الباب الأول: الفصل السادس
الخروقات الدارجة لقوانين الخدمة العسكرية
مصادر الخدمة العسكرية
ان العمود الفقري للبنية العسكرية العراقية في تاريخها الممتد، منذ بداية تشكيل جيشها حتى أمر حله، هو الانسان، الذي يفد اليها على وفق القانون المشَرّع من الدولة، مشاركاً في أنشطتها من ثلاث مصادر او تصنيفات معروفة هي:
1. المطوعون.
الذين يدخلون الخدمة، بناءً على رغبتهم وبعقود تتم بينهم من جهة، والمؤسسسة العسكرية صاحبة الشأن من جهة أخرى، تحدد الفقرات والمواد الموجودة في العقد ما للمتطوع وما عليه، أي ما يحصله من المؤسسة العسكرية من راتب ودعم صحي واجازات، وأحيانا مكاسب تتعلق بالسكن والعيش. وما عليه اتجاهها، من التزامات ذات صلة بنوع الخدمة "مشاة، دروع، قوات خاصة، بحرية، جوية .....الخ"، وطبيعتها ومكانها وظروف ادائها. ومن ثم التقيد بالقوانين والقيم العسكرية السائدة "الالتزام بمتطلبات الضبط العسكري".
مسألتان يمكن وضعهما تحت بند الحقوق والوجبات. يضاف اليهما الفترة الزمنية للعقد التي تبدأ من وتنهي الى. وهي صيغة تعمل على وفقها غالبية الجيوش، والمؤسسات العسكرية العصرية، خاصة الغربية منها التي التزمت بفلسفة النوع على حساب الكم، بعد ان أثبتت التجارب العملية، نجاحها في تحقيق الإعداد المناسب للفرد في تعامله مع السلاح والالة. اذ ان العسكري المتطوع يفترض ان يكون قد جاء راغباً في العمل، راضياً بظروفه الصعبة، متقبلاً تبعاته التي يكون بعضها غير طبيعياً أو خطراً في بعض الاحيان. علما ان تقبل الحال والرغبة في موضوع ما والرضا عن الواقع، من بين المتغيرات النفسية المؤثرة ايجاباً في سرعة ودقة التعلم، وفي تحقيق التكيف المناسب للجماعة "المفرزة / الوحدة الفرعية" على الحياة العسكرية، وكذلك في تعزيز الالتزام "الضبط"، التي تعتبر مطلوبة لما يتعلق بالتهيئة النفسية لتقبل الحياة الصعبة، وظروف القتال الضاغطة، من جهة والابتعاد عن ارتكاب فعل المخالفة للقوانين والضوابط من جهة اخرى. وكذلك تحقيق الاداء الاحسن للفرد والجماعة. فالمتطوع في الظروف الاعتيادية شخص، يفترض وقبل الاقدام على خطوة التطوع، انه قد أحس في نفسه أي بقوة دفع خصائصه النفسية، قدر من الملائمة لظروف البيئة العسكرية، واستعداد مسبق لتحمل ضغوطها المتعددة في ظروف الحرب أو التدريب للاستعداد الى حصولها، التي يفترض ان يؤدى فيها الفعل العسكري المطلوب "الاداء" بأعلى مستوى وبأقل خسارة.
لكن التطوع مسألة لا يقتصر حصولها على ممارسة الهواية، وتأمين الرغبة في تحقيق الذات التي عادة ما تكون دافعة لتطوع البعض، وبما يسهم في تقوية التحمل واعطاء الدافعية، جرعات لازمة لتحسن مستوى الاداء، اذ انه وبالاضافة الى الرغبة والهواية هناك توجهات للتطوع قوامها:
آ. التطوع لاغراض العيش مادياً. وفي اطاره نجد ان بعض الشخصيات من الشباب تسعى الى التطوع بدوافع الكسب المالي الأحسن في بلاد وظروف تقل فيها فرص العمل المناسبة لهم احياناً، كما جرى بالنسبة الى الكثير من الشباب العراقي منذ تأسيس جيشهم عام ١٩٢١ وكذلك بعد التغيير عام ٢٠٠٣ عندما اقتصرت الخدمة على المتطوعين حصراً، إذ تقدم الى التطوع فيها، كجندي أو شرطي على سبيل المثال خريج كلية الهندسة، وبجنبه آخر تقدم بنفس الفترة ولنفس الجهة يحمل شهادة الدراسة الابتدائية. لكن هذا ظرف طارئ لا يدخل في حسابات القياس الاعتيادي، ولا يتعلق بالزمن الحالي فقط، اذ ان القوات المسلحة في الزمن السابق، كانت بيئة تستقطب آلاف المتطوعين الذين لا يجدون فرص عمل لهم في البيئات الحكومية الأخرى وفي القطاع الخاص.
ب. التطوع لاقتناص الفرص. في حالته توفر الدولة فرص غير اعتيادية لشرائح من الشباب، يحاول بعضهم اقتناصها سعياً منه لتحقيق فائدة لا يمكن تحقيقها بوسائل اعتيادية أخرى، أو حل مشكلة لا يمكن حلها بالطرق الاعتيادية. ففي أيام الحرب العراقية الايرانية 1980- 1988 مثلاً، درجت الحكومة الى توزيع سيارات وقطع أراض وتقديم بعض الخدمات، والتسهيلات للضباط وضباط الصف والجنود المتطوعين بدوافع الاغراء المادي، نتيجة الى النقص الحاصل لهم في القوات المسلحة التي دخلت الحرب، وتراكم الخسائر الكبيرة في الارواح، التي حالت كثرتها دون امكانية التعويض بالطرق الاعتيادية، وهذه اغراءات حققت النتائج التي ارادتها الحكومة آنذاك، حيث التدافع قد أصبح واسعا الى التطوع في صفوف القوات المسلحة، حتى فتحت في بغداد اكثر من كلية عسكرية لاستيعاب المتطوعين كضباط، وغصت مراكز التدريب على طول المحافظات وعرضها، بالمتدربين المتطوعين كجنود وضباط صف، وهذا نوع من الاغراء او الترغيب الذي يأتي غالباً في الازمات وفي ظروف القتال الفعلي، وهو لا يقتصر على العراق ودول المنطقة، بل وقدم الجيش الامريكي أيضاً مغريات تتعلق بمنح الجنسية الامريكية للمتطوعين الى خدمته القتالية بالنسبة الى الشباب المقيمين أو الذين يواجهون مصاعب في الحصول على الاقامة الدائمة، ابان حربه في افغانستان بعد 2001 والعراق بعد عام 2003، وكذلك يفعل الفرنسيون لما يتعلق بقوات المرتزقة "القوات الخاصة المكلفة ببعض المهام القتالية خارج فرنسا" اذ تمنحهم بعد اداء الخدمة العسكرية الخاصة، الجنسية الفرنسية حتى لغير المقيمين على اراضيها.
ج. التطويع الانتقائي. في حالته تقوم السلطة العسكرية مدعومة من الدولة، باختيار اشخاص تعتقد ان وجودهم في المؤسسة العسكرية سيكون نافعاً، لخصائص تميزهم عن غيرهم أو لاختصاصات يمتلكونها نافعة للعمل العسكري أو الامني. فعندما احتاج الجيش العراقي على سبيل المثال، اختصاص في اللغات الفارسية والعبرية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، جرى الاتصال بخريجين من الجامعة قسم اللغات او طلاب متميزين مستمرين بالدراسة الجامعية، وجرى ترغيبهم بالتطوع، وحصل نفس الشيء عندما احتاج الجيش اختصاصات نفسية، لاغراض تشكيل شعبة العمليات النفسية، واخرى علمية فيزياوية وهندسية وكيمياوية للتصنيع العسكري، قام بنفس الخطوات لتأمينها، وعادة ما تتوفر فرص للانتقاء في مثل هذا الحال، واختيار الافضل علمياً. انه تطوع او تطويع موجود في كل الجيوش العالمية، ففي الحرب العالمية الثانية مثلاً، طَوَّعَ الجيش البريطاني اشخاص من جنسيات غير بريطانية لاغراض استخباراتية أو لكسر الشفرات الالمانية، وَمنحَ السوفييت رتب ضباط لشيوعيين من دول اوربية استفادوا من لغاتهم الاصلية لاغراض الجيش السوفيتي في الحرب الثانية، وبنفس الاتجاه يذكر الطيار الزراعي اسماعيل، انه كان قد ابتعث لدراسة الطيران في امريكا من وزارة الزراعة العراقية منتصف السبعينات، وبعد اكمال المدة وقبل يوم من مغادرته المدرسة الخاصة بالدراسة والتدريب، بقصد العودة الى العراق، طرق باب شقته ليلاً امريكيان استأذنا بالدخول، وبعد ان جلسا، فاتحاه بعرض للعمل كطيار في البحرية الامريكية، يمنح فيه رتبة ملازم طيار، لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد، ومن بعد انتهائها اذا ما رغب بعدم تجديد العقد، يمكنه الاستمرار بالدراسة في احد الجامعات الامريكية، وفي الاختصاص الذي يريده على حساب البحرية، مع توضيح اضافي من ان الخدمة ستؤهله للحصول على الجنسية الامريكية، وعندما تفاجأ من هذا العرض، واستفسر عن كيفية الاتصال به، وهل اقتصر الاتصال عليه ام على زملاء آخرين من العراق، كانت الاجابة ان الاتصال في هذه الدورة اقتصر عليه وحده، من خلال الاطلاع على تقارير المدرب، ونتائج الاختبارات التي اكدت انه طيار متميز، وعليه بادروا الى تقديم هذا العرض، ولطمأنته أكدوا ان لطيران البحرية علاقة بجميع المدارس الخاصة بتعليم الطيران، وبعديد من المدربين الذين يستندون على آرائهم وتقاريرهم في انتقاء المتميزين ودعوتهم الى التطوع في صفوف الطيران البحري.
ان هذه استثناءات وان تتجاوز مسائل الرغبة المهنية في بعض الاحيان، فانها لاتخل بمبدأ الخصائص النفسية، اذ وفي اطارها يقتضي التنويه ان دوافع الحصول على المال او الجنسية مثلاً، وان كانت في المقدمة لكنها لا تلغي اثر الخصائص النفسية الاخرى، مثل الرغبة والاعتداد بالنفس وتحقيق الذات، والشجاعة في التوجه الى التطوع.
2. المكلفون.
الذين يدخلون الخدمة الزاماً، ضمن قوانين تسنها الدولة بالتأسيس على عدة متغيرات بينها بلوغ العمر، الذي يكون على الاغلب سن الثامنة عشرة، كسن لبلوغ النضج، يؤهلهم الالتحاق بهذا النوع من الخدمة الزامياً، اذا ما توافق مع متغيرات اخرى مثل الدراسة. فالاستمرار بها اي الدراسة ضمن هذا العمر ولمراحل محددة، تحول دون الالتحاق بها في القانون العراقي الخاص بالتجنيد لما قبل عام 2003. هذا وتضع بعض الجيوش متغيرات اخرى مثل الاعالة، أي ان المستحق لعملية الالتحاق وفقاً لقوانين التجنيد، اذا ما كان مسئولاً وحيداً عن اعالة عائلة فيها الاب او الام غير قادرين على تامين العيش لها، يعفى من التجنيد، أو يؤجل لحين توفر الظروف المناسبة لاعالة العائلة، وكذلك الوحدنة أو ما يسمى بالولد الوحيد، فاذا لم يكن للعائلة ولداً غيره، يعفى ايضاً، وهذا ما كان مثبتاً في قوانين الدولة العراقية الخاصة بالتجنيد منذ نشأتها وتكوين الجيش العراقي عام 1921، وكذلك عند الجيش المصري، وغالبية جيوش المنطقة، لكنه نظام توقف العمل به في الجيش العراقي ابان الحرب العراقية الايرانية، يوم ادركت الحكومة آنذاك حاجتها الى آلاف الشباب للتجنيد ضمن الصنوف المقاتلة والخدمية، لتعويض الخسائر الكبيرة بالارواح.
ان صفة الالزام لهذا النوع من الخدمة، تضاف له بعض الاوصاف لاغراض تامين قدر من الترغيب، فيوصف عند بعض الجيوش، بينها العراقي قبل عام 1968 بخدمة العلم، سعياً من المعنين بربط الخدمة المكلفية أو الالزامية بالجانب الوطني، وهذا وصف صحيح لانه يعطي قوة دفع معنوية تفيد في جوانب الالتزام من جهة وتقليل نسب الرفض لحصولها من جهة أخرى. هذا وتماشياً مع التعزيز الايجابي للوطنية، تقوم السلطات المحلية في بعض الدول باضافة وقع طقوسي احتفالي على حالة التجنيد لتامين نفس الغاية. فكان الجيش العراقي مثلاً ولنهاية ستينات القرن الماضي من بين الجيوش التي تسوق المكلفين باجواء احتفالية خاصة، تتأسس على توقيتات محددة للالتحاق لكل مواليد يبلغ اصحابها سن الثامنة عشرة، ولم يكونوا مستمرين بالدراسة الثانوية فما فوق. تجمعهم في اماكن محددة من المدينة ليبدأو السير بطريقة منظمة، تسبقهم موسيقى عسكرية، مصحوبين من الاهل، وخاصة النساء للابتهاج والزغردة. حتى تميزت تلك الفترة الزمنية وما بعدها بقليل، باعتزاز المجند بجنديته، وانتظار الأب حصولها لاعتقاده ان الالتحاق الى الخدمة، سينقل ولده من حياة الطفولة الطائشة الى حياة الرجولة الممتلئة بالخبرة والالتزام والضبط، حتى يقال شعبياً آنذاك ان العسكرية "تسوي رجال".
3.الاحتياط.
مصدر آخر للخدمة العسكرية يأتي من استدعاء مؤقت لمواليد خَدمَ اصحابها الخدمة العسكرية أو انهوا خدمتهم التطوعية عن طريق اصدار قانون يقضي بالحاقها "المواليد" جميعاً أو جزءً منها بضوء الصنوف او مجاميع خاصة منتقاة، وهذا النوع من الخدمة يقترن في المعتاد بظروف التوتر والحروب، حيث تقتضي الضرورة دعم القوات المسلحة في حالات الطوارئ أو عند خوضها الحرب أو عند التهيؤ لخوضها بمنتسبين، لم تتمكن وسائل التطوع والتجنيد الالزامي من تلبية الحاجة اليها. وهي خدمة موجودة لدى غالبية الجيوش.
الخروقات الدارجة
ان استعراض ما له صلة بتلك الانواع الثلاثة من الخدمة العسكرية العراقية يبين، ان جميعها كانت موجودة منذ بداية التأسيس والى آخر يوم في عمر الجيش والقوات المسلحة عام 2003. الا ان وحداتهما ودوائرهما التي نشأت واستمرت بالتأسيس عليها، قد دفعتها السلطات العليا للدولة، أو بالمعنى الدقيق القيادة الحاكمة آنذاك، للاخلال بالتزاماتها التعاقدية مع المتطوعين، وتجاوزت كثيراً سني الخدمة المطلوبة للمكلفين والاحتياط، خاصة بين الاعوام 1968 – 2003، فكونت وضعاً أو ارضية مناسبة للاخلال بمعنى العسكرية، وخرقت قيمها الاعتبارية وخالفت قوانينها، اذ لو عدنا الى هذه الانواع من الخدمة، واخذنا التطوعية منها على سبيل الايضاح، وصنفناها على أساس الخرق والمخالفة زمنياً، سنجد انها قد مرت بثلاثة مراحل كانت التطورات السياسية والعسكرية فيها واضحة هي:
1. المرحلة الاولى 1921 – 1958.
ان الجيش بداية تشكيله وطوال السنين المذكورة أي خلال فترة الحكم الملكي، كان قادته ملتزمين بتطبيق القوانين الخاصة بالتطوع، وبمواد التعاقد بين المؤسسة العسكرية من جهة، والشخص العسكري المتعاقد معه " المتطوع من جهة ثانية" وباليوم الذي تنتهي الفترة الزمنية التي كانت بالمتوسط خمس سنوات بالنسبة الى الجنود وضباط الصف، تبدأ اجراءات الانهاء اصولياً، إذا لم تتوفر رغبة من احد الطرفين بالاستمرار، يوافق عليها الطرف الثاني، اذ وفي الوقت الذي تكون فيه حاجة للاستمرار مثلاً، تعرض الجهة العسكرية على المتطوع الذي انتهت فترة تطوعه الزمنية، رغبتها بتجديد عقده مرة اخرى، واذا ما وافق يُعد عقداً جديداً لمدة زمنية جديدة. وهكذا نجد ان البعض من المتطوعين قد استمر لاكثر من عشرين سنة، دخل بدايتها جندياً متطوعاً وانهاها ضابط صف بدرجة محددة، خلالها جدد عقده مع المؤسسة العسكرية بحدود اربع مرات. وبالمقابل في حال رغبة المتطوع الاستمرار بالخدمة يقدم طلباً يرجو فيه ذلك، وهنا يدخل عامل الحاجة بتلبية طلبه من عدمه. غالبا ما تتم الموافقة، الا اذا ما امتلك سجلاً للمخالفة والتجاوز "سوء السلوك" أو ثبت انتماءه الى جهة سياسية.
2. المرحلة الثانية 1958 – 1968.
العهد الجمهوري الاول "1958- 1963" والثاني "8 شباط 1963- 18 تشرين الثاني 1963" والثالث "1963- 1968"، وخلال هذه المرحلة وان كان نظام التطوع فيه هو امتداد للمراحل التي سبقته، الا ان احداثاً جاءت مثل التوسع الحاصل في اعداد الوحدات، والنمو الكمي لبعض الصنوف، والحركات العسكرية لمقاتلة الاكراد، جميعها أسهمت في احداث تغير تدريجي، فتوسع التنظيم وشكلت فرقة عسكرية، لتكون خمسة تغطي الساحة العراقية، وبسببها اندفعت القيادة الى زيادة اعداد المقبولين في الكلية العسكرية وكلية الاحتياط، وفتحت باب التطوع الخاص للضباط فاعلنت نظام نواب الضباط التلاميذ الحربيين من بين الشباب الراسبين في الصف المنتهي للدراسة الثانوية "الخامس الثانوي آنذاك" ليمنحوا رتبة نائب ضابط تلميذ حربي، على ان تتم ترقيتهم الى رتبة الملازم بعد ثلاث سنين، وبمقابل هذه الاعداد من الضباط التي توافدت على الجيش بكثرة، اضحت الحاجة واضحة لمزيد من الجنود وضباط الصف المتطوعين والمكلفين، لكن هذه العهود التي حافظت جميعها بقدر معقول على التزامات التعاقد مع المتطوعين، وتسريح المكلفين في اوقات تسريحهم، فتحت باب الخروق والمخالفة، اذ ان التوافد الهائل لحملة هذه الرتب غير المؤهلين ضبطياً، والمرتبطين بجهات حزبية سياسياً، تسببت في نشوء بذرة تصدع في المهنية العسكرية وقيمها السائدة، كبرت بالتدريج، فاسهمت في انهاء المؤسسة العريقة، اذ ان الفترة التي اعقبت التغيير الى الجمهورية، انطلق الشعب العراقي بطبقاته العاملة والفلاحية باتجاه التمرد والتجاوز على صاحب الارض، والعقار وسلطة الدولة، ونزل المواطنون الى الشوارع يهتفون بموت المالك والتهديد بسحله، فتكون هياج جماهيري انتقل الى المؤسسة العسكرية عن طريق العدوى، فحدثت ولاول مرة حالات تمرد لجنود على ضباطهم بسلوك مخالف للقيم والضوابط العسكرية، وكذلك قيام مراتب بقتل آمريهم، وسحل ضباطهم مثلما حصل للعميد جلال اسماعيل الذي سحله جنوده في معسكر الشعيبة بالبصرة عام 1959، وتهديد آخرين بسحلهم بحبال يلوح بها اثناء التمرد والتظاهر.
انها حالة فوضى واضطراب أو هياج، لتصريف المشاعر العدائية، اسهم في عملية الهدم، تطورت اساليبها في ظروف الاستقرار، ليكون التصريف عن طريق التقارير الحزبية، وشاية او تلفيقا يكتبها المراتب واحياناً الضباط عن آمريهم، ادت بعضها الى سجنهم وحتى اعدامهم فاضافت معالم هدم اخرى.
من هذا يمكن الاشارة الى ان ادارة المؤسسة العسكرية مع فترة التغيير الى الجمهورية، قد حصل في اساليبها تحول من المهنية "العقلانية" الى العاطفة "الفوضوية" وبمستوى اخل بالبناء العسكري مهنياً وانضباطياً وحتى معنوياً، مما سهل حصول الهدم تجاوزاً ومخالفة على المستويين الفردي والجماعي. وهنا تجدر الاشارة الى أنه ومع هذه التطورات خلال المرحلة الزمنية المذكورة فقد استمر قانون التجنيد الاجباري متواتراً بمدد محددة الى نهايتها في عام 1968، اذ لم تلجأ الحكومة الى تكرار القيام باعمال التمديد لمواليد سحبت لاغراض الخدمة الالزامية، وان حصل فلا يتعدى التمديد لاشهر قليلة.
3. المرحلة الثالثة 1968- 2003.
أو العهد الجمهوري الخامس احمد حسن البكر، والسادس صدام حسين، الذي شهد زمنهما توسعاً افقياً غير معهوداً للمؤسسة العسكرية، اذ بدأت وتحت ضغط الحاجة ومخرجات الفلسفة الثورية لادارة الدولة والمجتمع والطموح القومي، توجهات التوسع في هيكلية القوات المسلحة، فشكلت عدة فرق عسكرية مرة واحدة بينها الفرقة السادسة في ديالى "منصورية الجبل" والسابعة في السليمانية، والثامنة في الرمادي، وهكذا استمر الحال تضخماً مستمراً ليدخل الجيش العراقي الحرب مع ايران عام 1980 باثنتا عشر فرقة، ويخرج منها أي الحرب بسبعة فيالق وفيلقين حرس جمهوري، وباجمالي يزيد عن الستين فرقة من المشاة والمشاة الالي والمدرع، وقوة بحرية وجوية تضخمت هي الاخرى، قواعداً وأسراباً شكلت تلبية لحاجة الحرب، واستجابة لطموحات الحاكم، وعلى وفقها تعززت توجهات الحكومة لمخالفة ضوابط وقوانين الخدمة العسكرية، بل وزادت بدرجة كبيرة في الجمهورية السادسة، الذي اعتقد رئيسها ان منصب القائد العام للقوات المسلحة، يمنحه الحق في كل ما يتعلق بسن القوانين العسكرية وخرقها بنفس الوقت، وبات يمدد الفترة الزمنية المثبتة اصلاً في التعاقد، حتى مددت فترات البعض عشرات السنين، وجدوا اصحابها انهم قد اصبحوا ضباط صف وقسم منهم وبدوافع حزبية حصلوا على رتبة ضباط، بقرارات هم ليسوا طرفاً في صياغتها.
وهنا تجدر الاشارة ان مخالفة القوانين من قبل الحكومة شملت بالاضافة الى المتطوعين، أولئك المكلفين ايضاً، حيث جرى التمديد لفترات خدمتهم كذلك عشرات السنين، مثل مواليد عام 1947 و1950 و1955و 1957 وغيرها، التي وجد اصحابها انهم دخلوا الخدمة الالزامية شباباً، انهوها بتمديدات لعدة مرات حولتهم الى خدمة الاحتياط التي مددت أيضا، ليخرجوا منها قريباً من سن التقاعد، ويخرج الموظفون منهم وقد تجاوزهم زملائهم أو الاصغر منهم عمرياً في الترقيات، فعاشوا جميعاً، هموم الخدمة العسكرية التي كرهوها حد المقت، وعمموا كرههم لها على باقي مؤسسات الدولة. فكانت اجراءت من قبل الحكومة وقيادتها العسكرية العليا في التعامل مع الحاجة، شوهت صورة العسكرية في عقول المنتسبين، وخدشت الحياء الوطني، وفتحت المجال الى علاقات غير توافقية بين الأعلى والادنى، اتسعت فيها المحسوبية والفساد.
ان المتطوع، ضابطاً كان أو ضابط صف أو جندي أصبح خلال هذه المرحلة التي تميزت بقسوة العقاب غير قادر على انهاء تعاقده مع السلطة، وان تجاوزت شروط العقد الموقع، ولا يجرؤ على ابداء الرأي او مناقشة الجهة العسكرية المقابلة له على القانون الذي يلزمه واياها على طلب الانهاء في وقته، ومثله أصبح ضابط الصف والجندي المكلف وكذلك الاحتياط، غير قادر على البوح بمواقفه الرافضة للتمديد شبه المستمر، فبدأت بسببها وأمور اخرى تتعلق بالادارة العسكرية غير الصحيحة، والعيش تحت ضغط الخطورة والاحساس بالحيف، تنمو وتتسع حالات وظواهر مخلة، مثل الغياب والتحايل على القانون وتزوير الوثائق وادعاء المرض، واكثر منها تناول بعض المهدءات وحبوب الهلوسة التي لم يكن يعرفها المنتسبون من قبل. بصددها أشارت دراسات أعدتها شعبة الاستخبارات النفسية بعد عام 1982 وجود توجهات من قبل بعض الجنود لتعاطي الخمور والمهدئات والحبوب المهلوسة في المواضع الدفاعية أثناء الحرب، وقد انتشرت في بعض الوحدات على الرغم من الرقابة الشديدة والعقوبات القاسية(24).
مما ورد أعلاه، يمكن القول ان الدولة وقيادتها السياسية والعسكرية ابان هذه المرحلة الزمنية، قد خالفت من جهتها القوانين والضوابط السارية في الجيش وعموم القوات المسلحة، وشوهت طبيعة الخدمة العسكرية، واسهمت بدفع الطرف الثاني أي الجندي المتطوع والمكلف لا شعورياً الى الاندفاع نحو المخالفة الهدامة للبنية العسكرية أو تبرير حصولها، بنفسٍ باتت تقبلها أكثر من الازمنة السابقة.
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
http://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/29068-2017-03-18-20-41-13.html
658 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع