذت إلى شخصية شمس التبريزي نفسه، والعلاقة المُلْتَبِسة بين شمس وعلاء الدين ابن مولانا. كما تبرز علاقة الحب بين كيما وشمس منذ أن رأته أوّل مرة.
لم تكن شخصية جلال الدين الرومي محلّ اهتمام الروائيين، وإنما كان ثمة اهتمام بالصوفيين جميعًا، فمثلما شغل الرومي الأدباء، كانت شخصية الحسين بن المنصور الحلاج هي الأخرى -بما حملته من أنساق مغايرة للمألوف- واحدة من الشخصيات الصوفية التي وجدت فيها المدونة الأدبية مادة ثرية للتناول والمعالجة. وقد تناولها صلاح عبدالصبور في مسرحية بعنوان “مأساة الحلاج” عام 1966، قبل نكسة 1967، وبالمثل حضرت الشخصية في الشعر لدى شعراء كثيرين كما عند البياتي وصلاح عبدالصبور وأدونيس.
وها هي شخصية ابن عربي تدخل المدونة السردية عبر رواية الكاتب السعودي محمد حسن علوان، في رواية “موت صغير” الصادرة عن دار الساقي. محمد حسن علوان يتوقف الكاتب في محطات كثيرة من سيرة ابن عربي ليسلِّطَ الضوء على الأحداث التاريخية والأوضاع السياسية التي كانت موجودة آنذاك. فيرصد الصراع بين المرابطين والموحدين، الذي انتهى بانتصار الموحدين وحكمهم للأندلس، كما يرصد الأحداث الجسام التي مرّت بها الأمة. ولا ينسى علاقة ابن عربي ببعض المتصوفة من أصدقائه كالحريري والخياط، والترجمان فريدريك.
نذكر أيضا أن الأكاديمي والكاتب المغربي عبدالإله بن عرفة يُخصِّص تجربته الإبداعية برمتها لنوع من الروايات الغيرية يطلق عليها ا
412 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع