يظل اسم نجيب محفوظ محل اهتمام كبير، كلما ذكر، هذا العلم الذي أثار الكثير من الجدل في عصره ومازال يسيل الحبر إلى يوم الناس هذا. محفوظ الذي أخذ قراءه إلى تفاصيل الحارة المصرية، ونقل واقع أجيال من المصريين وحياتهم، وعاش معهم انتظاراتهم وانكساراتهم وقاسمهم أحلامهم وشاركهم لحظات فرحهم. هذا الرجل استطاع أن يظل في الذاكرة، بل ومازال العديد من النقاد يكتبون عنه وعن سيرته وتجربته الأدبية الفريدة من نوعها.
العرب محمد الحمامصي:يبدأ الناقد أحمد مصطفى علي كتابه “محفوظ وأحلامه التي لا تنتهي.. مقاربة نقدية لأحلام فترة النقاهة”، والذي يتناول فيه العمل الأخير للمبدع نجيب محفوظ “أحلام فترة النقاهة” بطرح العديد من التساؤلات الكاشفة حول عمل الروائي الكبير: ما تصنيف الأحلام؟ وهل يمكن اعتبارها جنسا جديدا من الأدب يطرح قضاياه في شكل غير محدود وهو الحلم؟ ومن ثمة ماذا يريد محفوظ أن يخبرنا بكلمة أحلام؟ أوليس هو ذاته من سخر من قبل من الواقع، إن جاز لنا التعبير، وقال في ذلك قولته الشهيرة “أي واقع.. هو فيه واقع؟”، وهل هي (الأحلام) حلم الواقع أم الحلم اللازم للواقع، أم الواقع الحلم؟
ثم ماذا يقصد بفترة النقاهة تلك التي يريد أن يخبرنا عنها محفوظ؟ ولماذا ترك العنوان هكذا غير محدود؟ فهل كان يعلم أنه سيطل علينا من وراء المجهول ليحدثنا ونحن في العام 2017 ويخبرنا بما نحن مازلنا في حاجة إليه بعد سنوات من ضجيج الثورة والثورة المضادة، بل ومازلنا نحلم به ولا نجده أو مازلنا واقفين على عتبته من أحلام لم نشرع في نقلها لشريعة الواقع.
كتابة الأحلام
يتضمن الكتاب، الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب، بالإضافة إلى مقدمة المؤلف، تقديما للكاتب الروائي يوسف القعيد، تحت عنوان “مصافحة أولى”، أعرب فيها عن أهمية الدراسة، ساردا بعض ذكرياته الشخصية مع محفوظ وكتابته للأحلام، ومفصحا أيضا عن بعض المعلومات المجهولة حول كتاباته الأولى والثانية للأحلام، وقال “ما أكثر الكتب التي صدرت عن محفوظ، سواء قبل نوبل أو بعدها، إما في حياته وإما بعد رحيله عن الدنيا، ولكن هذا الكتاب فريد في موضوعه، نادر في قضيته، لأن الأحلام لا تشكل الوجه الآخر للواقع، لكنها أمنيات الحياة اليومية التي لم نحققها، تتسلل عبر اللاوعي وتخرج على شكل أحلام أو ربما كوابيس، وحتى الكوابيس لها وجود في أعمال محفوظ الروائية، ويقدمها باعتبارها الوجه الآخر للأحلام”.
يقع الكتاب في فصلين، الأول بعنوان “نظرة شاملة لأحلام النقاهة” ويشتمل على توضيح الكاتب لتصنيف العمل وظروف كتابته، إلى جانب استعراض عنوان العمل وما يحمله من دلالات، ثم الأسلوب المتبع في كتابة الأحلام والألفاظ المستخدمة، وصولا إلى مضمون نصوص الأحلام وتفسيرها أو ما تضمنته من موضوعات وقضايا. بينما يأتي الثاني تحت عنوان “قراءة بين نصية للأحلام” ويستعرض خلاله الكاتب 146 حلما، يعمد خلالها إلى عرض وجهة نظره النقدية لكل حلم على حدة، إلى جانب عرض وجهات نظر نقاد آخرين في بعض الأحيان، ويقول في تبرير ذلك، إن بعض النصوص الثرية تتطلب تعدد الرؤى، أو تحمل المؤلف على شوق معرفة قراءات مغايرة أو مختلفة.
يقول أحمد مصطفى علي “لكي نصل إلى تحقيق السر لا يوجد مفر من الإبحار الجيد في الأحلام المحفوظية لنا وفينا، إذ الحلم الجيد والمحكم والواعي هو السبيل للإرادة الناجزة والفاعلة والقادرة على المستحيل، لذا لا يوجد مفر من الرجوع إلى الأحلام النبيلة، وفي عملنا هذا الكثير منها، إذ هو ليس عملا أدبيا بديعا فحسب وإنما أيضا تجربة جديدة في التراث الإنساني بما لها من أسلوب ونهج تختلف عن أي أسلوب، بل وقراءة نقدية للواقع عبر ما يمكننا أن نقول فيه إنه تحقيق دقيق لرسالة الأدب للحياة، وليس الأدب للأدب كما يرى آخرون. إذ وفي هذه الرسالة التي ينطلق منها الأديب المخلص لقضايا وطنه، يستتبع أمره التجديد والتشويق والجذب لقارئ العصر وأي عصر، ومن هنا خلق إبداع التجديد، ولهذه الطلاقة غير المحدودة لكلمة إبداع كان مفهوم الإبداع الذي لا يعرف النضوب أو التحديد”.
روح الفيلسوف
يرى أحمد مصطفى علي أن محفوظ أديب يحمل روح الفيلسوف لما وراء الأشياء، وفي ذات الوقت عقل الناقد الواعي الذي يزن الأمور بميزان الذهب، لذا كانت له البراعة الخاصة في استخدام عالم الرموز بالشكل الذي يثير الإعجاب والامتنان معا، فهو عاشق لتلك اللذة التي تتكشف للقارئ العميق بل وتستلزم على القارئ السطحي أن يلتزم العمق حينما يقترب منها، فعليه حينها أن يعرف أنه يدنو من بلاط قصر أحد أهم ملوك وسلاطين الأدب في العصر الحديث، وهو أمر يستوجب بطبيعة الحال التأمل والتفكير ليحصد في نهاية المطاف رحيقه الراقي الخالص، ويستطيع حينها أن ينظر للعالم ومكوناته جميعها بشكل أكثر عمقا وتناغما، إنه الأدب المحفوظي ذو السمت الخاص والمميز للغاية والذي كتب له وبه الخلود، وهو الأدب الثائر أيضا والرافض للجمود.
ويلفت المؤلف إلى أن أحلام “محفوظ هي الأحلام والواقع في غموض وفلسفة الراهب محفوظ الخالدة”، وإن خرجنا عن مدلولها الاجتماعي نجد الفلسفي يحاصرنا، إذ نحن نعيش الحلم الذي ينتهي بالموت وقد ينتهي بالاستيقاظ من النوم، إنها ذات الجدلية الأزلية الشديدة التعقيد والحضور بين الحلم والواقع، وفي ذلك أحلام الجنين في بطن أمه، وأحلام الرضيع والطفل التي عجز العلم الحديث حتى الآن على معرفة ماهيتها أو تفسيرها وتوضيح مدخلاتها، فيا ترى بماذا يحلم أيضا هذا الرضيع وهو لم يعرف شيئا بعد عن هذا الكون ومشكلاته؟ وهل يكون للأحلام ارتباط بالوجود ومن ثم علاقة بالعدم؟ بل وحتى الفناء وتطور واقع البشر كان رهين الأحلام التي قضت على أصعب الأوبئة واخترعت أعظم وسائل النقل وأفضل طرق الحماية من الكوارث الطبيعية المهلكة، وفي ذلك ما كان من أحلام الطيران التي قفز بها عباس ابن فرناس إلى أن سطعت حقيقة باختراع الطائرة الحديثة، وهكذا كانت كل أحلام البشر أو الأفراد ممكنة الحدوث بالمزيد من العزم والإرادة”.
ويضيف “مع ذلك تبقى الأحلام الإنسانية هي الأصعب والأكثر ثراء، فالغرس الثقافي وإنماؤه أمران بالغا التعقيد والصعوبة، والحلم فيهما مشروع الأدباء لإيقاظ ضمير المجتمع والسلطة نحو مهامها المقدسة، وفي ذات الوقت إنشاء أجيال جديدة على معان أكثر نقاء وجمال وبهاء لأجل إشعال الضوء المراد والذي يستحال دون تهذيب النفس وترقيتها في محراب صوفي سام ونبيل يجعلها تصبو نحو الوحدة والتسامح والإيثار ومن ثم كل الأعمال العظيمة والخالدة حينذاك ممكنة. وهكذا الأحلام غايتنا وغاية الإبداع تنفيذ الأحلام الهادفة لخير الحياة واستقامتها، وهي غاية البشر وغايتهم السعيدة بل وقد تستحال دونها".
633 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع