وأد البطل نهاية جيش وملحمة وطن / الباب الأول: الفصل السابع

    

     الباب الأول- الفصل السابع: التسييس المؤدلج

  


عملية التسييس

لقد استمر الحال مع القوات المسلحة العراقية، أداة سياسة فاعلة دون الخوض بالسياسة، لمرحلتها الاولى التي انتهت بانتهاء الملكية، مع بعض محاولات اقحامها تعد فردية لا تتحمل مسؤوليتها الحكومة آنذاك، لكن طبيعة تشكيلها وظروف العراق، والاتجاهات الحزبية وشكل الصراعات الدائرة والظروف الاقليمية المحيطة، قربتها من الدخول والتدخل في السياسة، بدفع من سلطة الحكومة في الدولة أحيانا، أو من جهات محدده تابعة لها، أو احزاب تسعى للوصول الى الحكم أحيانا أخرى، وكان المفتاح الاول لهذا الباب هم الضباط الطامحين الى السلطة أو الساعين الى التمرد عليها، الذين شكلوا تنظيماً سياسياً "الضباط الاحرار" بهدف قلب نظام الحكم، أي تهديم سلطة قائمة واقامة أخرى بديلة، خطوة نقلتهم وهم المستمرين بالخدمة من المهنية العسكرية الى التوليفة السياسية، حيث الاتصال بتنظيمات حزبية مدنية لغرض التنسيق وفرض التأثير على الشارع، واللجوء الى الاستخدام المفرط للقوة في التعامل مع الخصوم، تجاوزاً على القيم والاصول والضوابط، إذا ما أخذ بالاعتبار أن استخدامها "القوة" بصيغة القتل الجماعي والابادة، مخالفة لا تقتصر طبيعتها على الضوابط العسكرية، بل وتجاوزت التزامات الشريعة الاسلامية، ونبل الانسانية. هذا وان الفعل الأكثر افراطاً باستخدامها كان الابادة الجماعية للعائلة المالكة، وقتل رموز الدولة بطريقة انتقام هستيري، لا يمت للمهنية العسكرية بصلة. وان الغاية الاساسية للقتل جاءت بالاضافة الى التنفيس الانفعالي لمشاعر العدوان موقفياً، مباركةً من قبل القادة العسكريين الكبار، عبد السلام عارف على وجه الخصوص، لتفادي الوقوع بخطأ عام 1941 الذي هرب فيها الوصي ورئيس الحكومة، وقاموا بتحشيد جهد، قضى على حكومة الانقلاب، وأعاد الامور الى طبيعتها.

التقرب من حدود السياسة  
لقد كوّنَ هذا الفعل سابقة لفوضى التجاوز المهني الهدام، أدخلت العسكر في دوامة الهياج الانفعالي السياسي، حتى أصبحوا في بعض مراحله طرفاً يثيرهم "الانفعال" خارج الاطر المحددة لمهامهم، ويتأثرون به تجاوزاً على حدود مهنيتهم، فتقربوا بسببه وعوامل أخرى من حدود السياسة، تقرباً طوعياً للدخول الى عالمها من اتجاهين رئيسيين:
الاول. من خلال التوجهات الحثيثة لبعض الضباط القادة لتنفيذ انقلابات عسكرية، أو من خلال مساعي بعضهم الآخر لتكوين اتجاهات ضغط على السلطة السياسية، لتحقيق مكاسب فئوية، فظهر ضباط قوميون عرب، وقوميون اكراد، وشيوعيون، وقاسميون، وعارفيون، وبعثيون. مزقوا الوحدة البنيوية للقوات المسلحة، ومهدوا للاتجاه الثاني ذو التأثير الاشمل.
الثاني. مساعي أحزاب سياسية منظمة لدفع المنتمين الى صفوفها من الشباب للذهاب الى الكليات العسكرية، كضباط والتطوع في الصنوف كجنود وشرطة وضباط صف، وبالنتيجة كون الحزبيون الوافدون والمنتظمون أصلا، حزبيون جدد، بشروا بغد افضل يأتي فقط عن طريق احزابهم، فانتشرت افكارهم وزادت طموحاتهم، وتوسعت خلاياهم التنظيمية على كافة الوحدات والمراكز والمديريات، خاصة القوة الجوية، التي يدرك الحزبيون ان دورها حاسم في انجاح انقلاب أو الحيلولة دون نجاحه.

               

ان عبد الكريم، القادم من تنظيم الضباط الاحرار، انتقل بيوم واحد من العسكري المعروف بمهنيته الجيدة كآمر لواء مشاة، الى السياسي بخبرة قليلة كرئيس وزراء، بسببها وطبيعته الشخصية المتسامحة، أخطأ بالتعامل مع المد السياسي الذي دخل القوات المسلحة من باب الانقلاب، في تسامح اشتهر بعبارة له "عفى لله عما سلف" اذ عادة ما يلجأ الى العفو عن المخطئين بحقه ونظامه، من الضباط القادة ويأمر باعادتهم الى مناصبهم. وفي ثقته المفرطة بالآخرين ذوي النوايا السياسية، حتى يورد المتابعون لزمانه انه وعندما تَرِدهُ معلومات عن نشاط سياسي، خصوصاً للضباط القادة، يقوم هو شخصياً باستدعائهم الى مكتبه في وزارة الدفاع ليتأكد بنفسه، وعند التأكد وان كان اعترافاً صحيحاً، يكتفي بالقسم على القرآن الكريم من عدم معاودة النشاط.
كان هذا سلوك لا يتوائم مع طبيعة الشخصية العسكرية والسياسية، تسبب في زيادة حجم التكتل السياسي ضده، يقع على النقيض من سلوك خصوم له جاءوا من بعده الى السلطة، اللذين يتعاملون بمثل هكذا مواقف بشك مسبق يدفع ثمنه الضابط المشكوك به، توقيفاً انفرادياً وتحقيقاً قسرياً، وفي بعض الحالات، طرداً من الخدمة أو احالة على التقاعد، وان برأته اللجنة التحقيقة من التهم الموجهة اليه، كاجراءات احترازية للتقليل من تأثير الاحتمالات السلبية في توجهاته بالضد، مهما كانت بسيطة.
وكان من ناحية أخرى، لعباً على وتر الصراعات السياسية، بين الاحزاب في اطار الادارة العليا للبلاد، لتأمين قدر من التوازن، حاول فيه القائد نقل اللعب الى صفوف القوات المسلحة، فقرب البعض من المعروفين بانتماءاتهم الحزبية، بالتأسيس على افتراض مهنيتهم العسكرية، وابعد البعض الآخر على اساس عدم الثقة بميولهم، فكان لعب توازن فاشل، وسع من قاعدة الاحزاب قريباً من مقره.
ان زمن عبد الكريم الذي استُهل بانقلاب عسكري انتج سلسلة انقلابات وتوجهات تسييس حثيثة، صاغت رغبات الضباط وتوجهاتهم السياسية، السلطوية، حتى أصبح الجيش، مؤسسة انقلابية، وقوة تغيير ونفوذ تخشاها السلطة، واصبحت الدولة بكل مؤسساتها غير قادرة على لجم بعض ضباطه الكبار في سعيهم الى قيادة السلطة، أو التأثير فيها لصالح هذا الطرف أو ذاك، بعد ان حوروا بُنيَتها، لتكون مفتاحاً للقبض على السلطة، بصيغ تسييس، شجعت الضباط الى الانتساب للاحزاب السياسية، حتى أصبح في زمنه ومن بعده الى عام 1968، من المعتاد تناول المواضيع السياسية بين المعارف والاصدقاء داخل الوحدات وخارجها، ومن السهل مفاتحة أي ضابط للانتماء الى حزب أو تكتل لقلب نظام الحكم، وأصبح من المألوف التجاوز على القانون الخاص بتحريم العمل بالسياسة، وكأن الاجهزة الامنية الحكومية والعسكرية باتت تتغاضى عن هذا الحزب أو ذاك، تبعاً لنظرتها الخاصة للازمة التي تمر بها، وتبعاً لموقف الحزب المعني منها، وبالمحصلة أصبح هناك تواجد ملموس لحزبيين من الاتجاهات الشائعة "بعثيون، شيوعيون، وقوميون" على وجه الخصوص، وأصبحت هناك اشارات واضحة داخل الوحدة العسكرية، عن ان الضابط الفلاني شيوعي، وعلان بعثي، وهناك آخر ناصري، جميعهم يعملون بشكل مستور ظاهرياً، معروف واقعياً، يتم التقرب ناحيته عقابياً متى ما اقترن بحركات تآمر وانقلاب.
وفي زمنه كانت الاحزاب السياسية المذكورة وخلاياها العاملة في القوات المسلحة ، تسبق الجهاز الاستخباري، أي ان جهدها بالتنظيم والكسب الحزبي فاق جهد الاستخبارات في الحيلولة دون حصوله أو الحد من تأثيراته في الاتساع، فاسهمت مع أخطاءه في زيادة انتشارها، حتى بات جيشها وشرطتها في الاعوام الاولى لذاك الزمن اقرب الى الجماعة الجماهيرية منهم للمؤسسة العسكرية، وبدأ جنودها وشرطتها وضباطها، يتظاهرون مع العمال والفلاحين، ويحملون الحبال سوية كاشارات للتهديد بسحل الأعداء.
فكان بوجه عام تسييس، مثل خرقاً للضبط الذي قلت مستوياته، والقيم العسكرية التي تصدعت منظومتها، والمهنية التي تشوهت صورتها والمعنويات التي اختلت موازينها، مثلت جميعها عملياً هدماً للبنية العسكرية العراقية، ومحصلة دفع عبد الكريم حياته ثمناً لها بعد ان توسع هامش البعث بين صفوف العسكر، الذين قادوا انقلاباً عليه، بحركة دموية لم يستطع في انفعال أفرادها أن يحصل على قبر معلوم.
هنا تجدر الاشارة الى أن عبد الكريم، قد حاول بداوفع مهنيته المعروفة ووطنيته التي لا غبار عليها أن يقلل من توجهات التسييس في القوات المسلحة وأن يطور من كفائتها، ويعيد تسليحها ويقلل من أثر الطائفية في قياداتها. لكنه لم يستطع بلوغها، نتيجة لتسارع الأحداث الداخلية والخارجية، واخطاءه في لعبة التوازن المذكورة، التي قدمت أحزاب سياسية، وضعت اعلى اهدافها ادخال المزيد من الحزبيين الى القوات المسلحة، واستمالة آخرين كمؤيدين لتوجهاتهم السياسية، كما ان رغبته في توسيع حجم القوات المسلحة، وتوجهه الى احالة الضباط المحسوبين على الملكية على التقاعد، فتح المجال أمام الشباب العراقي المسيّسْ للتطوع في القوات المسلحة دون تدقيق بالانتماء السياسي، فكونوا المزيد من الخلايا الحزبية السرية في الوحدات والدوائر والقيادات، كان لها الأثر المباشر في قيام محاولات عدة لقلب نظام الحكم، وزيادة كم الهدم في البنية العسكرية.
مصاعب التخلص من أعباء التسييس

        

ان عبد السلام الذي جاء من بعد عبد الكريم، ورغم مساعيه الحثيثة لتجاوز أثر التسييس الحاصل في الاشهر التسعة الاولى لحكمه مشاركة مع البعثيين، لم يستطع التخلص من الاصول الحزبية الاخرى الداعمة له، لأنه وبحكم حاجته لتيار منافس لضرب البعثيين، وبحكم الميول القومية التي حاول التمسك بها ولو ظاهرياً، أبقى التيار القومي الناصري، موجوداً في المؤسسات العسكرية، والامنية بسعة تنظيمية لا تقل درجة عن الوجود البعثي آنذاك.
كما إن جهوده، وشقيقه عبد الرحمن لم تفلح بالقضاء تماماً على خلايا حزب البعث، التي عاودت تنظيمها السري بشكل كفء في الدوائر والوحدات، خاصة في السنتين الأخيرتين من حكم عبد الرحمن، وبذا عدَّت هذه الفترة، مرحلة تمهيد لعودة الحكم البعثي الثاني عام 1968. وبدء مرحلة من التاريخ السياسي للقوات المسلحة العراقية، تعد الأكثر أهمية وتأثيراً على واقعها البنائي من جهة وعلى مستقبل العراق وحصول أزماته اللاحقة من جهة أخرى.
ان البعثيين الذين بدأوا نشاطهم التسييسي عام 1963 بالتركيز على ازاحة الشيوعيين وتوسيع قاعدتهم، عاودوا نفس النشاط بعد 1968، بفصل كل الضباط والمراتب المشكوك بانتماءاتهم الى احزاب سياسية في عملية اجتثاث واسعة في صفوف القوات المسلحة، شملت هذه المرة حلفائهم ومن تبقى من الشيوعيين والقومين، والمستقلين والمنتمين الى الاحزاب الكردية في خطوة انهت خدمة مئات الضباط بفترة زمنية قصيرة، أرست قاعدة تسييس رصينة.  
الثمن السياسي
ان اقتحام الاحزاب السياسية للجيش والمؤسسة الامنية، وتعطش البعض للانتظام بها عقائدياً أو نفعياً، أضعف السيطرة القيمية للمنظومة العسكرية على منتسبيها وسمح لمشــاعر العدوان في النفس الداخلية لأن تنفلت دون ضوابط ومحددات، وأوجد بالمحصلة سلـوكاً، عند البعض من العسكر، خاصـــة بين الضباط ذوي الرتب الكـــبيرة، قوامه التفتيش عن ثمن التنفيذ المبالغ فيه، وعندما لم يحصلوا عليه بطريقة الترقيات التقليدية، أو عن طريق المناصب الأعلى، اتجهوا للانضمام إلى الأحزاب السياسية لتُعينهم على قبض الثمن، ويعينوها على تحقيق أهدافها في السيطرة على الحكم، دون أن نستثني هامشاً ولو قليلاً للمشاعر الوطنية التي أطلقت السياسة لها العنان العشوائي المنفلت، فدفعت البعض من العسكر، خاصة الضباط بالرتب الصغيرة وضباط الصف والجنود إلى الانضمام الى الأحزاب السياسية ظناً منهم أنها قادرة على تحقيق آمالهم وبعض تطلعاتهم الشخصية والسياسية، فكان طريقاً بشقيه مخالف للمعايير العسكرية، وسبيل لهدم بنيتها.
ان الحكومات العراقية التي شكلتها المؤسسة العسكرية المُسيَّسة، لم تتوقف عند خطأ تعزيز فكرة الثمن"غير المقصود" بين كبار الضباط، عندما شكـــلوا أول حكومة لهم مــن العسكريين المساهمين بالتغيير، والمؤيدين لهم، ولا عند خطأ اللعب على الصراعات الحزبية في المؤسسة العسكرية كما مبين في أعلاه، بل وارتكبوا أخطاء أخرى أكثر جسامة مثل:
- أبقوا أنفسهم في السلطة تحت بند الاصلح والاكثر وطنية.
- لم يبادروا بتكوين المؤسسات الدستورية القادرة على تنمية وتطوير قدرات الدولة.
- لم يحدوا من تطلعات الضباط لتحقيق مكاسب شخصية.
- لم يُفَعلّوا القوانين التي تحرم وجود الخلايا الحزبية في الجيش، ويمنعون وجودها تماماً.
وبذا أبقوا أهداف انقلاباتهم في الدفاع عن المجتمع العراقي، وأرض الدولة العراقية ضبابية أو غير منظورة، وبدلاً عنها أصبح السعي للاشتراك المباشر في حكم الدولة، والتدخل في شؤونها أكثر الأهداف وضوحاً في الذاكرة القريبة لعديد من الضباط القادة.

            
انتقال حمى التسييس
ان مراحل حكم العسكر والجمهوريات التي أنشأوها، يمكن عدها بداية التسييس المنظم للقوات المسلحة، وجمهورية (٨) شباط يمكن عدها نقطة تحول جذري لما يتعلق بعملية التسييس الهادم لبنية القوات المسلحة، اذ بدأت اشارات بعثية واضحة للمطالبة بجيش عقائدي، وبدأ القبول في كليتي القوة الجوية والكلية العسكرية والشرطة على الاساس الحزبي، وعن طريق الحرس القومي"الدورة 42 للكلية العسكرية"، واخذت تعقد اجتماعات حزبية في الوحدات العسكرية على مستوى العلن، حتى عجز العسكريون المهنيون وعبد السلام رئيس الدولة آنذاك، من الوقوف بمواجهة التيار المتصاعد للتسييس في فترة حكمه الاولى، وعجز بعض العسكريين البعثيين المنضبطين عسكرياً مثل حردان عبد الغفار، وغيره من الوقوف ضد تيار يغالي في موضوع التسييس، وضرورة تكوين قوات مسلحة بعثية "عقائدية" قادرة على حماية الحزب وحكمه للدولة. وهنا تجدر الاشارة الى انتقال بعض معالم السلوك المذكور، من تلك الازمنة الى الزمن الجديد بعد عام ٢٠٠٣ إذ لوحظ مع بداياته تهافت البعض غير القليل من الضباط لكافة الرتب الى صفوف الاحزاب والكتل السياسية، عارضين الانتماء اليها أو التعبير عن الولاء لها، أو يكونوا عيوناً لها في المؤسسة العسكرية، وتكون هي داعمة لهم في مناصبهم الجديدة.  

التبعييث

كانت لحزب البعث العربي الاشتراكي قبل عام 1958 خلايا منظمة في القوات المسلحة، قليلة العدد، مبعثرة التواجد، أو على الأغلب تنتشر على شكل ضباط منظمين في خلايا حزبية تدار من خارج القوات المسلحة. وعلى هذا الاساس وتحليل فعل التأثير يتبين، أن الحزب أبان تلك الفترة الزمنية لم يمتلك القدرة التنظيمية التي تؤهله لان يكون رقماً في مسيرة التغيير الذي حصل ذلك العام، كما ان تشكيلة الحكومة بعد النجاح لم تضم بينها أحد من الضباط البعثيين، مما يعزز التأكيد من أن الحزب لم يكن طرفاً مباشراً فيها، لكنها وفي فترة لاحقة ضَمّت فؤاد الركابي أمين سر القيادة القطرية للحزب، على ضوء توجهات عبد الكريم، الى تشكيل حكومة وطنية من التيارات السياسية الموجودة على الساحة. إلا أن تحركــات الحزب في صفوف القوات المسلحة كانت سريعة بعد محاولة الاغتيال عام 1961، حيث الاستثمار الجيد لتلك الظروف، وحسن صياغة الأهداف، وبراعة تسويقها بديلاً عن طروحات الحزب الشيوعي الذي أتعبته أحداث ما بعد التغيير، وقيدت حركته تحديدات الاتحاد السوفيتي في التعامل مع قاسم، وكانت الحصيلة نجاح عسكريو البعث في قلب نظام الحكم لصالحهم مرتين، وشروعهم في عملية تسييس فور استلام السلطة، والانتقال بعدها وبسرعة أيضاً الى التبعييث، مرحلة متقدمة، لتكوين الجيش، عقائدياً ومنضبط حزبياً، يأتمر بأوامر القيادة السياسية، وتم هذا على وفق خطة انجزت على مرحلتين تنفيذيتين متداخلتين:
1. الاحتواء. عندما نجح الانقلاب، وتمت السيطرة على سلطتي الدولة والعسكر، توجه الانقلابيون أو البعثيون الى احتواء الضباط غير البعثين، وتحييدهم مؤقتاً للاستفادة من خبرتهم في مجال القيادة، وادامة العمل لفترة تتيح للحزب الانتشار بين جميع وحداتها وتشكيلاتها افقياً. وفعلاً قد بدأت عمليات الاحالة على التقاعد للضباط بعد فترة من الانتشار والسيطرة، تقترب من 17 تموز، وتبتعد عنها تبعاً لانتماء الضابط السياسي غير البعثي ومواقفه من الانقلاب، وكانت الاحالات قد تمت لمستويات القادة المعروفين، وتمت بتوجيه التهم عادة ما يكون التآمر محورها الاساسي. ترافق معها معاودة الاتصال بالضباط من ذوي الميول البعثية السابقة، أي الذين تركوا الحزب بسبب فشل الادارة والانشقاقات الحاصلة عام 1963، وكذلك مع المتعاطفين والانتهازيين، فبدأت حملة دخول الى المنظمات الحزبية بعد عدة اشهر من الانقلاب، شكلت على وفقها قيادات تنظيمية حزبية عسكرية على مستوى المحافظات تمتد منها الى الوحدات، وهي فترة لم تستمر سنة، تضخم فيها التنظيم البعثي العسكري، وسيطر فيها المسؤول الحزبي على القائد العسكري.
2. التنفيذ الاجرائي. ان مسألة التبعيث، يتجاوز تحقيقها على أرض الواقع، مجرد الاحالة على التقاعد والسجن والاجتثاث الى متطلبات اجرائية، تعزز من سلطة الحزب ووجوده، وتزيد من انتشاره وبسط سيطرته، وقد نفذها الانقلابيون متداخلة مع الاولى، وحققوا الآتي:
آ. تعميم نشر المنظمات والخلايا الحزبية البعثية فقط، على كافة وحدات ومؤسسات القوات المسلحة لممارسة العمل السياسي بشكل علني.
ب. استلام الضباط الحزبيين المناصب القيادية خارج أطر القدم والتأهيل، التي اعتادت المعايير العسكرية التعامل معها في سياقات التعيين.
ج. نشر الثقافة الحزبية البعثية التوجيهية على مستوى المنتسبين.
د. التحكم بمنافذ الترشيح والقبول للكليات العسكرية، وحصر القبول فيها للبعثيين والمؤيدين لهم، مع حث الأعضاء والأنصار والمؤيدين للتقديم إليها. فكان الخريجيون من بداية السبعينات والى عام 2003 غالبيتهم من البعثيين انتماءً، أو موالاةً أقرب الى الانتماء المصلحي، وكانوا كثيرين، يفوق عددهم اعداد البعثيين المنتمين عقائدياً.
هـ. تقليص الدراسة في الكليات العسكرية، وضغط المراحل الزمنية لتخريج أكبر عدد من الضباط الأحداث كقاعدة حزبية واسعة. اذ قُبلَ بعد 1968 في كلية الضباط الاحتياط حوالي الفي بعثي ومؤيد للبعث في دورتين خاصتين هما الاولى والثانية، منحوا بعد ستة اشهر دراسة عسكرية مكثفة، رتبة نائب ضابط تلميذ حربي، وزعوا على كافة وحدات الجيش، ليكونوا مسؤولين حزبيين، وعيون للحزب، واساس لتعويض الفاقد في الضباط نتيجة الاحالة على التقاعد، والعزل التي تصاعدت تدريجياً.
و. قبول أكبر عدد ممكن من خريجي الكليات المدنية في كلية الضباط الاحتياط، واختصار فترة إعدادهم إلى ثلاثة أشهر بدلاً من ستة احياناً، لتأمين نفس الغاية المذكورة في أعلاه.
ز. دفع الشباب المنتمين إلى الحزب ومؤيديه إلى التطوع في صنوف الجيش وافرع القوات المسلحة، بصفة جنود وضباط صف ومفوضي شرطة مع إغرائهم بالترقية إلى رتبة ضابط مستقبلاً، بضوابط جديدة فرضها الحزب على سياقات التطويع الخاص.
ح. تقريب الجيش من الشارع العراقي، وذلك بتكثيف الاستعراضات العسكرية، والتوسع بتكليفه بمهام الحراسة والأمن الداخلي.
ط. إعطاء الاستخبارات العسكرية دوراً في مكافحة التواجد الحزبي غير البعثي خارج واجباتها، في عملية جمع المعلومات الاستخبارية عن الأعداء والأعداء المحتملين.   
ي. تطعيم القيادة القطرية للحزب بضباط من الرتب الكبيرة.
ك. تغيير سياقات الترقية والقبول في كلية الاركان، لتسهيلها أمام البعثيين والدورات الخاصة، خارج سياقات الخبرة والشهادة والعمر، بغية الحصول على اكبر عدد من القادة البعثيين، وهيئات الركن البعثية.  
تغيير الصيغة الحزبية في الجيش
لقد تغيرت الصيغة التنظيمية للحزب في القوات المسلحة، مع تزايد أعداد الحزبيين، ليكون "فرقياً" مشابها للتنظيم المدني، تطور بالتدريج، ليكون في السنين الاخيرة لحكم البعث، ما يقارب قيادة فرقة على مستوى اللواء، وشعبة على مستوى الفرقة، وفرع للفيلق، تتصل بالمكتب العسكري الذي يرأسه رئيس الدولة، وأصبح المسؤول الحزبي في سياقات العمل، أكثر اهمية وتأثيراً من الآمر/ القائد. وعلى هذا الاساس ولغرض تمشية خطط التبعيث من جهة والقضايا العسكرية من جهة ثانية، تم توزيع مسؤولية القيادة في الوحدة والدائرة بين الآمر والمسؤول الحزبي، لتصبح في نهاية الأمر، قيادة من النوع الأقرب للقيادة الجماعية التي يصبح فيها الآمر/القائد عضو في الخلية الحزبية، يتمتع بصوت فيها، أسوة بضابط الاستخبارات، وضابط التوجيه السياسي، وآخرين بإمرته عسكرياً، يقررون جميعهم جوانب كثيرة من عمل الوحدة خاصة ما يتعلق بالأمور الإدارية والنقل والترقية والترفيه، وغيرها أعمال تؤكد في النهاية أن سلطة الآمر وقراراته، باتت في الصيغة التي يريدها الحزب، وتنفع مسيرته في السيطرة. وبالتالي أصبح الحزب هو المحرك الرئيسي للعمل على حساب المهنية العسكرية، بل وأخل بها خللاً كبيراً عندما أوكل احياناً لضابط صف ان يكون مسؤولاً حزبياً للضابط "في السني الاولى على اقل تقدير" ولملازم تخرج تواً أن يكون مسؤولاً حزبياً لآمر اللواء أو قائد الفرقة.
المزج بين الضوابط الحزبية والعسكرية
ان الاجراءات المذكورة، حدثت بالتعاقب جعلت الحزب يُبنى بطريقة العسكر، وجعلت عموم القوات المسلحة تُبنى بمفاهيم وضوابط الحزب، ليكون الجيش في محصلته النهائية خلية من خلايا الحزب، ويكون الحزب جيشاً واسع الانتشار.
لقد تخللت المرحلة توجهات لمنح رتب عسكرية خارج الاستحقاق، وترقيات ضباط حزبيين تصل الى اكثر من رتبتين لمرة واحدة في بعض الاحيان، اذ منح على سبيل المثال جندي الحماية الخاصة حسين كامل رتبة ملازم تدرج بخمس سنوات ليصل الى رتبة فريق ركن، وشقيقه صدام كامل وصل الى رتبة رائد، وعبد حمود الى رتبة فريق وآخرين غيرهم. وعندما خطط صدام للحرب مع ايران منح ضباط أعضاء مكتب عسكري، وفروع وشعب، قدماً ممتازاً لرتبتبن بالنسبة الى البعض، وعينوا قادة فرق وتشكيلات، كان لهم دوراً في صفحة الهجوم الاولى على ايران، غالبيتهم برتبة رائد ومقدم ركن بينهم رحيم طه التكريتي، وصباح هشام الفخري، وجليل محسن وآخرين. وبالمحصلة أصبح الحزب ممثلاً بتنظيماته المنتشرة في كل الدوائر والمؤسسات والوحدات، هي التي تدير القوات المسلحة ميدانياً على وفق فلسفة ضبطية، لا تمت الى الموروث الضبطي المتعلم من قبل بأية صِلة.
ونهج تفكير يفضل فيه العسكري أهداف الحزب وسياقات عمله على خطط القوات المسلحة وضوابطها، فاسهموا في تقريب قواتها من مليشيات لم تصمد في حربين متتاليتين انهتها بشكل كامل.
ان التبعييث آفة هدمت اركان وبنية الجيش وجميع افرع القوات المسلحة، واعطت مبررات حلها فيما بعد. هدمٌ تم بشكل تدريجي طويل الامد، يمكن رده الى جهود البكر وصدام حسين، اللذان قادا المرحلة وافترقا في منتصف طريق، اكمله الاخير بتطرف في كل شيء حتى التبعييث. اذ انهما وبعد نجاح الانقلاب، وعزل الشركاء انفسح المجال لهذا الحزب وجناحه العسكري ان يحكم حكماً مباشراً، وخلت له الساحة واسعة لتطبيق فكرته في تبعييث القوات المسلحة. سياقٌ غَيَّرَ مجرى الأحداث، ورسم خريطة العراق باتجاه التوتر واثارة الأزمات. خاصة وان نجاحه في السيطرة والتبعيث هذه المرة كان مصحوباً بخبرة جيدة في الدهاء، والمناورة ودور يختلف إلى حد ما عن ذلك الدور الذي كلف به عام 1963، عندما غرق في وحل التنفيذ الحرفي لقوى دولية في قتل الشيوعيين، وكذلك في التصارع الداخلي بين الرفاق، وأهمال مهام الدولة والمحافظة على البقاء.
الاستحواذ على المراكز المهمة
لقد سعى الحزب، بعد 17 تموز الى تجنب الانشغال والتسابق على الوظيفة، على حساب العمل الحزبي وشد التنظيم، فأفرغ البعض لاغراض الوظيفة، وأحتفظ بالبعض الآخر لأغراض التنظيم وتحقيق أهداف التبعييث، على يد حزبيين عسكريين وتوجيه وسيطرة القيادة العليا. بدأها بخطوات محسوبة جيداً للاستحواذ على المفاصل المهمة في الجيش، والسيطرة على ادارة الوحدات العسكرية ذات التأثير المباشر على أمن الحزب والحكومة. ووزع أعضاءه ومؤيديه على كافة الوحدات العسكرية والامنية لتأسيس خلايا حزبية، وقواعد استخبارية هدفها الرئيسي مراقبة ومتابعة الضباط غير البعثيين. واسرع في نقل عديد من الضباط المستمرين بالانتماء إلى حزب البعث إلى وحدات بغداد، خاصة تلك التي اشتركت بالانقلاب مثل اللواء المدرع العاشر، ولواء الحرس الجمهوري، وكتيبة دبابات 14 رمضان، والمديرية العامة للاستخبارات العسكرية، ومفاصل تحكم، وسيطرة أخرى مهمة لأمن الحكومة والحزب، رافقها تكوين مفاهيم تخويف وتجنب قسرية في نفوس المنتسبين، من اجهزته الامنية والاستخبارية التي منحت صلاحيات واسعة، وجهد مميز لاتمام فعل التبعييث في صفوفها أولا، اذ نقلت اول دفعة لما يقارب خمسين ضابطا برتبة ملازم – م.أول أعضاء في الحزب، الى مديرية الاستخبارات العسكرية في نيسان 1970، قادوا عملية تبعيثها. وبعدها بقليل نقلت وجبة مماثلة من عموم القوات المسلحة الى جهاز المخابرات لتعزيز عملية التبعيث الموجودة أصلا، وكذلك بالنسبة الى مديرية الامن العامة التي تعززت بضباط شرطة ونواب مفوضين من دورة خاصة، اعدها الحزب للبعثيين الراسبين في الصف الثالث المتوسط. كان وجودهم مؤثراً في قضايا المراقبة والتحقيق حتى تسجل بوجودهم، ان البعث هو الاقسى في التعامل مع اعداءه واصدقاءه ومريديه، خاصة مع الضباط، بقصد إبعادهم جهد الإمكان عن التفكير بأعمال الضد من سلطته والحكومة، أو حتى بامور غير مرغوب حصولها، إذ اجادت هذه الاجهزة فن صياغة الاتهامات بالرجعية والتآمر والتجسس، ونفذت اوامر اعدام العسكريين بطريقة اعطت الزملاء والمعارف انطباع مؤثر، عن قسوة النظام والكلفة العالية لعدم الامتثال إلى رغباته.

تقوية ضباط الصف سياسياً
مع تلك الاجراءات التراتبية، بدء الحزب بتقوية سلطة ضباط الصف الاساسية، باعطائهم قوة وجود داخل الوحدة، خارج دورهم الذي حددته الضوابط والقوانين العسكرية، مثال عليه يعود الى عام 1969يوم كان مساعد آمر فوج الثالث لواء الخامس عشر بعثياً، وكان يصدف ان يتأخر بعض ضباط الصف عن الحضور الى التدريب المسائي الذي يقام يوماً في الاسبوع احياناً حسب نشرة التدريب، وعندما وصل الخبر الى آمر الفوج، وحاول معاقبتهم، تدخل الحزب طالباً من المساعد اخبار الآمر أن لديهم اجتماع حزبي، تبين بالمتابعة فيما بعد عدم صحة ذلك. لكن المساعد اضطر الى تنفيذ امر الحزب على حساب الضوابط العسكرية، وتدخل بوزنه الحزبي (وهو ملازم) بمواجهة آمر الفوج (المقدم) بقصد حماية رفاقه من العقاب.
لقد تطور الحال فيما بعد، لان يُلزم المساعد من قبل المنظمة الحزبية، وبطلب من ضباط الصف بتهيئة سيارة ركوب عسكرية لنقلهم الى المدينة "البصرة" للترفيه او لحضور ندوات او لقاءات حزبية، في الوقت الذي لا تسمح الضوابط باستخدام العجلات لغير اغراضها العسكرية في بداية تلك الحقبة وما قبلها. فكان هذا تجاوز وخلل قيمي جعل المراتب يشعرون بقوة وجودهم طرفاً قوياً في المعادلة الضبطية، وجعل الضباط المحترفيين من الحزبيين وغير الحزبيين ينأون بأنفسهم عن المحاسبة، فضعفوا طرفاً فيها "المعادلة" بطريقة تفاعل أسهمت في تهديم أسس الضبط العسكري. علما كان لبعض ضباط الصف دوراً لا يستهان به في فرض السيطرة الحزبية، كما وصل عديد منهم إلى مستويات قيادية عليا في الجيش والاجهزة الامنية، استمروا  بالعمل حتى انتهاء النظام، منهم العريف علي حسن المجيد الذي منح رتبة فريق ركن وشغل منصب وزير الحكم المحلي ومن بعدها وزير الدفاع، وعضو القيادة القطرية للحزب، بالاضافة الى ن.ض كامل ياسين الذي تفرغ للعمل الحزبي، ليكون عضو المكتب العسكري، ثم عضو قيادة قطرية، ونائب المفوض وطبان ابراهيم وزير الداخلية، ونائب المفوض سبعاوي ابراهيم مدير الامن العام، وغيرهم آخرين كان لهم دوراً كبيراً في تبعيث المؤسسة العسكرية والامنية، وحرفهما عن طريقهما المهني.
ان قوة الدفع هذه لضباط الصف، سحبت المنظمة الحزبية في الوحدة والدائرة لان تكون طرفاً، صاحب قول وفعل في موضوع القيادة والسيطرة، علـى حسـاب الآمر/القائد الذي تنازل عن بعض صلاحياته، بطريقة تفاعل أسهمت في تصدع أعمدة القيادة والضبط، في آن معا.
 
التطويع السياسي
إن هذه المرحلة التي تأسست عليها مراحل تبعيث القوات المسلحة، وسيطرة الحزب التامة على مقاليد السلطة، سارت عليها المؤسسة السياسية كثيراً الى الامام، لتحقيق غاية أبعد من التبعيث، قوامها تطويع المؤسسة العسكرية والامنية، خطوة تخللت بعض الخطوات المذكورة، وأعقبت أخرى غيرها. اذ وفي الوقت الذي كان فيه البعثيون مشغولون بالحكم الذي عاد إليهم بعد 1968، وبنشوة النصر والولع بالدفاع عنه، كان البكر مشغولاً بتعزيز قرابة السلطة، وكان صدام مشغولاً بركائز تثبيت حكم العائلة والعشيرة والمنطقة في السلطة، غايتان تلتقيان عند تطويع منتسبي القوات المسلحة. هذا من ناحية ومن ناحية اخرى، فقد تصرف كثير من الحزبيين في المؤسستين العسكرية والأمنية بتلقائية البدو وعفوية المدينة، وتصرف البكر وصدام بدهاء القرية، ومكر العشيرة، في معادلة صراع خفي خسر بنتيجته الحزبيون حزبهم، وخسر الحزب كوادره الحزبية العقائدية، وكسب بنتيجته البكر إحدى عشر سنة من الحكم وبروز أكبر لدور المنطقة، وفاز بنتيجته صدام بالحزب، أداة تملكها العشيرة، وبالجيش أداة تُسَيِّرها القرية " العوجة "، وبالحكم هرمٌ وقف في أعلى كل تدرجاته المهمة رجال القرية والطائفة، وجلس هو وعـائلته أعلى قمته إمبراطوراً بيده معول هدم لم يشهد له العراق مثيلاً، منذ بدء حضارته الأولـى قبل آلاف السنيـن.

الازاحة السياسية
ان عموم النتائج التي جاءت اثر التفاعل الاجتماعي السياسي لتلك الخطوات والتي بعثّتْ، ومن ثم طوعت القوات المسلحة، كان التخطيط لها منذ البداية، وكان مهندسها الاصلي صدام حسين، مستغلاً ضعف البكر ورغبته بوجود شخصية قوية الى جانبه، قادرة على حماية موقعه في اعلى السلطة. فشرع  أولا بإزاحة الأجيال الأولى للبعثيين العسكريين والمدنيين، واحلال محلهم آخرين من بين الشباب، وكانت ازاحة بأساليب متعددة أقساها الاغتيال بحوادث سيارات وطائرات وسموم، لمن يشكل وجوده عائقاً امام تنفيذ المهام المطلوبة، لبسط السيطرة والنفوذ، وامتعها التكليف بمهام دبلوماسية خارج القطر، لمن يحول بقاءه في المستوى القيادي الحزبي دون الصعود الى المراكز العليا في الحزب والدولة. لأن في عودة أي منهم من عمله الخارجي "المتحكم بها من قبل صدام شخصياً" سوف لن يجد نفس درجته القيادية بعد ان احتلها القريبين من صدام، وسيكون تدرجه في المواقع الحزبية وعلى وفق الديمقراطية البعثية آخر القائمة.
وشرع ثانياً باستلام مسؤولية المخابرات العامة، منذ تأسيسها "مكتب العلاقات العامة"، التي وجد فيها أداة جيدة للتصفية والإزاحة والتزكية والتعيين والتصعيد. وأخيرا قتل البكر، واستلام المركز الأول في الدولة والحزب.
وتوجه ثالثاً، بانتقاء الضباط الأحداث من تكريت وما جاورها، وإعدادهم لمستقبل القيادة في القوات المسلحة، تجاوزاً على توجيهات خاصة للحزب بعد عام 1970، تؤكد "عدم جواز تنسيب الضباط الأحداث بعد تخرجهم من الكلية العسكرية إلى وحدات بغداد، إلا بعد مضي مدة لا تقل عن السنتين على خدمتهم في الوحدات الفعالة خارجها". كان لبعض هؤلاء اللذين أصبحوا في فترة التسعينات وما بعدها، من كبار القادة العسكريين والامنيين، دور في احداثها. وهذا موضوع تصادف ان ناقشته عام 1971 قيادة فرقة وزارة الدفاع، ورفعت محضراً به الى المكتب العسكري، الذي أرسل نائب امين سره محمد فاضل "اعدم فيما بعد" على جميع أعضائها "قيادة الفرقة" ونبههم على تجاوزهم بعض الخطوط غير المسموح بتجاوزها. وكان من بين الضباط المرسل عليهم آنذاك م.أول ادهام شكر و م.أول جابر عصواد وم. أول سعد العبيدي م. أول ياسين عباس.   
كان ذلك توجهاً عاماً رافقه توجه آخر فيه آلية معقدة للقبول في الأركان والدفاع الوطني والدورات الخاصة، تعتمد على أساس الموافقة الشكلية الأولية للوحدة والقيادة، التي ينتسب إليها الضابط على ترشيحه، تصحبها موافقة أهم للمنظمة الحزبية التي يعمل الضابط ضمن مسئوليتها التنظيمية، ومن ثم موافقة الاستخبارات العسكرية، والأهم منها جميعاً موافقة  المكتب العسكري، الذي يصدر قوائم الترشيح الأولي، ليخضع المتقدمين إلى اختبار نفسي، ومقابلة خاصة راسها لفترة طويلة العقيد الركن عدنان خيــر الله، ولحين استيزاره لوزارة الدفاع، وهذه آلية عمل كانت بقصد وضع الكثير من الفلاتر "أي المرشحات" لإبعاد غير المرغوب بهم عن التأهل للمناصب القيادية في الجيش، وتسهيل قبول من يراد قبولهم حزبياً ومناطقياً.
وفوق هذا وضعت ضوابط مرنة لإعداد وتهيئة ضباط الركن لمناصب القيادة والركن، تتأسس على عدة خطوات تراتبية بينها تنسيب من يكمل الدراسة في الأركان كضابط ركن في مقرات الألوية، لينتقل بعدها إلى مقرات الفرق، ثم يعاود العمل بمنصب مقدم لواء، ليكون مؤهلاً لاستلام منصب آمر وحدة، يقضي فيه عدة سنوات، ينتقل إلى ثاني حركات، ثم أول حركات في الفرقة والفيلق، ليكون مؤهلاً لإشغال منصب آمر لواء، وهكذا يعمل ضابط الركن، كرئيس أركان فرقة ليكون مناسباً لتسلم منصب قائد فرقة.
انها ضوابط وخطوات، تأخذ وقتاً طويلاً، درجت عليها المؤسسة العسكرية في ظروف الإعداد المهني الصحيحة، إلا ان المتتبع يجد أن كثيراً من الضباط البعثيين، ومن المقربين الى صدام ومنطقته على وجه الخصوص لم يخضعوا لها، وقد نسبوا آمري وحدات بعد تخرجهم من كلية الأركان مباشرة، ونسب آخرين آمري تشكيلات وهم برتب صغيرة، ولم يعملوا ضباط ركن في المقرات، بينما ضاع في طول مسافتها كثير من ضباط الركن من مناطق العراق الأخرى، لا يقلون عن أقرانهم البعثيين في مستوى الكفاءة ولا يختلفون عنهم إلا في موضوع الحزبية والمناطقية واحيانا الطائفية. وخير مثال على هذا تنسيب ماهر عبد الرشيد إلى منصب آمر كتيبة دبابات وهو برتبة م.أول ركن، ليصل إلى قائد فيلق، وضباط ركنه من الدورات التي تسبقه في الكلية العسكرية وكلية الأركان بعدة مراحل، ونسب ثابت سلطان آمر كتيبة دبابات وهو نقيب ركن، ووصل قائد فيلق، وضباط من دورته في الكلية العسكرية آمري أفواج في فرق فيلقه، وكذلك النقيب أحمد حماش الذي وصل قائد فيلق قبل أقرانه باكثر من عشر سنين، وآخرين غيرهم. هذا ومع كل تلك الضوابط التي تسهل وصول البعض، وتعيق مسيرة البعض الآخر، وضعت القيادة مفصَلاً دقيقاً يرتبط بها معنياً بالقبول والترشيح خاصة للكليات العسكرية والدورات الخارجية والدراسات العليا، وعينت مسؤولاً عنه بعثي بدرجة عالية ومن المقربين من الرئيس في غالب الاحيان.

                       

انحسار الضبط العسكري سياسياً
إن مرحلة البكر التي دامت إحدى عشر سنة، وتبعاً للمعطيات التي جاءت فيها والأحداث التي تكررت خلالها، وأساليب التعامل معها، يمكن عدها مرحلة أسست قواعد انحراف وتخريب سحبت الى الهدم الذي حصل فيما بعدها. لأنها مرحلة شهدت اتجاهات للتخلص من كوادر الحزب العقلانية التي تحتفظ وإلى حد مقبول ببعض القيم والتقاليد السياسية والعسكرية، للتعامل مع الواقع بما يحول دون إنهياره، ومهدت لصعود جيل من الحزبيين الانتهازيين الوصوليين الذين يرون في مصالحهم غاية لا بد من تأمينها، ولو بوسيلة حرق الآخرين، وتدمير المؤسسة العسكرية، وكان هذا الجيل هو القائد الفعلي للمرحلة الثانية مرحلة الهدم البنيوي.
لقد كانت فترة العقد الأولى أي مرحلة البكر بداية لانحسار الضبط العسكري، لعموم الجيش العراقي لأسباب بينها:
١. التدخل الجاري من قبل الحزب والمسؤولين السياسيين في شؤون الوحدات والآمرين.
٢. التركيز في قضايا التعليم والتثقيف على مفردات السياسة كماً يفوق كثيراً مفردات العسكرية، ومستلزمات الضبط.
٣. عمل الحزب لحرف الولاء بين الضباط وضباط الصف والجنود من ولاء تقليدي للمؤسسة العسكرية، إلى ولاء انتهازي للمؤسسة السياسية، أي الحزب والحاكم.
٤. التقليل المتعمد لقيمة الضابط في الجيش والشرطة، ولقيمة الوحدة والتشكيل، وإعلاء شأن المنظمة والفرقة الحزبية.
٥. الافراط في العقاب، في عموم المقرات والمراكز والثكنات العسكرية كوسيلة لإيجاد نوعاً من الضبط القسري، قائم عليه، والتهديد باستخدامه، وعلى العكس تماماً من سياقات المؤسسة قبل مجيئ الحزب، اذ لم يكن لدى القوات المسلحة سجناً للضباط قبل عام 1968، سوى سجن رقم واحد في معسكر الرشيد، الذي يُستخدم لإيواء السياسيين والعسكريين بالمستويات القيادية المتقدمة، وعندما بنت المخابرات سجنها في السبعينات، وأكملت الاستخبارات سجنها الخاص في الثمانينات، وشيدت الامن العامة سجنها بنفس الفترة الزمنية، بات السجن رقم واحد متنزهاً للراحة والاستجمام، بالمقارنة مع اماكن التعذيب الخاصة لتلك السجون، وغرفها الانفرادية، كما لم يكن بالإمكان توقيف ضابط قبل العام 1968، إلا بموافقة رئيس أركان الجيش ولأي سبب كان، ولم يصادف أن عوقب ضابط بعقوبة إلفات النظر إلا ما ندر، وعلى العكس ما بعده، أصبح توقيف الضابط يسبق الموافقة تحقيقاً لمبدأ الأمن، وأصبحت العقوبة مسألة طبيعية واجهها كثير من الضباط، فأوجدوا بالتدريج هذا النوع من الضبط الترهيبي، كبديل عن الضبط الطوعي الذي يبنى في التدريب والتثقيف العسكري، والتعامل وفقاً للمعايير والضوابط العسكرية.

التدجين السياسي
ان تطور رؤى التبعييث ثم التطويع، تخللتهما فلسفة سار عليها قادة الحزب قوامها كسر شوكة العسكر، أي تدجينهم وإبعادهم عن احتمالات التآمر وقلب نظام الحكم، وبدأت فيها أساليب التعامل مع الضباط خارج السياقات العسكرية، هذا وتبين الوقائع والأحداث التي مرت بالقوات المسلحة خلال هذه الفترة التي ادار فيها البكر السلطة، ومقارنتها بالفترة التي أعقبتها لصدام حسين، أنهما فترتان من الناحية العملية ليستا منفصلتين، بل متصلتين، تمهد فيهما الأولى لما جرى في الثانية. ويتبين أن لمسات صدام حسين كانت واضحة على المرحلتين، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار، أنه شغل بالإضافة إلى مناصبه المتعددة، نائبا لأمين سر المكتب العسكري الذي كان البكر أمينا لسره، ولمعظم تلك الفترة الزمنية.
ان الطريق للوصول إلى غاية التبعيث في المؤسستين العسكرية والأمنية، وفي مجتمع مثل العراق لابد وإن يختلف في مجال التطبيق للوصول اليه، المنفذون تبعاً لطبيعة الشخصية، ونوع التنشئة والالتزام المهني "العسكري والامني"، وتلك كانت من العوامل التي حكمت الأساليب المتبعة طوال حكم الحزب، وبصددها يمكن التأشير ان مرحلة التبعييث هذه في سنيها الأخيرة "زمن صدام حسين"قد تجاوزت فعل التبعييث، ومن ثم التطويع وسارت قدماً باتجاه التدجين. ويمكن التأشير ايضاً أن الاول، أي البكر الذي يتفق والثاني، أي صدام بمسألة التبعيث والتطويع، يختلفان فيما بينهما لما يتعلق بالوقت، اذ كان الأول متأنيا، لا يريد اثارة المجتع بالضد من الحزب في أيامه الاولى، على عكس الثاني الذي كان يحث الخطى متعالياً على المجتمع.
كما ان البكر الذي لا يميل إلى تسليم مسؤولية القيادة إلى ضباط أحداث، يركز على دورهم في مراقبة ومتابعة حركة الكبار، لحين تهيئتهم أي الصغار بما يكفي لتحميلهم تلك المسؤولية، على العكس من صدام الذي يرى في الشباب الحزبي طاقة يمكن استغلالها وبما يفوق حدود التبعييث.
إن صدام الذي عانى ضغوط الزمن، اندفع بسبب معاناته هذه إلى التسرع للوصول إلى الغاية التي يريدها قوات مسلحة مدجنة، فكانت خطوته الأولى تصفية الجيل الاول والثاني من البعثيين العسكريين، أسوة بالمدنيين في حادث المؤامرة السورية المفتعل عام 1979، بعد توليه منصب رئيس الدولة، والقائد العام للقوات المسلحة، وأمين سر القطر عام 1979. خطوة جاءت في اطار الاحتراز والتدجين في آن معاً، بدأت بالجيل الأول من البعثيين العسكريين أمثال اللواء عبد الكريم مصطفى نصرت، والفريق الركن عماش، وآخرين تم القضاء عليهم بطرق مختلفة تتفاوت من الاماتة المحتومة بتهم مشينة كما حصل للاول، والابعاد شبه القسري بالتعيين في السلك الدبلوماسي ثم السم خطوة لاحقة بالنسبة إلى الثاني، والحقه بالجيل الثاني مثل اللواء الركن وليد محمود سيرت الذي أعدم بدعوى مؤامرة، وكذلك العقيد صالح الساعدي، والعقيد الركن حامد الدليمي الذي مات في السجن تعذيباً على أعقاب المؤامرة، والعقيد الركن فارس حسين، والعقيد الركن محمد عبد اللطيف، وآخرين سجنوا سجناً مؤبداً بدعوى نفس المؤامرة. في نفس الوقت تهيئة قادة عسكريين من بعثيي الجيل الثالث، لا توجد في ذاكرتهم خبرات ما يسمى بالنضال السلبي قبل عام  1968 قد تحركهم للتعامل بمبادئ الثورية. ولا هم من رجال الانقلاب الذين يسعون لقبض ثمن مساهمتهم به. جيلٌ نشأ في ظل الوضع الجديد، على وفق خطط التبعييث، مُنِحَ فرصة استلام منصب قيادي بزمن يحتاج الوصول إليه في الظروف الاعتيادية عشرات السنين. فرصةٌ، يفترض أن يدافع عنها، دفاعاً يدعم في المحصلة أمن الحاكم والنظام.
لقد كان صدام في خطواته للتبعيث والسيطرة غائياً، وهو خير من عمل على اساس الغاية تبرر الوسيلة، حتى ابتدع موضوع المؤامرة السورية ودور محمد عايش فيها عام 1979 كركيزة لازاحة من يقف في طريق الوصول الى الغاية، إذ يبدو من سير وقائعها انه قد طلب من المقربين منه ومن اشقاءه قوائم بالضباط الذين لا ينسجمون مع وجودهم في الإدارة الجديدة، أو يقفون عثرة في طريق الوصول اليها، فكانت هناك قوائم من العسكريين والمدنيين لم تتوقف على القِدَمْ العسكري والحزبي فقط، بل وفي ظروف البيئة العراقية وتركيبة العائلة، زحفت إلى دوافع الحقد الشخصي الذي وجد فيها البعض منهم فرصة لتصفية الخصوم والمفاصل، التي تعيق الصعود السريع للمناصب القيادية، أرعبت الجهاز الحزبي المعني بالتبعيث بطريقة عَبَّرَ عنها أحد كوادر الحزب المتقدمة آنذاك قائلاً (لقد أختلط الحابل بالنابل، إذ لم يعد يعرف الحزبي، وخاصة من عضو شعبة فما فوق، أنه قد اختير من بين القرابين المطلوب التضحية بها على عتبة استلام صدام للسلطة).
ان القوائم التي باتت تصدر من الرئاسة مباشرة، كانت تشمل وزراء يجري اقتيادهم من وزارتهم بطريقة مهينة أمام الموظفين، وأعضاء في القيادة القطرية وضباط قادة كانوا يُعَنَفُون أثناء توقيفهم من قبل جنود في حمايتهم أمام الجميع، وضباط في المكتب العسكري كانوا يُقَيَدونَ وهم جالسين على مكاتبهم، تعصب عيونهم ويضربون بأخمص البنادق، وعسكريون أعضاء فروع يسحبون من ندوات حزبية، كانوا يتكلمون فيها عن أبعاد المؤامرة. وكانت بوجه عام ردود فعل الحاضرين من الكادر المتقدم للحزب من العسكريين والمدنيين في القاعة، هستيريا حيث التصفيق والهتاف للقائد الجديد، وهو تعبير عن حالة تدجين حقيقية.
ان صدام في تعامله في الوصول الى الغاية التي لم يدركها القريبين منه أحيانا قد استخدم أسلوب قوامه احداث صدمة في نفوس المتلقين، تدفعهم الى التقرب منه تابعين له "تدجين" وعليه كان يعدم البعض بحضور الجهاز الحزبي، وبعض من اقارب أو معارف المعنيين، يشكل حضورهم واطلاعهم واحياناً مشاركتهم بالتنفيذ صدمة في الجهاز العصبي للضباط بشكل عام والحزبيين الذين كانت لهم ارتباطات نفسية مع المعدومين بحكم التعامل وإياهم لفترة من الزمن ليست قصيرة على وجه الخصوص، صدمةٌ تساعد على تقبل كل جديد يأتي من مصدرها "الحاكم ومساعديه" وإن كان الجديد من النوع غير المألوف بالنسبة إليهم. انها صدمة انفعال تعممت في نفوس العسكريين، البعثيين منهم وغير البعثيين، من خلال إشعارهم أن قادتهم او رفاقهم او معارفهم قد تم التعامل معهم، وتصفية البعض منهم بطريقة بشعة، جعلتهم يتجنبون، ومن ثم يبتعدون عن المساس أو التفكير بالتقرب من أي مثير يتعلق بالحاكم.
انه اسلوب يلجأ الى دعمه احياناً باشاعات ينشرها مفبركة عن حدث ما يتناقلها الجهاز الحزبي، دون أن يعي انها قد صيغت وبما يجعله طرفاً في الحدث، ويدعمها احيانا بأفلام فديوية مخرجة خصيصاً لاعترافات وهمية او مدبلجة، أو أخذت بالإكراه كما هـــو الحال بالنسبة لعبد الحسين المشهدي عضو القيادة القطرية، والوقائع الخاصة بتلاوة أسماء البعض من المتهمين، التي سجلت لتعرض على الجهاز الحزبي في المؤامرة المذكورة. وعرض وقائع اشتراك حزبيين بعثيين باعدام رفاقهم.
لقد جرى التركيز وطيلة فترة حكم صدام على القادة الجدد، وجرى صياغة السلوك في التعامل معهم على أساس الشك، والتوجس المستمرين لابعادهم عن التفكير بأي احتمالات للتجاوز على القيادة، ودفعهم لان يكونوا عيناً مضافة لها في متابعة، ومراقبة معيتهم، التي تمهد جميعها الى فرض سلطة الحزب المتمثلة بأمينها العام على العسكر، ليكون التحرك، أي تحرك مسيطر عليه حزبياً، وتكون الادارة ذات منحى حزبي، ويكون نهج تفكير الآمر المعني في التعامل مع معيته من مستوى الفصيل صعوداً الى الوحدة والتشكيل والى أعلى مستوى قيادي، بطريقة حزبية، يحسب فيها العائد حزبياً.

تجاوز العقائدية السياسية
ان صدام قد ذهب كثيراً إلى الأمام في التعامل الخاص مع هدف التدجين إلى المستوى الذي لا يعني التوقف عند عقائدية المؤسسة العسكرية كما يراها الحزب، بل وتسييرها ذاتياً، بطريقة يكون هو فيهـا الصورة المثلى للقائد العسكري الأعلى، والمستقبل المشرق للضابط المَرّضـــيٌ عنه في ترقية بلا ضوابط، وإثراء بلا حدود، وأمن مرتبط بديمومة الرضا والتأييد، وبفعل مثل هذا لم تفقد المؤسسة العسكرية بسببه مهنيتها فقط، بل وفقدت في المراحل الأخيرة من حكمه عقائديتها التي أرادها البعثيين الأوائل، من خلال التهويل والمغالاة، بعد ان أراد لكل شيء ان يكون كبيراً، وكل وصف ان يكون عظيماً، حتى الفعل المطلوب لضبط سلوك العسكريين وتدجينهم لابد وان يكون شديداً، والاجهزة المعنية بفرضه لابد ان تكبر وتتوسع حتى تضخمت جميعها لأكثر من خمسة عشر ضعفاً، وبات العقاب الذي يحدده لابسط المخالفات أو الهفوات اعداماً، واضحت المسافة صفراً بين البراءة والاعدام بقرار منه شخصياً أو بمحاكمة صورية، حتى نفذ حكم الاعدام باعداد ليست قليلة، وتبين فيما بعد براءتها من التهم الموجهة لها.
انه تضخيم يتوافق وموضوع تكوين الصدمة في السلوك المطلوب تدجينه. ومع هذا التضخيم اوجد الثمن المطلوب دفعه "لكل شيء ثمن" فلسفة أو رؤية مغالى فيها داخل عقله، طبقها بشكل دقيق في المؤسسة العسكرية مع بداية استلامه المركز الاول في الدولة، من زاوية تتجاوز دفع ثمن الوقوف معه، الى دفع ثمن الحيلولة دون حدوث فعل بالضد منه.
في الاول يكون الثمن اثابة مغالى فيها قروض بلا فوائد، وسيارات شخصية، وزيادات كبيرة في الرواتب، وفي الثاني عقاب مغالى فيه أقله الاعدام في الاماكن العامة... تناقض لم يفهمه البعثيون في البداية أو بعض البعثيين حتى وجه عضو فرع سؤالاً في اجتماع للكادر المتقدم للحزب  ترأسه صدام في قاعة الخلد ببغداد بعد أشهر من نجاحه في إزاحة البكر، طلب السائل توضيحاً عن تلك العطاءات، والمكارم التي تهافتت على العسكر، وفيما إذا تكَّون في النهاية طبقة جديدة في المجتمع العراقي يمكن أن تخل بتوازنه، أجابه صدام بإيجاز: "إن حساباتنا مع العسكر دقيقة، وكل شيء بثمنه". من هذا يمكن القول أن مرحلة حكم صدام حسين كانت المرحلة الأكثر سعة في مجال التبعييث حد التدجين، والأشد تأثيراً في دائرتهما الواسعة، حتى يمكن عدها مرحلة إعادة ترتيب " تهديم" جديدة بكل المعايير العلمية والعملية.

للراغبين الأطلاع على الفصل السابق:

http://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/29324-2017-04-02-17-53-41.html

   


  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

398 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع