وأد البطل نهاية جيش وملحمة وطن / الباب الأول: الفصل الرابع

      

                 الباب الأول: الفصل الرابع

  
  الانقلاب العسكري في عملية الهدم

الوضع العسكري ما قبل الانقلاب

    
تأسس الجيش العراقي ابان الحكم الملكي وكما ورد في أعلاه، وَحُددتْ طبيعة واجباته في الدفاع عن المصالح العراقية بضوابط لا تسمح للمنتسبين التدخل بشؤون السياسة، وبات تنظيمه على هذا الأساس أول فوج للمشاة "فوج موسى الكاظم" مقره بغداد، والفوج الثاني في الموصل، وكذلك الفوج الثالث الذي دُعمَ ببطرية جبلية ليشترك في أول عملية قتال بالضد من الاكراد في السليمانية عام 1924. بعدها توالت تشكيلاته تباعاً لتتوزع على مناطق العراق شمالاً ووسطاً وجنوباً، ألوية أخرى ثم فرق، ليستقر مع أواخر الحكم الملكي أربعة فرق هي الفرقة الأولى "مشاة" وتتواجد في الجنوب الممتد من الحلة - قضاء المسيب، وحتى البصرة جنوباً.
الفرقة الثانية في ديالى تغطي المنطقة من منصورية الجبل حتى كركوك، السليمانية وأربيل شمالا.
الفرقة الثالثة "مدرعة" تتواجد في بغداد، ومسؤوليتها بالإضافة إلى منطقة بغداد امتداداً الى الغرب باتجاه الرمادي.
والفرقة الرابعة في الموصل حتى الحدود التركية والسورية.
فرقٌ مدعومة جميعها بمدفعية مجحفلة في أغلبها، وقوة جوية تشكلت عام 1931 توزعت أسرابها لاحقا، توزيعاً متوازناً لتغطي ساحة عملياتها كل أنحاء العراق، وتلائم التوزيع الحاصل للقوات البرية، وقوة نهرية بغاطس بسيط يصلح للعمل في شط العرب، ومنطقة الأهوار التي تثير القلق للحكومة المركزية.
هكذا كانت توزيعات الجيش العراقي وتنظيماته، التي تأسست على تلك الرؤيا المتناغمة مع تصورات الحكومة لحاجتها الآنية الى التعامل مع التهديدات الداخلية، وإلى حد ما النظرة البعيدة لأعداء العراق المحتملين، والقدرة المتيسرة للتعامل مع واقعهما، واستمرت كذلك منسجمة مع هذا التصور، وعدد سكان العراق، وقدرة خزينة الدولة لتَحَمُل أعباء الدفاع وتطوير القوات المسلحة، مرحلة ما قبل الاستثمار الواسع للنفط، فكان تنظيماً واقعياً بسيطاً، وتوزيعاً شاملاً انعكس على طبيعة أهدافه المحدودة، وعلى شكل تعامله مع متغيرات السياسة، التي لم يكن بعيداً عنها رغم محاولة الحكومة إبعاده عن التقرب إليها جهد الإمكان، إذ أن الحكومات الملكية نجحت وبنسب ليست قليلة في إبعاد ضباطه وجنوده عن الانتماء إلى الأحزاب، وتطبيقها المادة 131 من قانون العقوبات العسكري التي تُحَرِم العمل السياسي في الجيش بشكل دقيق، وتأكيد قادتها في لقاءاتهم ومحاضراتهم مع الضباط هذا التحريم،

                    

حتى يذكر الضباط الاوائل أن رئيس اركان الجيش الفريق رفيق عارف زار كلية الاركان منتصف الخمسينات بمناسة تخرج احدى دوراتها، وفي كلمته أمام المتخرجين، قال بالمعنى العام: أياكم والسياسة، فالتقرب اليها تحريم مطلق.
حراجة التعامل العسكري مع الاضطرابات الاجتماعية
ان الدولة العراقية الملكية، نجحت في تكوين جيش مهني بحدود مقبولة في ذاك الزمان، يحضى باحترام الاقليم، وباقي دول العالم، ذكر عن بعض مآثره ضابط من الضباط الاوائل، حضر مع غيره تمرين سارية الجبل الذي اقامه الجيش العراقي عام 1957، ممثلين عن جيوش اجنبية، هو قائد حلف شمال الاطلسي، الذي وبعد ان شاهد جميع فقرات التمرين، اشاد بالجيش العراقي، في كلمة القاها بحفل الختام، قائلا (أنه أفضل جيوش آسيا) (9). ومع ذاك النجاح، فان جميع حكومات الدولة الملكية، ومن بعدها الجمهورية، لم تستطع تجنيبه التعامل مع الاضطرابات الشعبية، خلافًا لمهامه في الدفاع عن حدود الدولة، اذ ان جميعها أضطرت الى أصدار الاوامر الى الجيش للتعامل مع عشائر عربية أو تنظيمات كردية أو تظاهرات شعبية، ترى الحكومة من وجهة نظرها أن التهديد الحاصل من أعمالها يفوق قدرة الشرطة على التعامل معها فتضطر الى اقحام الجيش، وباقي أفرع القوات المسلحة لتحصل على قوة القمع أو الردع المطلوبة. عندها يصح القول أن مثل هذا الاقحام الاضطراري، يمثل معضلة للحكومة، وعدم اقحامه يمثل معضلة لها أيضا. حقيقة تُمثلها بشكل دقيق رواية عن الملك فيصل الاول، رواها السفير سليم الامام عن السيد محمد سيد حمود الحصونة، من أن الملك قد زار مرابع السيد وعشيرته في الناصرية، منتصف عشرينات القرن الماضي، قبل الشروع بطلبه استخدام الجيش لمهاجمة العشائر المتمردة في الجنوب، والتي اثارت للدولة مشاكل اضطراب امنية. وفي مضيف السادة الحصونة سأل الملك عن الرأي في ضرب التمرد العشائري، فكان أحد كبار السن، ممن يطلق عليهم شعبياً تسمية "العارفة" جالساً في المضيف، وبدل من أن يجيب بشكل مباشر، استأذن الملك في ان يروي حكاية واقعية لأحد أبناء عشيرته، فَلّاح زوّجَ اثنان من بناته خارج المنطقة، وبعد ان مرت فترة طويلة، من فراقهن، طلبت زوجته، ان يقوم بزيارتهن في بيوتهن للاطمئنان على أحوالهن، وفعلا قصد الأولى التي يعمل زوجها فلاحاً، وسألها عن أحوالها فأجابت، الحمد لله لقد قام زوجها بزراعة أرضه جميعها، وضَمّنَ أرض أخرى من غيره، وينتظر أمر لله بانزال المطر. فدعى لها من الله أن يهطل المطر مدراراً، لتنعش زرعهم وتحسن حالهم. ومشى صوب الأخرى التي يعمل زوجها كوازاً "صانع فخار" وحال وصوله بيتها. سألها عن احوالها.
أجابت حمدا لله، لقد أكمل زوجها، مئات الجِرار والاواني الفخارية، ووضع كل ماله فيها بانتظار فخرها، تدعوا من الله أن لا يمطرها فيذهب تعبه وماله سداً. فدعى أمامها من الله ان لا يمطرها، حفاظاً على جرار زوج ابنته من البلل والخراب.
بعد اتمامه الزيارة، عاد الى زوجته التي تنتظر بفارغ الصبر. سألته فور الوصول عن أخبار البنات. فقال لها سوف ينهجم بيت أحداهن، ان مطرت أو لم تمطر ....حقيقة اراد العارفة الحصيف أن يجيب من خلالها على سؤال الملك بلغة "الحسچة"، كعادة أهل الجنوب، وكأنه يريد القول:
ان مهاجمته للعشائر الجنوبية المتمردة كارثة.
وتركها بدون ضبط لا يأتي الا عن طريق الهجوم كارثة أيضا.
مثال حكيم، ينطبق تماماً على مسالة الاستخدام الخاص بالقوات المسلحة في التعامل مع الاضطرابات الاجتماعية التي تحصل حتماً وفي كل الازمنة والاوقات.
استخدامٌ أشعر البعض من القائمين على الاستخدام بالقوة، واشعر الاخرين في الجهة المقابلة بالاضطهاد... حالةٌ، تقترب من ان تكون غير طبيعية، انعشت في ذاكرة الضباط المغامرين الساعين الى السلطة فكرة الانقلاب على السلطة لبلوغ سدة حكمها باستخدام القوة.

انقلابات نجحت في اتمام عملية الهدم

ان فعل الانقلاب واقع حال لا يقتصر حصوله على العراق، بل وقد لجأت غالبية الدول الموجودة ضمن جغرافية المنطقة التي لم تنضج سياسياً باستخدام قواتها المسلحة لتغيير سلطة الدولة، في مرحلة من مراحل وجودها. وهي في العراق محاولات تعددت، بعضها نجح وغيّرَ شكل الحكم، واسلوب ادارة الدولة، وأسهم في تغييره هذا باتمام عملية الهدم التي طالت الجيش والقوات المسلحة، وبعضها لم ينجح، وعلى الرغم من عدم نجاحه هذا، فانه اسهم من جانبه في عملية الهدم، سواء بالتجاوز على سلطة الدولة، أو بتجاوز الدولة على ضوابط وقيم الجيش التابع لها.
ان شكل الادارة وطبيعة المجتمع وخصائص الشخصية واسلوب قيادة العسكر وطريقة التعامل معهم، ومن ثم دفعهم للخوض بمشاكل الأمن الداخلي، كونت مساحة واسعة لتحرك الجيش سياسياً، بنهايات صعب التحكم بها، فانتجت احداث "انقلابات" غير الثاني منها..

    

أي "١٤ تموز ١٩٥٨" الواقعين السياسي من الحكم الملكي الدستوري "نسبياً" الى الحكم الجمهوري الفوضوي "غالباً"، والعسكري من المهنية الاحترافية "نسبياً" الى الرتابة النفعية "غالباً"، وجميعها انقلابات تسببت من حيث لا يريد أصحابها في احداث الهدم البنيوي للقوات المسلحة، حيث:
1. الاستقواء بالسلاح للتدخل بشؤون الدولة.
2. أستخدام نفوذ القادة المسلح للضغط على أطراف سياسية في الدولة.
3. التلويح بالقوة لردع المجتمع دون التأثير على سياسة الدولة.
هذا ولاغراض التحليل الخاص بدور كل انقلاب في عملية الهدم "الانحراف، والتجاوز، والانحلال الضبطي، والمخالفة" سيتم التطرق ببعض من التفصيل الى تلك التي نحجت في الاستيلاء على السلطة، وهي انقلابات بعضها أخذ تسميات القائمين عليها، وبعضها الآخر أخذ تسميات من تواريخ تنفيذها، ونضعها هنا حسب التسلسل الزمني لحدوثها، وكما يأتي:

                                    
1. بكر صدقي
الفريق الركن بكر صدقي، مواليد مدينة كركوك، قرية عسكر  1886 لأبوين كرديين، تخرج من الكلية العسكرية العثمانية في اسطنبول، وعمل ضابطاً في جيشها، مشاركاً في الحرب العالمية الاولى، وقد اكتسب من خلال خدمته في تلك الحرب، سمعة عسكرية جيدة، عاد الى العراق بعد اندحار الامبراطورية، وانضم الى الجيش العراقي برتبة ملازم أول. عرف عنه الانضباط الصارم، وشدة التعامل مع المعية، قاد حملات عسكرية قاسية ضد الاشوريين في سميل عام 1933، وضد عشائر الفرات الاوسط عام 1935 والبرزانيين في كردستان بنفس العام. تؤشر جميعها سلوكاً عسكرياً منضبطاً، وطموحات عالية في الصعود الى المراتب القيادية العسكرية العليا.
تقلد عدة مناصب قيادية في الجيش المؤَسَس حديثاً، ليصل قبل الشروع بتنفيذ انقلابه الى قائد الفرقة الثانية.
تميز أبان خدمته أن له ميول بالضد من البريطانيين، وعلاقات جيدة مع رموز الدولة، وبالذات الملك غازي المعروف بعدم اقتناعه بالوجود البريطاني.
استغل مغادرة رئيس اركان الجيش الفريق الركن طه الهاشمي "شقيق رئيس الوزراء ياسين الهاشمي" في شهر تموز عام 1936 الى خارج العراق، وايكال مهامه الى صديقه الفريق الركن عبد اللطيف نوري، ليتفق واياه على تحريك الفرقة الثانية من قرة تبة الى قرغان ضمن الفترة الزمنية لتمارين التدريب الاجمالي السنوية للجيش، بهدف تسهيل تسلل وحداتها الى مدينة بعقوبة قريباً من بغداد، وتم له هذا، ليلة 28/ 29 من العام المذكور فقامت فور دخولها بقطع خطوط الاتصال مع العاصمة، واحتلال البريد والاماكن المهمة، خطوة أعقبتها باخرى قوامها الزحف باتجاهها أي بغداد بقيادة الفريق بكر شخصياً، صاحبها تحليق لطائرات من القوة الجوية في سمائها، القت منشورات كتبت بصيغة البيان الاول للانقلاب. وفي الوقت الذي تحركت فيه وحدات الفرقة صوب العاصمة، توجه وزير الداخلية حكمت سليمان الى القصر الملكي، لايصال مذكرة موقعة من الفريقان المذكوران الى الملك غازي، تطالبه باقالة حكومة الهاشمي. معطية اياه مهلة محددة للتنفيذ تقتصر على ثلاث ساعات فقط.
في الطرف الحكومي المقابل للانقلاب توجه وزير الدفاع الفريق جعفر العسكري الى التدخل شخصياً في مسعى لايقاف الزحف الى بغداد، فاتصل بالفريق بكر لهذا الغرض مؤكدا أنه يحمل رسالة خاصة من الملك غازي، وهي الفرصة التي قدرها الأخير سانحة للتخلص من جعفر العسكري "صهر نوري السعيد" والعنصر القوي في الحكومة، فدبر على اثرها كميناً "مكيدة" بالاتفاق مع ضباط من الفرقة قاموا بتجريدهِ ومرافقيه من السلاح في منطقة اللقاء المتفق عليها، ومن ثم اطلاق النار عليه بكثافة، فارق بسببها الحياة في الحال، عندها لجأ نوري السعيد وبعض اعضاء الحكومة الى السفارة البريطانية، واستمر الانقلابيون بزحفهم الى بغداد، حتى وصلوها بالساعة الرابعة عصراً، مما اضطر الملك الى الرضوخ عند رغباتهم، وتكليف حكمت سليمان بتشكيل الوزارة في مساء اليوم نفسه.
لقد نجح الانقلابيون بتأمين الضغط الكافي على الملك الذي رضخ وكلف احد المساهمين "حكمت سليمان" بتشكيل حكومة، وعلى اساسها يمكن القول انهم قد اتموا مهمتهم في اجراء التغيير المطلوب حصوله من حيث الوزارة وقيادة الجيش التي حصل بكر صدقي على منصب رئيس اركانها. لكنهم لم ينجحوا في المحافظة على البقاء في السلطة، اذ أن قائد الانقلاب الفريق بكر، قد انتهت حياته على يد نائب العريف عبد الله العفري بعملية اغتيال تمت، وهو جالس في دار الضيافة بالموصل في شهر آب 1937، بانتظار الذهاب الى تركيا لحضور مناورات عسكرية، وقتل معه بنفس الوقت قائد القوة الجوية العقيد الطيار محمد علي جواد الذي قاد الطائرات التي رمت المنشورات في اثناء الانقلاب(10).
كان انقلاب بكر صدقي مفاجئا للدولة التي تتجه الى ان تكون ليبرالية دستورية، وللقوات المسلحة التي تسير باتجاه الاحتراف المهني، وكان الأول في سلسلة الانقلابات العسكرية التي توالت من بعده، وهو اكثرها اثارة للاختلاف بصدد الدوافع وراء القيام به، اذ جاءت بصدده عدة روايات لم تثبت وقائعها منهجيا، من بينها ان للملك غازي دوراً غير مباشر في حصوله، وقد أسس اصحاب هذا الرأي روايتهم على البغض الذي يحمله الملك في داخله للبريطانيين، وعلى طبيعة العلاقة الجيدة بينه وبين الفريق بكر صدقي التي ترقى الى مستوى يستطيع فيه دفع الفريق لعمل من هذا النوع، ولا يمكن ان يفكر فيه الفريق باحراج الملك بانقلاب ضد حكومة ترجع اليه مسؤولية بقائها واستمرارها. وبينها أن عوامل سياسية اجتماعية دفعت الى الانقلاب، وبصددها يبني رواة هذا الرأي تصورهم الى العلاقة غير الحسنة لنوري السعيد وياسين الهاشمي "الطرف الحكومي المؤيد للبريطانيين" مع بكر صدقي وحكمت سليمان، "الطرف المخطط والمنفذ المعادي للبريطانيين". وبينها أيضاً ان الطموحات القيادية التي يتصف بها بكر صدقي شخصياً هي الدافع الذي جعله يقود الانقلاب، بالتنسيق مع حكمت سليمان الذي يمتلك نفس مستويات الطموح. بينما ركز رواة آخرون على الجانب الوطني، حيث الاعتقاد بان بكر صدقي وطني، لم يقبل انحراف الحكومة، وانحيازها للبريطانيين على حساب مصلحة العراق.
ومع هذا واي كانت الروايات وتناقضاتها، فان التحليل المنطقي لدوافعها في الزمن الذي حدثت فيه، لا يمكن ان يستثني العامل الدولي، وصراعات النفوذ بين الكبار في المنطقة التي يقع ضمنها العراق، ولا يمكن ان يستثني ايضاً، العامل النفسي المرتبط بشخصية بكر صدقي، القوية الطموحة، التي يصعب تطبيعها خارج الثكنات العسكرية. ثم ان اي تناول لعملية التسييس الخاصة بالقوات المسلحة كعملية هدم وانحراف عن المهنية، لا يمكن ان يستثني انقلابه في هذا الشأن، لانه في الواقع أول من فتح شهية الضباط القادة لان يلعبوا ادواراً سياسية خارج سياقات العسكرية، يحاولون ان يكونون فيها قادة للعسكر والسياسة في آن معاً.

                                                
2. رشيد عالي الگيلاني
توفي الملك غازي في 4 نيسان 1939 بحادث سيارة مثير للشك، في زمن ومجتمع سياسي وعشائري يحركهما الشك بسهولة، فنشأت على اثره أزمة حكم طرفها الوصي عبد الاله ونوري السعيد "دعاة التنفيذ اللازم للاتفاقات مع البريطانيين" في جانب، ورشيد عالي الگيلاني ومعه الضباط القادة المؤثرين "العقداء الاربعة" صلاح الدين الصباغ، وفهمي سعيد، وكامل شبيب، ومحمود سليمان، بتأييد من رئيس أركان الجيش الفريق الركن حسين فوزي، الذين وصفوا باصحاب المواقف المناوءة للتواجد البريطاني وللمعاهدة التي تربط البلدين، في الجانب الآخر. فتكونت أزمة، نتج عنها خلاف شديد حول مسائل تقديم بعض التسهيلات العسكرية للبريطانين في الحرب العالمية الثانية التي بدأت بينهم وبين الالمان، وعلى اثرها تطور الموقف باتجاه الاضطراب، زادته توجهات الطرف الثاني للانحياز الى الالمان بالضد من البريطانيين اضطراباً، مما حدى بالوصي عبد الاله الى تكليف الفريق الركن طه الهاشمي برئاسة الوزارة اعتقاداً منه بقدرة الفريق على التعامل مع الجيش والحد من تأثير العقداء الاربعة على سلطة الحكومة، مما دفع رشيد عالي الذي يتزعم المعارضة البرلمانية الى التدخل للحيلولة دون حدوث هذا الاجراء، الذي يفضي عند حصوله الى تنحية الاربعة عن مناصبهم القيادية التي يستقوي بها على خصومه السياسيين، متفقاً مع الفريق الركن أمين زكي رئيس اركان الجيش بالوكالة، وبالتنسيق مع العقداء الاربعة على التحرك عسكرياً لتنحية الوصي والحكومة، فكانت حركة بدأت في شباط 1941 واستمرت لغاية 2 مايس من نفس العام. طوقَ الجيش فيها القصر الملكي وأجبر طه الهاشمي على الاستقالة، ومن ثم سيطر على كل مقاليد الأمن والسلطة في بغداد، ودعم رشيد عالي لتشكيل حكومة انقاذ وطني، دون الرجوع الى البرلمان، محملاً الوصي الذي لجأ الى البصرة مسؤولية اضعاف الجيش، واحداث تصدع في الوحدة الوطنية، والتجاوز على الدستور، وطلب من البرلمان اقالته، وتنصيب وصي جديد بدلاً منه هو "الشريف شرف"، حاصلاً على اجماعه "البرلمان" المتكون من غالبية توالي نوري السعيد الهارب، وبعض القادة السياسيين المؤيدين له الى الاردن. وهذا أمر يؤشر ان البرلمان قد اتخذ قراره في تنصيب الوصي الجديد تحت تأثير نفوذ العسكريين، الذين سيطروا على ادوات الحكم.
لقد نقل البريطانيون الوصي عبد الاله من البصرة الى الاردن بالمدمرة (فالمون)، ليبدأ معهم ونوري السعيد، بقيادة صفحة القتال السياسي والعسكري بالضد من الحكومة التي لم يعترفوا بها وجيشها الذي يدعم وجودها، وسارعوا الى ادخال قوات بريطانية الى العراق دون الاستئذان بدخولها، فزادت من تأزيم الموقف، وبالمقابل ضغط العقداء الاربعة لاتخاذ اجراءات تصعيدية، دفعت بريطانيا الى القيام بعملية انزال في البصرة، ومن بعده في الحبانية، وضغطوا باتجاه دفع الحكومة لاعلان الحرب على بريطانيا التي اتخذتها ذريعة للتحرك السريع باتجاه اعادة الوضع الى ما كان عليه قبل الحركة، ضماناً لموقف عراقي مؤيد لحربها.
داعم لجيوشها في المنطقة.
كاف لسد الثغرة التي فتحت بقدر قد يمكن الالمان من استغلالها، لتكوين جبهة قتال بالضد منها في المنطقة.
فحصلت الحرب ودارت معارك بين الطرفين قريباً من الحبانية، كانت غير متكافئة سميت بسن الذبان، انتهت بخسارة الجيش العراقي، وتقدم البريطانيون الى بغداد، وهروب رشيد عالي الى السعودية والعقداء الاربعة الى ايران التي سلمتهم الى العراق وحوكموا واعدموا جميعاً.
لقد سجل العقداء الاربعة بتحركهم هذا، تدخلا واسعاً في السياسة، وان أدرجَ تحت عناوين الوطنية، الا انه تدخل اقحم الجيش في قتال لم يكن متهيئاً له، مع جيش دولة عظمى لا يمكن ان يكون نداً لها، وهو تدخل اتمم ما بدأه بكر صدقي، فاتحاً الباب الى انضمام الضباط للاحزاب السياسية، وتكوين خلايا ضباط احرار،  مهدت الى انهاء النظام الملكي فيما بعد، وجر البلاد الى مزيد من توجهات التدخل العسكري بالسياسة التي دمرت بنيتها السياسية والاجتماعية، وحرفتها عن مسيرة التطور والنمو لما يقارب نصف قرن من الزمان، عانى خلاله العراقيون الكثير من الويلات، وعانت منه العسكرية العراقية اختلالاً بضوابطها وقيمها الصحيحة (11).
.3 (14 تموز )1958
لقد حدث صبيحة 14 تموز 1958 تغيير جذري في معالم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية العراقية، وحدث قتل وسحل واجتثاث، وانتهاء نفوذ وبداية آخر، وحدث أن تقدم العسكر الى عالم السياسية من بابها الواسع، مسكوا زمامها أربعة عقود ونصف متصلة، نصبوا أنفسهم في مفاصلها العليا، فقضوا بتوجههم هذا على روح الديمقراطية النامية ببطئ، وأرسوا قواعد التسلط والديكتاتورية بقسوة. فهل كان هذا التغيير الحاصل، ثورة بالمعنى العلمي، أم انقلاب، أم مجرد تغيير؟.
أسئلة، تتطلب الاجابة عليها، الابتعاد قليلاً عن العاطفة والنظر اليها، نظرة كلية شاملة، لتسمياتها ونتائجها ووقائعها، من وجهات نظر تاريخية وفلسفية. وعلى وفقها يتبين أنها قد سميت شعبياً وسياسياً بالثورة، واكتسب اللفظ ثباتاً في العقل العراقي، وسميت بدرجة أقل انقلاباً وكذلك حركة. تسمياتٌ لم يرضَ عنها البعض، ووقفوا منها بالضد، مواقف منفعلة. كما ربطت دوافعها بالعامل الوطني، ودللت نتائجها، قدر من الارتباط بالعامل الدولي. ومع هذا فالعودة الى التعريف الخاص بالثورات اكاديمياً بقصد الدلالة، يبين ان هناك تعريفان رئيسيان للثورة احدهما، جاء بعد الثورة الفرنسية، مؤكداً أنها تعني قيام الشعب بقيادة نخب من مثقفيه بتغيير نظام الحكم بالقوة، وهذا تعريف لا ينطبق على التغيير الذي قاده عدد من الضباط في 14 تموز، ولا ينطبق على توصيف الماركسيين الذي سايروا المفهوم الذي ساد بعد الثورة الفرنسية، باضافة توصيف للنخبة، يمر عبر الطبقة العاملة "البروليتاريا"، لان التغيير المذكور حدثٌ اقتصر على العسكر ولا دور للطبقة العاملة في التخطيط والتنفيذ.
أما التعريف الحديث للثورة، فيؤكد على ضرورة التغيير الجذري الذي يحدثه الشعب من خلال أدواته الفاعلة، مثل القوات المسلحة أو شخصيات رمزية تاريخية، لاحداث فعل التغيير لنظام الحكم غير القادر على تلبية تلك الطموحات. وهنا وان أقترب الوصف من الثورة إلا ان واقع المشاركة في هذا الفعل يضع عقبات أمام توصيفه ثورة لأن القوات المسلحة العراقية التي أحدثت التغيير بالقوة، لم تشارك جميعها في عملياته، بل لواءين منها، فرضا سيطرتهما على مراكز الدولة وقتلوا رموزها وعلى باقي أفرع القوات المسلحة وقياداتها التي بقيت أما متفرجةً أو محاولة التحرك بالضد، مثل الفرقة الاولى بقيادة اللواء الركن عمر علي في الديوانية، التي أصدرت أوامر انذارية للتوجه الى بغداد بقصد نجدة الحكم الملكي، والقضاء على الحركة التي حسبتها تمرداً، لكن الوقت قد فاتها بعد مقتل الملك والوصي ورئيس الوزراء، ودخول الجمهور عامل مهم في الشارع المنفعل تأييداً للعملية.
من هذا يمكن القول ان الثورة تسمية، لا تتلائم مع الواقع على وفق المفهوم الشعبي الدارج للثورات. ونتائجها السلبية على العراق منذ حصولها حتى وقتنا الراهن، لا تتفق ومعنى الثورة الذي يتحدد بالتغيير الجذري للاحسن. وعلى هذا الأىساس فان وصف 14 تموز، بالانقلاب يكون الاقرب للدقة العلمية، بعد ان تحرك عدد محدود من الضباط القادة للاستيلاء على السلطة، اثبتوا بافعالهم وطرق ادارتهم، انهم غير مهيئين لقيادة دولة، وان بعض من دوافعهم لاتمام العمل كانت شخصية.
اتجاهات التنفيذ
لقد استغل العسكر أو بعضهم، قرار الحكومة صيف 1958، بإرسال قطعات عسكرية إلى منطقة المفرق في الاردن دعماً لها في مواقف توتر مع اسرائيل، ضمن الاتحاد الهاشمي الذي اقيم بين البلدين، ومن بين القطعات المنوي ارسالها آنذاك، اللواء التاسع عشر بقيادة الزعيم الركن (العميد) عبد الكريم قاسم، واللواء العشرين الذي نُصبَ العقيد الركن عبد السلام محمد عارف، نفسه آمرا له، اثناء التحرك للانقلاب، بعد ان كان آمراً للفوج الثاني، لامتناع آمر اللواء الفعلي من الاشتراك في الانقلاب أو معارضته.
لقد حول الضابطان العضوان في حركة الضباط الاحرار، اتجاه لوائيهما صوب مركز العاصمة والدوائر المهمة فيها، مثل الاذاعة والبريد والقصر الملكي، فأطاحوا بالحكومة والملك بتحرك سريع:
غيروا به حاضر العراق.
مهدوا لمستقبل جمهوري بقيّ غير مستقراً، تتقاذفه التوترات والحروب واعمال الحصار، والاضطرابات الداخلية الى 2003 ومن بعده بتسع سنوات. هذا ولدور هذان الضابطان في احداث هذا الانقلاب، وفي عموم السياسة العراقية لاحقاً، سنحاول القاء الضوء على بعض جوانب سيرتهما العسكرية والسياسية، التي تثبت صحة الاستنتاج الخاص بعدم الاستقرار، المذكور في اعلاه:

                                 
عبد الكريم قاسم
الزعيم عبد الكريم، مواليد منطقة الفضل، بغداد 1914، سكن الصويرة من الكوت بعد وفاة والده. عمل معلماً في مدرسة ابتدائية، ثم دخل الكلية العسكرية، وتخرج منها ملازم في صنف المشاة، وضابط ركن عام 1941. انتمى الى تنظيم الضباط الأحرار الذي اسسه العقيد رفعت الحاج سري، بعد حرب عام 1948 الخاسرة مع اسرائيل، وبهذا الصدد قيل انه قد اسس خلية تنظيمية في المنصورية، انضمت بمن فيها الى التنظيم الاصلي للضباط الاحرار لاحقاً، ولكونه الاقدم عسكرياً، فقد رأس عموم التنظيم عام 1957، وانه قدم عبد السلام صديقه القريب الى التنظيم في احد جلساته دون سابق انذار، لكن هذه الرواية يمكن ان تدحض منطقياً، اذ أن اللواء الركن محمد نجيب الربيعي كان من بين المنتمين الى التنظيم، وهو الضابط الاقدم لجميع المنتمين اليه.
وقيل ايضاً ان عبد السلام هو من كان عضواً في التنظيم، وهو من قَدَم عبد الكريم الى المجتمعين. حكايتان متناقضتان لم يتم التاكد من صحتهما، على الرغم من بقاء بعض اطرافهما احياء لستة عقود بعد الحركة، ويصعب التأكد لأن التناقض في قضايا الانقلابات العسكرية العراقية عميق، نتيجة الانحياز الانتهازي وضعف الدقة، وتدخل العاطفة في صياغة الرأي. اذ يلاحظ في هذا التناقض ان من كان منحازاً الى عبد الكريم قدم الحكاية الاولى ودعمها، وهم كثر خاصة في سني وجوده أعلى هرم السلطة، ومن كان منحازاً في الاصل الى عبد السلام او غيّر من انحيازه لاحقاً، اي بعد اعتلاءه السلطة ثانية، قدم الحكاية الثانية.    
لقد نجح الانقلاب صبيحة 14 تموز 1958 وَعينَ القائد، نفسه رئيساً للوزراء ووزيرا للدفاع، وعين شريكه الفاعل في التنفيذ ميدانياً، نائباً له ووزيراً للداخلية، بعد ان اخذا على عاتقهما التنفيذ، وبالتنسيق مع قسم من الضباط الاحرار الذي كان نصيبهم في التعيين اللواء الركن محمد نجيب الربيعي رئيساً لمجلس السيادة، تمهيداً لانتخاب رئيساً للجمهورية، لم ينتخب حتى انتهاء الجمهورية الاولى. والعميد الركن ناظم الطبقجلي قائد الفرقة الثانية، الذي أعدم في 29 أيلول 1959 بتهمة التآمر مع الشواف. والعقيد رفعت الحاج سري مديراً للاستخبارات، وقد أعدم بنفس اليوم والتهمة التي اعدم فيها الطبقجلي. والعميد عبدالرحمن محمد عارف قائد فرقة، ثم وكيل رئيس اركان الجيش، فرئيس جمهورية انتهى عهده بعزله عام 1968 بانقلاب عسكري. والعقيد الركن عبد الوهاب الشواف حاكماً عسكرياً عاماً ليوم واحد، ومن بعده آمراً لحامية الموصل، حتى مقتله اثر الحركة التي قادها في الموصل.
لقد انتهت حياة قاسم بمأساة، وان لم ترق الى تلك المأساة التي تسبب بها انقلابه للعائلة المالكة، اذ وبعد اعدامه من قبل الانقلابيين في 14 رمضان، تم دفنه في مزرعة قريباً من الزعفرانية، تم نبش القبر بعد يوم من الدفن ورميت الجثة في النهر، خشية ان يكون المكان مزاراً يتجمع حوله مؤيديه، والمناوئين للانقلابيين الجدد.
هذا واذا ما تم النظر الى فعله كانقلابي، من الزاوية العسكرية البحتة، نجد انه خالف قوانين الخدمة العسكرية بانتماءه الى تنظيم سياسي، وخالف الدستور الذي كان سائداً بتنصيب نفسه رئيساً للوزراء، واسهمت ادارته المتأرجحة للدولة في ادخال القوات المسلحة، مطبات السياسة عن قرب، خطوة سحبتها الى تدمير كل ضوابطها وقيمها لاحقا. 

               
عبد السلام محمد عارف
من أصول عشائرية تسكن مناطق الدليم المعروفة. ولد في بغداد وسكنها، عرف عنه الشجاعة حد المجازفة. كان الرجل الثاني في الحركة، ورأس نفيضتها، اذ دخل بوحدات لواءه الى بغداد أولاً، وسيطر على المراكز المهمة، بينها الاذاعة التي أقام فيها مقره، واذاع بصوته البيان الاول. اختلف مع زميله قائد الحركة، اختلاف رأي وسلطة فنقله الى سفير للعراق في برلين. عاد منها بعد فترة قليلة دون علم وزارة الخارجية، بقصد التآمر، وحكم عليه بالاعدام ثم اعفي عنه. وقد نسق معه البعثيين للقيام بحركة، انتهت بالاشراف شخصياً على اعدام زميله عبد الكريم في الاذاعة، حسب رأي انتشر بنفس الفترة الزمنية، في الوقت الذي شاع رأي آخر يشير الى انه حاول منع عملية الاعدام، واقتراح تسفيره الى الخارج، لكنه لم ينجح بسبب ضغط الضباط والسياسيين المساهمين معه في الحركة، وعلى رأسهم علي صالح السعدي.
عُرف عبد السلام بالتدين، وبالاتجاه القومي الوحدوي الذي قربه من البعثيين، وعرف عنه الرغبة في الوجود اعلى السلطة، ففي الوقت الذي اتهم فيه بالتآمر غير الناجح على الزعيم كما مبين أعلاه، حاول ثانية مع البعثيين، وكرر المحاولة ثالثة ضدهم، حتى اعتلى الرئاسة أخيراً بصلاحيات كاملة. وقد مات بحادث طائرة هليكوبتر مثير للجدل في منطقة النشوة قريباً من القرنة في البصرة عام 1966(12).        
الانفعال العدواني في عملية التنفيذ
لقد نجح الانقلاب بعد مجزرة أودت بحياة الملك فيصل الثاني، والوصي عبد الاله وباقي افراد العائلة الموجودين في القصر، على يد ضابط معلم في مدرسة المشاة، التحق بالحركة طوعياً، دون ان يكون احد اعضائها المبلغين بحصولها، هو النقيب عبد الستار العبوسي الذي انتحر بمسدسه عام 1970، اذ وبعد ان نفذ القتل عمداً توجه صوب الاذاعة، لاخبار عبد السلام بالنتيجة والحصول على مباركته، تاركاً الجثث في اماكنها لانفعال الجماهير، فتقدمت مجموعة منهم الى جثة الوصي، وبدأت بسحله في جانب الكرخ حتى ساحة الشهداء، وعلقته على شرفة فندق "قمر الكرخ" ثم انزلته مجموعة اخرى، واستمرت بسحله الى باب المعظم، وعلقته امام وزارة الدفاع، ليبدأ قصاب بالصعود اليه والبدء بتقطيع اوصاله، وتوزيعها على الشباب، الذين اتموا عملية السحل كل باتجاه اندفع اليه دون وعي، وما تبقى قليل من الجسد المقطع الاوصال، صب علية النفط وأحرق ورمي في نهر دجلة (13) الذي ابتلع من بعده عبد الكريم، وكذلك آلاف الجثث التي القيت غدرا في كل مراحل السياسة العراقية، وحتى هذا الزمن الجديد الذي أوكلت عمليات الالقاء فيه الى ارهابيين لا يعلمون شيئا عن ضحاياهم.
بعد هذا المشهد تم العثور على نوري السعيد، التي ترجح الروايات انتحاره قبل القاء القبض عليه. لقد نبش البعض قبره، واخرجوه ليسلموه الى الجماهير التي لم تهدأ، حتى بعد سحل جثته بنفس الطريقة المنفعلة، التي سحل فيها الوصي عبد الاله وآخرين.  
ان عملية القتل وما بعدها السحل التي رافقت الحركة في ساعاتها الاولى، كانت عملا عدائيا، جرى بهياج انفعالي غير مسيطر عليه، ارتكب العسكريون الطامحون بدايته، وتفرجوا أحياناً على مجرياته، دون التدخل لمنعه، فاسسوا بحدوثه سياقات استعراض للعنف العدائي. اذ ان المظاهرات الجماهيرية اليسارية التي كانت تظهر في شوارع بغداد وباقي المحافظات آنذاك، أخذت من عقد الحبال شعاراً لها "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة" ومن الاعمدة رمزاً للمشانق التي يهددون بها اعدائهم السياسيين. كما اسست لسياقات عنف اقتربت من الثبات، عادة ما ترافق الانقلابات والاحداث والاضطرابات التي بدأت، واستمرت من ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا.
لقد نجحت الحركة واستلم القادة العسكريون جل المناصب السياسية، بطريقة استمرت نهجاً لعدة عقود أو بالاحرى حتى انتهاء الجمهورية السادسة عام 2003. وارسوا قواعد استئثار بالسلطة، اذ وبعد استلطاف عبد الكريم هتاف الجماهير لشخصه زعيماً اوحداً، وغناء المطربين لمجده قائداً محرراً، وتبجيل السياسيين لاداءه عبقرياً ملهماً، اندفع تحت ضغط التضخيم النفسي للذات، والشعور المفرط بالعظمة الى المزيد من الاستئثار، والابتعاد عن باقي اعضاء التنظيم الخاص بالضباط الاحرار الذي تعطل بعد اتمام الحركة. ان استسلامه او ادمانه لاصوات وهتافات الجماهير، وتضخم ذاته القيادية، دفعه الى توسيع دائرة الاختلاف مع القريبين منه، خاصة عبد السلام، وان أشرَ البعض ان الاختلاف بين الشريكين المذكورين، تأسس وبالاضافة الى دوافع الانفراد بالسلطة الموجودة في نفسيهما على توجهات فكرية، فالاول علماني يقترب من اليسار، والثاني متدين قومي اقرب لليمين، وعلى مساعي شخصية حاول بسببها الاول، ان يعزز صورته في عقل الجماهير التي ادمن انفعالاتها، ومناداتها له زعيماً عبقرياً اوحداً، وحاول الثاني تعزيزها، مفجراً اوحداً للثورة في عقل الجماهير التي احس طعم النشوة لاصواتها. فبدأ الصراع واتسع على حساب العلاقات الاجتماعية "الصداقة" والمهنية العسكرية "عدم الامتثال للاوامر" فسقطا كلاهما ضحايا الاختلاف وسوء الادارة، وفقدان الثقة بالآخرين، بعد ان ازاح الاول زميله الثاني عن طريقه مؤقتاً، وازاح الثاني زميله الاول باماتته اعداماً نهاية المطاف.
من هذا يمكن التأشير الى ان الاختلاف بين الشخصين لا يتحمله قاسم وحده، بل ولعارف الذي لم يقتنع بموقعه، وبأهداف شريكه حصة في الدفع باتجاه اختلاف القطيعة الذي لم ينته الا بالازاحة، كما ان للعوامل الدولية والاقليمية اثر في هذا الاختلاف. اذ تاثر الاول بالشرق السوفيتي وتعكز عليه، وتأثر الثاني بعبد الناصر، وحاول السير على نهجه. ونفذا كليهما دون ان يعلما على الاغلب، غاية السياسة المبيتة لدول عظمى في تغيير وحرف العراق باتجاه طريق مزروع بالالغام، لا يمكن ان يصل السائرين عليه الى بر الامان، دون ان يدفعوا ثمناً لايعون طبيعته.

الانعكاسات السلبية للاختلاف
لقد اختلف الطرفان الرئيسيان، واندفعا بسببه فريقان متصارعان الى التوجه صوب العسكر للتكتيل والاستقطاب، فكونوا تناحراً بين مستويات الضباط القادة والآمرين، كان من بين عوامل توجه البعض منهم صوب الاحزاب، جهات منظمة جيداً، ومرتبطة بجهات خارجية غالباً، فاسهموا في عملية تكتيل مُسَيّس، كان لها النصيب الاكبر في التهديم المنظم لبنية القوات المسلحة، وجر العراق الى حافات الخراب. لقد استمر التناحر والصراع طوال فترة الرئاسة الاولى بطريقة، فتحت صفوف القوات المسلحة الى مزيد من محاولات التآمر والانقلاب المخلة ببنية القوات المسلحة، التزاماً وضبطاً ووطنية. ودفعت في ذات الوقت العسكريين باتجاه قيادة السياسة، وتكرار محاولات الانقلاب، والشعور بالقلق من فقدان الجاه والسلطة والتوجه الى البقاء في جلباب العسكر، والسعي الى ادارة ومراقبة الدوائر المهمة مثل البريد، وعسكرة محكمة الثورة، والسكك الحديدية، والطيران المدني، عسكرةٌ قللت من قيمة القادة، وأسهمت في ايجاد المزيد من عوامل الهدم للبنية العسكرية.
يضاف اليها مجاهرة العسكريين القريبين من الزعيم، بميولهم السياسية الشيوعية مثل العميد الركن طه الشيخ أحمد مدير التخطيط، والعقيد فاضل عباس المهداوي رئيس محكمة الشعب والمقدم وصفي طاهر، المرافق الاقدم والعميد الطيار الركن جلال الاوقاتي قائد القوة الجوية، والعميد عبد الكريم الجدة آمر الانضباط العسكري، التي اطلقت حمى التسابق من قبل الاحزاب الاخرى، للنفاذ الى المؤسسة العسكرية، فولدت بالنتيجة:
عتباً عدائياً للمجتمع على العسكر.
خسارة العسكر دعم المجتمع، كما يفترض به ان يكون.
وادخلت التنظيم الحزبي البعثي الى صفوف القوات المسلحة ليقود الصفحة الثانية من تدمير شبه منظم، وضع العراق وان انتهى عام 2003 من فرط تأديته الدور، في دوامات سوف لن يخرج منها، كما كان في سابق عهده عراق.
4. 8 شباط 1963
انتهى الخلاف الفكري والشخصي والسياسي والوظيفي والعسكري القائم بين قاسم وعارف بعزل الاخير، واجباره على البقاء في البيت، في الفترة الزمنية التي ضعفت فيها قدرة الاول في الضبط والسيطرة، عسكرياً وسياسياً، نتيجة التنحي الطوعي والجبري للزملاء العسكريين المشاركين بالانقلاب والمؤيدين لحصوله. وكتحصيل جانبي للتفرد بالقرار والعزوف عن الانتقال الى الديمقراطية في ذات الفترة التي قويَّ فيها العسكر السياسي، وبرز على السطح تناقص التأثير الشيوعي في القوات المسلحة، وتناقضات مواقفه التي اثارت قاسم بالضد من تنظيماته. اذ وبعد ان كانت اعداد الضباط الشيوعيين في القوات المسلحة بعد العام 1958، كبيرة بالمقارنة مع عدد المنتمين الى أحزاب سياسية أخرى، وبعد سيطرتهم على أهم المناصب في القيادة العسكرية، مثل القوة الجوية والانضباط العسكري، والحركات العسكرية ومحكمة الثورة، وقيادة بعض الوحدات، الا انها اعداد لم تستطع تأثيراتها، وسيطرتها الوقوف بالضد من تغيير قاسم لموقفه منهم وتنحيه عن دعم خططهم بعد احداث كركوك الفوضوية. وسعيه لادخال آخرين في توزيع المناصب العسكرية، لاغراض التوازن معهم من ذوي الاتجاهات القومية العربية، بنفس الوقت الذي وقع فيه الحزب الشيوعي في تناقض الموقف من قاسم على المستوى الاممي حيث الرغبة الملحة للسوفييت الوقوف معه، وقناعة القواعد العاملة للحزب في القوات المسلحة بعدم جدوى مسايرته، بل وضرورة الانقلاب عليه بحركة تصحيحية..... تناقض ابقى الشيوعيين في حالة حيرة مقلقة، وابقت قاسم في توتر وخشية الانقلاب عليه من قبلهم، فكونت بالمحصلة ثغرة بين الطرفين المتحالفين وجوبا. استفاد منها البعثيون والقوميون العرب الحاصلون على دعم خاص من جمال عبد الناصر وقوى غربية، والساعين الى توسيع خلاياهم التنظيمية في الجيش بعد تخرج بعض الشباب الحزبيين من الكلية العسكرية التي دخلوها مع موجة التوسع والانفتاح التي اعقبت انتهاء الحكم الملكي.
لقد فتح الشيوعيون العسكريون باختلافاتهم الحاصلة فيما بينهم لما يتعلق بالزعيم واختلافاتهم معه كما ورد اعلاه، ثغرة في الجدار الامني للحكومة، استغلت لتنفيذ انقلاب عسكري، على طريقة التوافق المصلحي بين عبد السلام، العسكري الطموح، المنفذ للصفحة الاولى والمهمة للرابع عشر من تموز، الذي يرى نفسه متضرراً من نتائجها، الاحق في سلطتها، والأكفا بمنصب رئيسها، وربما، الفرصة المناسبة للانتقام من الصديق الذي نحاه جانباً. وبين البعثيون القوميون الوحدويون المنظمون في الوحدات والدوائر العسكرية، بلا رمز قيادي، مهيأ لقيادتهم، قادر، باسمه وتاريخه، على تهدئة مخاوف الشارع، وتلطيف الاجواء المشحونة مع دول الاقليم، وقيادة ضباط الجيش المطلوب رضاهم وتأييدهم لكل خطوة تغيير مقبلة. فكان الاتفاق بين الطرفين هو الانسب لتنفيذ الاهداف المشتركة على اقل تقدير، فجاء اتفاقاً حذراً، بنوايا احتواء مستقبلي مبيت على الاغلب من كلا الطرفين، دفعهما الى التوسع في الاتصالات الجانبية مع الأطراف العسكرية "الضباط في المناصب ذات التأثير والنفوذ" باتجاه التكتيل للقيام بفعل التغيير أو الحيلولة دون حصوله، ففتحت شقوق في هيكلية البناء العسكري، توسعت بالتدريج.
ان الطرف البعثي الذي شارك في تنفيذ الانقلاب كان من بين قادته العسكريين العميد احمد حسن البكر (المحال على التقاعد) والعقيد الطيار الركن حردان عبد الغفار، والمقدم الركن صالح مهدي عماش والمقدم طاهر يحيى، والمقدم المظلي عبد الكريم مصطفى نصرت، والنقيب الطيار منذر الونداوي وآخرين برتب أقل.
أما الطرف القومي "تنظيم القوميين العرب" فكان من بينه ضباط قادة منهم العميد الطيار الركن عارف عبد الرزاق، والعقيد الركن صبحي عبد الحميد، والعقيد الركن عبد الكريم فرحان، والمقدم الركن عرفان عبد القادر وجدي، وشخصيات عسكرية اخرى مستقلة مناوءة للشيوعين او معادية للزعيم، مثل العميد الركن عبد الغني الراوي والعميد رشيد مصلح وآخرين(14).
لقد اختار الانقلابيون الساعة التاسعة من يوم الجمعة 8 شباط، الموافق 14 رمضان، لتحريك قطعات عسكرية هاجمت واحتلت الاذاعة، واخرى من الدبابات طوقت وزارة الدفاع، في الوقت الذي اغارت فيه طائرات مقاتلة من السربين السادس والسابع من قاعدتي تموز الجوية في الحبانية والحرية في كركوك على وزارة الدفاع، فَشَلّتْ قدرتها الدفاعية والقيادية، وبنفس الوقت هاجمت مجموعات بعثية قادة عسكريين محسوبين على الحزب الشيوعي، مثل العميد الطيار جلال الاوقاتي، قائد القوة الجوية واغتالتهم في بيوتهم. عندها حاول قاسم المقاومة، وحث الجيش والجماهير للوقوف معه، الا انه رفض تسليح الجماهير اليسارية الداعمة لبقاءه، وعجز عن ارغام بعض الوحدات المعنية بخطة أمن بغداد، على تنفيذ الاوامر الصادرة لها بمقاومة الانقلابيين. وبالتالي فشل في الاستمرار بالمقاومة، بعد ان ادرك سرعة انحياز بعض الضباط القادة والآمرين الى خصمه، فاضطر الى الاستسلام بحدود الساعة الواحدة من ظهر اليوم الثاني، فنقل مع المهداوي وطه الشيخ، بناقلة اشخاص مدرعة الى دار الاذاعة التي فتح فيها الانقلابيون مقرهم، وشكلت محكمة خاصة برئاسة العميد الركن عبد الغني الراوي الذي اصدر حكمه بالاعدام بدقائق، قيل عنها، ان عبد الغني الذي تلى قرار الحكم هو من اشترك في تنفيذه باطلاق النار على المذكورين.
ان محاكمة القائد العام للقوات المسلحة، من قبل ضباط ينتسبون اليها، في احد استوديوهات الاذاعة والتلفزيون، وتنفيذ الحكم بنفس الزمان والمكان من قبلهم ايضاً، كوّن واقعاً مخلاً بمعايير القيادة، واسلوباً انفعالياً عدائياً رافق مسيرة القوات المسلحة من ذلك التاريخ حتى أنتهاء بنيتها التنظيمية، وما زالت بقاياه ماثلة في عقول العديد من المنتسبين، اذ شهدت المسيرة الكثير من مثل هكذا تجاوزات في ميدان المعارك العسكرية والسياسية.
لقد نجح الانقلاب وتشكل مجلس لقيادة الثورة اشترك فيه ضباط من التنظيم السابق للضباط الاحرار. لكن حمى التسابق والصراع من اجل السيطرة والنفوذ عطلته تماماً، وعطلت منصب رئيس الجمهورية، الذي لم يكن فاعلاً طيلة الاشهر التسعة التي مثلت عمر نظام جديد، لم يشهد استقراراً بسبب شدة التناحر والتدافع على السلطة، اذ اقصيَّ القوميون، ونُحيَّ جانباً الرئيس، واندفع البعض من البعثيين الى التمرد على قياداتهم وبسبب قلة الخبرة الادارية والسياسية لجناح البعثيين الراديكاليين الساعين الى التفرد بالحكم.
لقد كان حزب البعث بعد نجاح انقلابه، كمن يتسابق مع غيره وحتى مع بعض اركانه لاستكمال سيطرته على السلطة، فنسق خططاً لاقصاء الضباط القوميين بعد ان اجتث الشيوعيين جذرياً، وحاول التخلص من عبد السلام شخصياً. وكان السباق الجاري بين الاطراف، لا يقتصر على زرع الخلايا الحزبية، ونقل الضباط البعثيين لاستلام مناصب مهمة، بل وحتى باتجاه الازاحة والتصفية، اذ اصدر المجلس الوطني لقيادة الثورة البيان رقم 13 الذي سمح للجيش والحرس القومي والشرطة، بالقتل الفوري لكل من يقف بوجه الانقلاب دون اية مساءلة قانونية. فحدثت مجازر للشيوعيين والقاسميين داخل المؤسسة العسكرية وخارجها، حتى تردد كثيراً ان الحزب في انقلابه هذا جاء ليقوم بدور دولي "غربي" محدد هو ابادة الشيوعيين.  
لقد انتشر حزب البعث في الجيش بعد 8 شباط بشكل واسع، وهو وان خضع لاجتثاث منظم من قبل عبد السلام لاحقاً، الا ان بعض خلاياه بقيت سليمة. وبعض كوادره نجوا من الاجتثاث. واستطاع الناجون من اعادة النشاط التنظيمي البعثي في الجيش بعد اشهر قليلة، وهيؤه لعمل انقلاني آخر.
5. 18 تشرين 1963
ان الاتفاق البعثي العارفي الذي انتج انقلاب 8 شباط، لم يستمر سوى شهور طفت على السطح السياسي في أواخرها تناقضات المصالح، ومد النفوذ الى جميع القيادات والادارات العسكرية وساءت الادارة وأمتد التدخل في الشؤون الامنية والسياسية وحصل نوع من صراع التضاد طرفه الاول، الجيش الذي تحركه الحزبية السياسية، ونخرت في هيكليته المصالح الذاتية، وشلت قدراته المشاكل الدائرة. وطرفه الثاني، الحرس القومي الذي تشكل بالقانون رقم 35 لسنة 1963 كرديف للقوات المسلحة، منحت له صلاحيات واسعة في المداهمة والتوقيف واجراء التحقيق. وتجاوز افراده في نقاط التفتيش والسيطرة المنتشرة في انحاء العراق على العسكريين من الضباط والمراتب.
طرفان متصارعان، متناحران، تعاملا على اساس الند، بعيداً عن المصالح المشتركة لكليهما والبلد، مما أثر سلباً على الجانب المهني للجيش وباقي افرع القوات المسلحة، وكون عداءً شديداً لدى منتسبيها، سهلت للضباط حتى غير المرتبطين باحزاب سياسية من الوقوف مع عبد السلام للتخلص من نفوذه "الحرس" والحد من غلوائه حتى على القيادات العسكرية البعثية.
لقد دخل هذين الطرفين الرئيسيين حلبة الصراع، ساعيين كليهما للاستحواذ على الدور الوطني، على الرغم من ارتباط الحرس القومي ضمن القانون الصادر لتشريعه برئاسة اركان الجيش، وتسليحه وتموينه من وزارة الدفاع، وزاد الصراع شدة بعد سعي قيادته الى تحجيم السلطة العسكرية بغية التمهيد الى سيطرة الحزب بجناحه العسكري الراديكالي على كامل السلطة، وهو جناح من الناحية التنظيمية لم يصل الى مستويات التنظيم الاخرى ترتيباً وعدداً. اذ بينت بعض الكتابات عن هذا الموضوع مؤكدة ان قيادة البعث عام 1963 كانت تتشكل من حوالي 5% من الفلاحين و20% من العمال و50% من الطلاب، الذي وصل احدهم على سبيل المثال هو خالد علي الصالح عضواً في القيادة القطرية أثناء استمراره بالدراسة الثانوية، والباقي من الموظفين والضباط برتب صغيرة. وبينت أيضا ان الحزب لجأ الى منح الضباط الكبار درجات حزبية قيادية مثل طاهر يحيى وحردان عبد الغفار واحمد حسن البكر بترتيب يقترب من التعيين، دون ان يمروا بالتدرج الحزبي التقليدي.... اجراء اتخذه الحزب في حينه لغرض تقوية هذا الجناح، وضمان ولاء الضباط، وسيطرتهم على القوات المسلحة في آن معاً، وكان له أثر في مسيرة الحزب الانقلابية فيما بعد.
لقد اتسمت قيادة الحزب في تلك الفترة بالشبابية "مع بعض الاستثناءات" والطيش الى حد وصفها ميشيل عفلق مؤسس الحزب بالقول "بعد 8 شباط، بدأت أشعر بالقلق من فرديتهم، وطريقتهم الطائشة في تصريف الامور، واكتشفت أنهم ليسوا من عيار قيادة بلد وشعب" (15). وقد اتسمت ايضاً بعدم امتلاك الخبرة السياسية والادارية، والتفرد في اتخاذ القرار. فتسببت ودون تروي بزيادة الصراع بين الاطراف وشق الموقف الحزبي، الى مستوى لجأت فيه القيادة العامة للقوات المسلحة في تموز 1963 بتوجيه برقية تهديد بحل الحرس القومي في حال عدم توقفه عن الاعمال التي يقوم بها، وبما يضر المواطنين والامن العام. لكن قيادته وفور استلامها البرقية، طلبت من القيادة العامة على لسان الونداوي بسحبها والغائها باسلوب فيه قدر من التحدي والسعي لاستمرار التصارع، مؤكداً استقلالية الحرس كقوة شعبية، ذا سلطة معتمدة شعبياً، فزاد الخلاف سعة بين الحرس من جهة ورئيس الجمهورية وقيادة الجيش وافرع القوات المسلحة من جهة ثانية... خلاف عده البعض، البداية التي دفعت الرئيس للتخطيط الى الانقلاب، ودفعت الجناح المتطرف للبعث "علي صالح السعدي" بالسعي لازاحته، وبعض البعثيين... خلاف وصل حد القطيعة يوم 11 تشرين الثاني من عام 1963، دخله الضباط طرفاً بالضد من كتلة السعدي، وسبباً لابتعادهم التدريجي عن قيادته فدخلوا ستة عشر ضابطاً بقيادة العقيد محمد المهداوي، والمقدم حميد العبل على المؤتمر القطري في اجتماعه، وعزلوا القيادة وامروا بانتخاب قيادة جديدة، صوتَ جميعهم لصالحها على الرغم من ان بعضهم لم يكونوا بعثيين، وامروا بتسفير السعدي وجماعته بطائرة عسكرية الى اسبانيا.
لكن الصراع لم ينته، بل وازدادا تعقيداً، حتى انحاز الجناح العسكري الذي يضم كبار الضباط القادة بينهم اللواء طاهر يحيى رئيس اركان الجيش، والعميد الطيار حردان عبد الغفار قائد القوة الجوية والعقيد محمد المهداوي آمر كتيبة الدبابات الثالثة، ومعهم بشكل غير معلن "بانتظار النتيجة" اللواء احمد حسن البكر رئيس الوزراء وآخرين، الى جانب جهد الرئيس الانقلابي.
ان سير الاحداث وتطوراتها للاسبوع الذي سبق الانقلاب تؤشر، ان العسكريين البعثيين القادة المذكورين قد حسموا أمرهم واصبحوا جزءا من عملية التنفيذ، فجنوا الثمن منصاصب سياسية عليا في الدولة، اذ حصل طاهر يحيى على منصب رئيس الوزراء وحردان للدفاع واحمد حسن البكر يفترض ان يكون نائبا لرئيس الجمهورية، لكنه انسحب قبل يوم من التنفيذ.
لقد وضعت القوات المسلحة طيلة الاسبوع الذي سبق الانقلاب في حالة انذار (ج) تحسباً لأي طارئ في ساحة الصراع، وربما للحيلولة دون قيام الطرف المقابل بانقلاب، وفي أثناءه اجتمعت القيادة البعثية، بشقيها العسكري والمدني في بناية المجلس الوطني، اجتماعاً لم تكن نتائجه في صالح الجناح المدني المتطرف، مما دفع الونداوي المؤيد له، الاتصال فور خروجه بفرع بغداد للحزب وقيادة الحرس القومي المجتمعة في مقره بالاعظمية، ليعدوا انقلاباً على الانقلاب في الرأي الذي حصل بالاجتماع، واستمر على هذا الحال فريقان يسارعان الزمن لتنفيذ انقلاب، لكن الفريق الذي يتزعمه قادة الجيش، ويؤيده غالبية القادة العسكريين البعثيين الكبار، بات هو الاسرع والاقوى حتى حلول صباح يوم 18 تشرين الثاني، الذي اصدرت قيادته أوامرها لبعض الوحدات بالسيطرة على الاذاعة والتلفزيون ومرسلات ابو غريب، وتوجهت قوة اخرى بقيادة العقيد سعيد صليبي الجميلي آمر الانضباط العسكري، والرائد علي عريم الى مكتب وزير الدفاع الفريق عماش لاعتقاله في غرفة خاصة بمديرية الحركات العسكرية. وتحركت وحدات من معسكري الوشاش والرشيد، للسيطرة على بعض الاهداف الحيوية، تؤيدها قيادة الفرقة الخامسة بقيادة اللواء عبد الرحمن محمد عارف، والفرقة الاولى بقيادة العميد الركن عبد الكريم فرحان، والقوة الجوية بقيادة العميد الطيار الركن حردان عبد الغفار.

         
نفذت الوحدات المبلغة بالفعل، وسيطرت على اهدافها، ووصل عبد السلام الى ابو غريب حيث المرسلات الرئيسية، فاذاع بصوته البيان رقم واحد،

             

وكرره من بعده المقدم الركن هادي خماس من حركة القوميين العرب بصوته ايضاً، عندها بدأت مقرات الحرس القومي في بغداد بتسليم اسلحتها، بينما استمرت على وضعها في غالبية المحافظات حتى منتصف ليلة 18/19 تشرين، تسجل فيها استسلام كل مقرات الحرس القومي، وأعلان بيان بانتخاب "تنصيب" عبدالسلام، رئيسا للجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة، ورئيس المجلس الوطني لقيادة الثورة. وبيان ثان بحل الحرس القومي، والغاء القوانين الخاصة به.
ان الانقلاب الحاصل في 18 تشرين، وبالاضافة الى كونه انقلاباً سياسياً، كان انقلاباً على الوجود البعثي الممنهج في القوات المسلحة، الذي اتّبَعهُ الحزب، خلال الاشهر التسعة للحكم، واول ما قام به الانقلابيون بعد نجاحهم هو احالة كبار القادة البعثيين الذين لم ينظموا الى صفوفهم على التقاعد، وقليل من الضباط الاعوان، الا من يرد اسمه نشطاً في صفوف الحزب، والغيت الدورات المقبولة في الكلية العسكرية حزبياً، ونشطت الاستخبارات العسكرية والامن العامة في تعقب الانشطة الحزبية في القوات المسلحة، وابتدعت السلطة الجديدة موضوع البراءة من الحزب للتخلص من تبعات الانتماء، والحصول على فرص البقاء في الجيش، حتى نشرت الصحف المحلية براءة موقعة لاحمد حسن البكر، نبذ بها فكر البعث، وبين رغبته بالتفرغ الى الحياة العائلية(16).
ان الرئيس الجديد "المُنَصْب انقلابياً" المعروف بوقوفه ضد الحزبية في الجيش، حاول الاستفادة لصالحه من الضباط الناصريين، ووزع بعض المناصب على كبارهم مثل "العميد الركن محمد مجيد مدير التخطيط والعميد الركن عبد الكريم فرحان وزير الارشاد ول.ط.ر عارف عبد الرزاق قائداً للقوة الجوية والعقيد الركن هادي خماس مدير الاستخبارات العسكرية، والمقدم الركن صبحي عبد الحميد وزير الخارجية. وكذلك من بعض الضباط البعثيين المساندين له في الانقلاب، المذكورين في اعلاه.
ان المشير عبد السلام، وفي سياق ادارته للدولة وقواتها المسلحة، بعد نجاح انقلابه، اصدر اوامر شديدة بمنع الحزبية في الجيش، لكنه من جانب آخر ادخلها في مأزق جديد لا تقل الاثار السلبية البعيدة له عن دخولها أتون الحزبية. وهي العسكرية العشائرية، المذكورة  تفاصيلها آنفا، حتى اصبحت التشكيلة القيادية العليا للجيش تتبع هذا المنحى، الذي اسس عليه شقيقه عبد الرحمن، ولم يستغني عنه البكر طوال فترة رئاسته، ومزجه صدام بالعشائرية السياسية، لينتج توليفة قيادية عسكرية، كان لها الاثر الكبير في انتاج اخطاء، وتجاوزات اسهمت في تدمير بنية الجيش وعموم القوات المسلحة.

   
6. 17 تموز 1968
ان لحزب البعث العربي الاشتراكي خصائص، تَميزَ بها بما يفوق الاحزاب الاخرى التي تأسست في زمنه، اهمها ديمومة السعي للوصول الى السلطة بأية وسيلة، وان كانت استخداماً مفرطاً للقوة. وعدم الاقتناع بغير الحكم سبيلاً لتحقيق الاهداف، وان كان الطريق محفوف بمخاطر تفتيت المجتمع والامة... خصائص دفعته الى الاعتراف بفشل التجربة السياسية للحكم عام 1963، واستيعاب الانشقاقات التي حصلت أواخر ذلك العام، ولملمة الشتات جناحين يمتد الاول الى ميشيل عفلق، ويتصل الثاني بسوريا حافظ الاسد. سارا كلاهما باتجاه الوصول الى السلطة، اي الانقلاب على حكم عبد الرحمن عارف، الذي ورثه عن اخيه في 17 نيسان 1966، بانقلاب ابيض للعسكرين المتنفذين، في تمثيلية انتخاب الرئيس. وفي الجهة المقابلة لهم في تلك الحقبة الزمنية، كانت سمات الرئيس عبد الرحمن، ضعف عام، وفرط الثقة بالقريبين، الى مستوى تجاوزه التقارير والتحاليل الاستخبارية في التعامل مع المتربصين له، والساعين الى الانقلاب عليه بينهم البعثيين، واللجوء بدلاً عن التحقيق بصحتها، الى طلب القَسَمْ بالقرآن الكريم، سبيلاً لتبيان الحقيقة. واكثر من هذا الشعور بضيق حلقة التأييد والدعم لوجوده، حتى ورد عن المقربين منه انه قد حضر اليه صديق له قبل الانقلاب بقليل، قائلا: "أبا قيس لم يبق للانقلاب المرتقب ضدك سوى ثلاثة عشر ساعة، احسم الامر بنقل عبد الرزاق النايف من منصبه، وانهي الموضوع، فأجاب:
لماذا تستكثرون عليَّ عبد الرزاق، الذي بقي وحيداً الى جانبي"(17). فكانت سمات خاصة، وضعف قيادي، وظروف سياسية ساذجة، ومواقف دولية مناسبة، وخيانة وطنية أخلاقية، وضعت جميعها البعثيين على سكة الانقلاب شبه المحتوم.   
التحرك للتنفيذ
كان جناح البعث لميشيل عفلق هو الاقوى في ساحة التآمر والانقلاب، وكانت الساحة الداخلية ملائمة، حيث الاقرار بضرورة التغيير، من قبل القادة المعنيين بحماية الرئيس، تلافياً لاحتمالات ضياع المكاسب المتحققة. وكان الجناح البعثي اليساري، الممتد الى حافظ الاسد لا يقوى على السير في طريق الانقلاب، لعدم امتلاكه رموز عسكرية قيادية يعتد بها. ولا قاعدة واسعة من الضباط وضباط صف، يمكن التأسيس على وجودها في التخطيط والتنفيذ، لعمل مضمون باقل ما يمكن من الخسائر. وكان الشيوعيون يئنون من جراح الابادة الجماعية، لتنظيمهم العسكري والمدني، بعد مجازر 1963، ومع انينهم هذا، اشهر الغرب كارتاً أحمراً، لا يسمح بتحركهم لعمل انقلاب باي حال  من الاحوال. وكان القوميون واهنون، بعد تكرار عدة محاولات فاشلة للقيام بفعل الانقلاب، وهم مثل الشيوعيين يعانون من الانحياز الدولي في غير صالح تقربهم من الحكم في العراق. اما الاسلاميين فان دورهم لم يحن بعد لادارة حكم في المنطقة، وقواعدهم الحزبية المنظمة في الجيش، تكاد ان تكون معدومة، باستثناء أفراد متفرقة، لا يجاهرون بأداء طقوسهم الدينية. من هذه الساحة المواتية، تحرك البعثيون، الاقوى تنظيماً، والاكثر قبولاً في الساحة الدولية، فوجدوا في طريق تحركهم جهة أخرى تسعى بنفس الاتجاه، قادتها اللواء الركن ابراهيم عبد الرحمن الداوود آمر لواء الحرس الجمهوري، والمقدم الركن عبد الرزاق النايف وكيل مدير الاستخبارت العسكرية. المركزان الاقدر على كتمان التحرك، وضمان نجاح التنفيذ، بحكم موقعهما الى جانب السلطة العليا لاصدار القرار، وقربهما العشائري المناطقي من الرئيس... وضعٌ خاص، وجد فيه كل طرف مجازفة في الوصول الى الغاية، اذا ما تم تجاوز الطرف المقابل له في معادلة الوصول، ومجال للانقضاض على ذلك الطرف الذي لا يمكن تجاوزه، في الوقت المناسب، وتعديل النتيجة تفرد بحكم العراق. فكان التحالف، حلاً وحيداً يؤمن جزء من الغاية، ويمهد الى تأمين الجزء الآخر لاحقا. قبله الندان، مَثلَ البعث فيه كل من البكر وعماش، والمقابل لهم "المستقل" بالاضافة الى الضابطين المذكورين، أي الداوود والنايف، كل من العميد حماد شهاب آمر اللواء المدرع العاشر والمقدم سعدون غيدان آمر كتيبة دبابات الحرس الجمهوري، وان انتظما في صفوف الحزب لاحقا. تم الاتفاق بينهم، ونفذت الخطة بدقة، ودخل الانقلابيون بناية القصر الجمهوري، صباح يوم 17 تموز 1968، محذرين الرئيس باطلاقة واحدة من مدفع دبابة، جعلته يوافق على مغادرة الحكم والعراق على الفور... انه تحالف مصالح تم بسرعة، وانجز فعل الانقلاب بسهولة، اثارت اقاويل، لم يصل المؤرخون والباحثون الى صحة حدوثها فعليا، فابقوها عائمة يتم تداولها تبعا، للقرب والبعد من أطرافها، وتبعاً لاستعراضات القوة في مجالها، فكانت القادمة من غير البعثيين، تبين أن الضابطين المذكورين "الداوود والنايف"، وبعد فترة قليلة من حكم عبد الرحمن أخذوا، يتكلمون في مجالسهم الخاصة عن ضعفه الملموس، وعن خشيتهما حصول انقلاب عليه من قبل الناصريين او الشيوعيين او البعثيين، مما دفعهم الى التخطيط لاستباق الانقلاب المحتمل بانقلاب فعلي. ولما عرفا بخطط البعثيين، واقترابهم من التنفيذ، ولافتقارهما الى البعد السياسي المحلي والاقليمي والدولي، وافقوا على التحالف معهم لتحقيق الغاية. وكانت الرواية البعثية التي وردت بالادبيات الرسمية للحزب، بعد الانقلاب على الداوود والنايف في 30 تموز 1968 مباشرة، على العكس من تلك الرواية المذكورة، مؤكدة، ان الحزب من قام بالتخطيط للانقلاب، وان قيادته هي التي بادرت بالاتصال بالداود عن طريق شقيقه البعثي، النقيب عبد الوهاب الداوود لتأمين النجاح، وانها عندما كانت في احد الاجتماعات الخاصة معه، لمراجعة خطة التنفيذ، فاجئهم النايف بالدخول الى المكان، وساومهم على قبوله طرفاً رئيسياً او افشاء سرهم، متهمين الدواد باخباره بالمخطط.
انها روايات منحازة، تدحض صحتها رواية ثالثة، تتأسس على وجود حتمية للتحالف، ووجود عراب لهذه الحتمية، هو اللواء الطيار الركن حردان عبد الغفار، المكلف من قبل البعثيين بالاتصال بالطرف الآخر، عندما استشعروا خطواته باتجاه التنفيذ القريب، وهو المعروف بقدرته العالية على التأثير، وخبرته الواسعة في عمل الانقلابات، وقد نجح في مهمته بتقريب وجهات النظر، وعقد الصفقة التي وحدّت جهودهما مؤقتا. نجاحا حَسب البعض صاحبه، لولب الانقلاب الفعلي، ومهندسه الحقيقي، وحسبه البعض الآخر صاحب الجهد الرئيسي، مؤكدين ان تدخله كان الحاسم في تحقيق النجاح، وكان الحائل دون انكشاف الجهد قبل التنفيذ.  
ان الروايات الثلاثة متناقضة، وتحتاج الى سند لدعم صحتها، بقي وسيبقى مفقودا في ظروف وشخصيات لم تخرج من عباءة الذاتية، حتى في التعامل مع وقائع التاريخ. وان كانت الرواية الاخيرة ذات الصلة بجهود حردان هي الاقرب للواقع، عند النظر اليها من زواية المحاججة العلمية لبعض ملابسات الانقلاب، مثل:
1. من غير المعقول ان يجازف البعثيون، ويتصلوا بالداوود دون مقدمات مسبقة، وهو المعني بحماية النظام، الا بعد ان تيقنوا من وجود جهد يقوم به لتنفيذ انقلاب، وانه لم يكمل هذا الجهد، وهو بحاجة الى من يعاونه في اكماله، وقد يكون من جانبه قلقاً من قيام البعثيين بكشف سره.
2. ومن غير المعقول أن يفاجئ النايف المجتمعين البعثيين، ويساومهم في اجتماعهم على المشاركة، وتحديد المنصب الذي يريده. وهو في موقع يستطيع بواسطته القاء القبض عليهم.... عملٌ لو كان قد أتمه لحصل من الرئيس على عائد يفوق المساومة في ظروف المجهول.
3. اقصاء، بطريقة الاغتيال بالنسبة الى النايف وحردان، والنفي بالنسبة الى الداوود، عمل لا يأتي بالصدفة، ولا يمكن ان يتم بثلاثة عشر يوماً، اعقبت النجاح، ولا يمكن ان يحدث في بداية المشوار، الا لغاية التخلص منهم، ومن اسرار يحملونها قد تغير في حال انكشافها من الواقع وشكل الحكم المطلوب.  
ان المرجح هو ان الطرفين، وخلال مرحلة التخطيط، بات يعرف كل منهما خطوات الثاني، وانهما سوية لا يرغبان بالخروج خالين الوفاق. ففضلا سوية، التعاون مع الغريم، صفقة ملائمة لتقاسم المناصب، وابقاء المستقبل مفتوح، للتحرك على وفق حركة الطرف المقابل. انه استنتاج تؤكد صحته تحركات الطرف البعثي المريبة خلال الثلاثة عشر يوماً التي اعقبت الانقلاب، حيث التوجه السريع لنقل الضباط الموالين الى بغداد. ومحاولة السيطرة على بعض مفاصل الدولة المهمة. ويؤكد صحته ايضا قول البكر بعد 30 تموز، للرائد الركن سليم شاكر الامام الذي حضر لزيارته، من انه وطوال فترة الثلاثة عشر يومياً لم يعد يقوى على رفع رأسه والنظر في عيون الرفاق عندما يرد اسم عبد الرزاق النايف، وانه كان قلقاً من وجوده، حتى انه قد اصيب بداء السكري، لكثر الترقب والتفكير بهذا الوجود الخطير. اصابة أكد حقيقة حصولها الدكتور تحسين معلة، يوم قص عليه الرائد الركن سليم ما ورد، اذ أخبره انه فعلاً قد فحصه سريرياً بعد اقصاء النايف مباشرة، ووجد انه قد اصيب حديثا بداء السكري.

                          
خطة الانقلاب
تأسست الخطة على قيام المقدم سعدون غيدان بفتح الباب الرئيسية للقصر الجمهوري، صبيحة اليوم المتفق عليه "17 تموز"، باعتباره آمر الكتيبة المعنية بحراسة المداخل، ومن ثم تسهيل تسلل بعثيين عسكرين ومدنيين، يستقلون سيارات حمل عسكرية، يحملون رتب ضباط، لاحتلال القصر، وقد تم لهم هذا. بعد الدخول ورمي اطلاقة التحذير تم الاتصال بالرئيس هاتفياً، وعرض عليه خيار الاعتراف بالامر الواقع اي التسليم، والسفر مع العائلة على الفور او الموت كنتيجة حتمية. وفعلاً قبل العرض بسرعة، وسافر الى تركيا بنفس اليوم، ليعيش هناك منعزلاً فترة طويلة، عاد بعدها الى العراق راضياً بوضعه كمتقاعد معزول، لينتقل بعد التغيير الى الاردن التي وافاه الاجل فيها، ودفن بمقابر شهداء الجيش العراقي بالمفرق في 24 آب 2007.     
ان الخطة التي اعتمدت على التسلل الى القصر الجمهوري ومن بعدها تحرك اللواء المدرع العاشر ودخوله بغداد، وتوزيع دباباته على المناطق المهمة، نجحت بلا مقاومة، ودون أية اصابات. واثر نجاحها شُكل مجلس قيادة الثورة من ستة عسكريين هم اللواء احمد حسن البكر واللواء الطيار الركن حردان عبد الغفار والفريق الركن صالح مهدي عماش واللواء الركن عبد الرحمن الداوود والعقيد حماد شهاب والمقدم الركن عبد الرزاق النايف والمقدم سعدون غيدان. وتشكلت وزارة من 25 وزيراً فيها عشرة وزراء بعثيين، راسها النايف، واستوزر لدفاعها الداوود، ولداخليتها عماش، ورئيس اركانها حردان... معادلة لتوزيع المناصب تتفوق بها كتلة الداوود النايف عددياً في ميزان يتفوق فيه البعثيون بالخبرة، وفن ادارة الازمات، وتنظيم الانفعالات والحشد الجماهيري، والتطرف الثوري.
التحرك البعثي للانقلاب على الحلفاء
لم يرض البعثيون عن النتائج وما تحقق من نجاح اوصلهم مع حليفيهما الى الحكم، ولم يقتنعوا اصلاً بالتحالف سوى غاية تعبوية للوصول والسيطرة على الحكم، وانهم في الواقع كانوا يضمرون نوايا التخلص منهما منذ اليوم الاول لتحالف صيغ على النوايا المبيتة. فتحركوا سريعاً للانقلاب على الطرف المقابل لهم، وقضوا عليه بحركة سريعة في 30 تموز، وبترتيب بسيط، يتأسس على قيام الرئيس البكر بايفاد وزير دفاعه الداوود، الى الاردن لمعاينة القوات العراقية المنفتحة لاغراض الدفاع على الارض الاردنية، وفور وصوله استدعى أي الرئيس، عبد الرزاق النايف، كرئيس وزراء للتشاور وتناول الغداء. فانقض عليه صدام، وجماعته في المكتب، وهددوه بالموت او السفر الى الخارج على الفور، وبنفس التوقيت قصد ضباط بعثيون من الوحدات الموجودة في الاردن وزير دفاعهم الداوود، وعرضوا عليه نفس العرض مع تعيينه كسفير. وهنا ورد عن قائد القوات العراقية المنفتحة في الاردن اللواء الركن حسن مصطفى النقيب، امتناعه عن تنفيذ أمر الاعتقال الذي استلمه هاتفياً من رئاسة الجمهورية، وبدل من هذا النوع من الاعتقال المهين، جاء اليه في مقر اقامته مع بعض الضباط البعثيين، وهمس في اذنه بضرورة العودة الى بغداد بالطائرة تجنباً لعمل قد لا يرضاه، علماً ان النقيب، قد انشق عن الحكومة بعد حوالي ثلاث سنوات من هذا التاريخ، وعمل معارضاً فاعلاً بالضد منها حتى انتهائها عام 2003.
لقد رضخ الداوود والنايف لامر العزل الواقع، وبرضوخهم فرض الحزب سيطرته التامة على كل منافذ السلطة، وازاحة كل المعارضين لاجراءاته هذه، واعاد تشكيل الحكومة وقيادة القوات المسلحة، لتكونان من البعثيين حصراً.
التأثيرات المباشرة لفعل الانقلاب
لقد امتدت التأثيرات المباشرة للانقلاب 35 عاماً كانت مليئة بالاحداث، ومحاولات التآمر والانقلاب، كان اشهرها واكثرها تأثيراً على العراق بشكل عام وعلى القوات المسلحة بشكل خاص، انقلاب صدام حسين على البكر عام 1979، بارغامه على التنازل بدعوى المرض، ومنح نفسه رتبة مهيب ركن، واعاد تشكيل القيادة العامة للقوات المسلحة، من مكتب تنسيقي الى تشكيل قيادي تنفيذي، دخل بها حروب خرج منها خاسراً، بمستوى حطم اعمدة القوات المسلحة، باضطرابات في مجالات الضبط والمعنويات والاداء والمهنية، لم تشف منها حتى آخر معركة مع التحالف الدولي انهتها تماماً. وستمتد التأثيرات غير المباشرة، لهذا الانقلاب على العراق وجيشه وعموم قواته المسلحة، للمستقبل، حيث الاكتساب السلبي لبعض انواع السلوك السلبي، وتفشي بعض الامراض الاجتماعية، التي تعززت عادات في مجاله "السلوك العام"، يصعب التخلص منها لعشرات مقبلة من السنين.

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

http://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/28498-2017-02-16-09-58-33.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

440 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع