هل يبقى الفيلسوف العربي مجرد تمثال (تمثال لابن رشد)
ما أحوج العالم العربي الواقع تحت أنياب العنف والتطرف اليوم إلى عقول تنويرية تصلح ما آلت إليه هذه الشعوب من الداخل، وهذا منوط أولا بالفيلسوف، لكن من هو هذا الفيلسوف؟ إذ التعاطي مع توصيف الفيلسوف، ومع هويته يظل من أكثر القضايا إثارة للأسئلة، لا سيما في ثقافتنا العربية، تلك التي تبدو فيها صورة الفيلسوف شاحبة وغائبة.
العرب /علي حسن الفواز:هل هناك فلسفة عربية؟ وهل هناك فيلسوف عربي، له أُفقُه ومشروعه ووسائطه وأسئلته؟ وهل ثمة صورة لهذا الفيلسوف في يومياتنا العربية الحافلة بالعطالة، والجهل وحروب الأصوليات المثيولوجية؟
هذه الأسئلة هي الفضاء الذي استغرقه كتاب الدكتور رسول محمد رسول والموسوم "ما الفيلسوف .. إنسان التنوير ومُفكّر صباح الغد"، إذ تنطوي على اشتغالات ومقاربات تلامس ظاهرة الغياب الفلسفي في حقول المعرفة، والنقد والبحث العلمي، وبما يجعل البحث عنها رهينا بالعودة إلى التراث الفلسفي، أو إلى المزامنة التي خضع فيها الخطاب الفلسفي إلى الفكر الغربي في أطروحاته ومناهجه ونظرياته.
العقل المدني
احتوى الكتاب، الصادر بالاشتراك بين منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف، على مقدمة وثلاثة فصول تمحورت حول هوية الفيلسوف، توصيفه، علاقته بالوجود والعقلانية والتنوير، حيث وضع المؤلف سؤاله المركزي "ما الفيلسوف؟" كاستهلال لمقاربة موضوعات مؤلفه، ولاقتراح مستوى من القراءة التي تنطلق من الحاجة إلى استدعاء صورة الفيلسوف العربي الغائبة، بوصفها معادلا لاستدعاء مفهوم العقل، ولمواجهة كل مظاهر الخراب الحالي.
يبحث المؤلف في صورة “فيلسوف الشرق العربي” التي وضع لها حضورا افتراضيا إزاء ما نعيشه راهنا، محاولا إيضاح دور هذا الفيلسوف في “ضوء المتغيرات الجذرية التي تحدث في العالم، ومنه العالم العربي والإسلامي”.
وبقطع النظر عما عمد إليه المؤلف من تقصٍّ تاريخي لتشكّل صورة الفيلسوف في التاريخ الإنساني والإسلامي، فإنّ اللحظة الراهنة تظلُّ امتدادا لتهافت الغزالي، ولأطروحات الشهرزوري والإمام الذهبي، تلك التي وصمت الفلاسفة بالزندقة والمروق، حتى بات حضور هذا الفيلسوف مشوبا بالشك والانحلال، حدّ أنه يعيش وبحسب جورج هانز غادمير إشكالات “حضارة تُزعزِع فيها التحديات تراث الحقائق الذي يعتمد عليه فكر الفلاسفة”.
وفي سياق إضاءاته لطبيعة الخطاب الفلسفي العراقي، يشير المؤلف إلى مواقف الفيلسوف الشاعر جميل صدقي الزهاوي، وعمله على “تفكيك اللاهوت الإسلامي الزائف” من منطلق اهتمام الزهاوي بالعلوم الحديثة، وبالأفكار التنويرية التي تساكنها قيم العدل والحق والحرية، لا سيما حرية المرأة، لكن تبقى هذه المواقف محدودة، ولا تؤسس أطروحاتها على أفق منهجي واضح، ولا تستند إلى حراك ثقافي وتعليمي واسع، إذ ظلت البيئة العراقية أقرب إلى توصيف البيئة الأدبية، تلك التي أسهمت في تضخيم صورة الشاعر، و”الكائن الطاووس”، المفتون بذاته ومعرفته، من باب “الاحتكار النرجسي لا غير”، مقابل خضوع هذه البيئة إلى هيمنة أكثر رهابا للعديد من التيارات السلفية، والتي لعبت أدوارا إجهاضية كبيرة في مسار التحولات السياسية العراقية.
مقاربات تلامس ظاهرة الغياب الفلسفي في حقول المعرفة
يتوغل محمد رسول أكثر في مفاهيم “الإنسان، والعقل والغيرية والوجود”، تماهيا منه مع فكرة الحاجة إلى العقل المدني بوصفه عقلا حمائيا للذات والوجود والحق، ولمواجهة غلو وتوحش العقل السلطوي والعقل العسكرتاري والعقل الأصولي، فالعقل المدني في رأي المؤلف هو “عقل نهضوي وإصلاحي، تواصلي واعتدالي” فضلا عن أنه “عقل تعميري/ بنائي، وليس عقلا تدميريا يتقصد الانقضاض على المنجز البشري في الحياة بكل صورها”.
وظيفة الفيلسوف
يُعدُّ مفهوم وظيفة الفيلسوف من أكثر المفاهيم تعبيرا عن مرجعيات المؤلف في النظر إلى توصيف هذا الفيلسوف، فهو يجد في إجرائية التقويض مجالا لتفسير الوظيفة الفلسفية، على مستوى أنسنتها، وعلى مستوى تموضعها في سياق التحولات التاريخية، لتكون الوظيفة الأكثر عقلانية في مواجهة العصاب، والتقنّع بـ”الهوية المُغالية”، هوية العرِق والطائفة والأيديولوجيا والجماعة والحقيقة المغلقة، حتى تبدو الحاجة إلى “عقلانية إنسانية نقدية” حاجة تطهيرية، لمواجهة النزعات التدميرية، تلك التي ترتبط بمفهوم الهيمنة الذي تتبناه دائما “الهوية القاتلة” بسبب “هزيمة العقل الوطني، بعد تحلل الدولة الوطنية الهشة في العالم العربي”.
يختتم محمد رسول مؤلفه بالبحث في “فيلسوف الغرب الأوروبي”، حيث يستعيد صورة الفيلسوف إيمانويل كانط لتوصيف أنموذجه الفلسفي، إذ يمثل كانط الصورة الأكثر فاعلية للفيلسوف النقدي، الفيلسوف الباحث عن جوهر المعرفة، والأخلاق، والانحياز للفلسفة بوصفها “علم العلاقة بين كل معرفة مع الغايات الجوهرية للعقل البشري”.
إنّ إفراز كانط لصورة الفيلسوف هي المدخل الذي اعتمده المؤلف لتحديد المرجعية النقدية لهذا الفيلسوف، ولإسباغه بالسمات التي تجعله أكثر أهلية لمواجهة أسئلة الوجود، ولشرعنة وجود التنوير كفعالية للفهم ولتجاوز التقصير، ولوجود فيلسوف التنوير النقدي الذي “يتحلى بقيم الشجاعة والحزم والإرادة، والجرأة على التفكير المفتوح بذاته بعيدا عن أي وصاية لأحد”. وفي حديثه عن الفيلسوف نيتشه، يضعنا المؤلف أمام صورة الفيلسوف الذي يرسم موضوع إرادة القوة، بوصفها خط المواجهة مع الميتافيزيقيا، ومع العدم، والانحياز إلى “نقد أصحاب الأنظمة الفلسفية الكبرى أو الشمولية، خصوصا المثالية منها”.
ولفيلسوف الكينونة مارتن هيدغر، كذلك، حيزٌ في التوصيف الفلسفي، فهو أنموذج إشكالي، له القدرة على صناعة الأسئلة التي تخص الوجود والمعنى والذات، إذ “بدت الفلسفة عنده طريقة لتبيين الوجود المختبئ والمتواري والمنسي، ذلك الوجود الذي لم ترع الميتافيزيقيا الهرمة حرمته”.
846 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع