عناد غزوان ذكرى البلاغة الساحرة
بقلم/ عباس العلوي
العراق بلد الطاقات المذهلة / وممّا تتمّيز به الطاقة العراقية ليس اصالة ما ابدعت بل اضافة الى ذلك اصالة الانتماء الى الوطن / وهل ننسى ذلك العشق الروحي الذي ابتلى به العلامة مصطفى جواد لبغداد ؟ / وهل يمكن ان ننسى هيام الشاعر مصطفى جمال الدين بمسقط راسه (سوق الشيوخ ) ؟ وهل ننسى ذلك التعلق الوجداني لمحمد باقر الصدر بالنجف الاشرف ؟ او ابن الرافدين < قارىء الطين > العلامة الكبير طه باقر الذي سهر الليالي ليبرهن للعالم كله ان العراق مهد الحضارات ؟ ...
ابن الديوانية سليل الحضارات / كان قد تشبع حبا ببلاد سومر واكد وبابل / هذا الرجل المتميز بقامته المعتدلة الشماء / المتفرد بصوته الجهوري الناشد / الطليق اللسان عذوبة وسلاسة وحلاوة حينما ينشد الشعر العربي الفصيح المنغمس بانغام المعلقات السبع / هذا الشاعر الاديب العاشق لوطنه ، كان بامكانه ان يلبث في بريطانيا وقد وهبته احدى جامعاتها لقب الدكتوراه / وكم كانت هي بحاجة الى مثل عناد الذي توغل بعيدا في سبر العاطفة العربية من خلال قراءته الواعية المستنيرة للشعر الجاهلي ؟
الدكتور عناد غزوان اسماعيل < 1934 ـ 2004 > استاذ متمرس ومربي قدير قلما يجود الزمن بمثله / اديب كبير وشاعر مفلق وباحث موسوعي / من ابرز النقاد العرب وأحد مؤسسي النقد العربي الحديث في العراق / مترجم ذو طرز فريد اخرج هذا الفن من اطاره التقليدي وجعله همزة الوصل الفاعلة بين الادبين العربي والغربي وله في ذلك مؤلفات رائعة / عَلَم من اعلام الثقافة العراقية سجّل بصماته المؤثرة في كل مرافقها / رجل متعدد الابعاد / خصب الارجاء / واسع الآفاق / عميق المدى / تفخر لغة الضاد بعطائه الثر بأكثر من 25 كتابا تأليفا وترجمة / تتلمذ على يد كبار عمالقة العراق في الادب / كالدكتور مصطفى جواد والدكتور محمد مهدي البصير والدكتور عبد الرزاق محي الدين والدكتور صفاء خلوصي والدكتورعلي الهاشمي والدكتور علي جواد الطاهر وآخرين / تخرج على يديه المئات من الاساتذة والادباء والباحثين / اشرف صاحب المدرسة الفريدة في < السهل الممتنع > على العشرات من الرسائل الجامعية المتميّزة لطلبة الماجستير والدكتوراه / حرص ان يتعلم تلميذه كل شيىء ليبرع في كل شيىء / لايستطيع أحدُ بلوغ ابعاد موهبته كان [ كالبحر الدرّ في احشائه كامن ] !
في قاعة الدرس تتراقص حروف اللغة العربية بين شفتيه لتدخل القلوب دون استئذان / استرساله في الحديث يشبه النوته الموسيقية التي يعزفها بتهوفن / يشد فيه الاسماع ويصرف اليه العقول / جمع بين جنبيه فصل الخطاب وجوامع الكَلم / حباه الله بصوت جهوري وابتسامة جميلة ولباقة نادرة / أثار اعجاب كل من التقاه بكرم أخلاقه الطيبة / كاريزما رائعة مقرونة بهيبة ووقار اجبرت خصومه وحسّاده على احترامه / علمه الغزير زاد من تواضعه الجم / بقدر ماهو جاد وجريىء تراه ظريفاً ساخرا يرسم على محيّاك ابتسامة مشرقه/ ثقته بالنفس عالية / طود أشم لا يعرف الأسفاف والتملق أوالتزلف < لطرف ما > رغم المحن وطرائق الزمن / نجم ساطع ازدانت به المناصب الادارية وآخرها رئاسة اتحاد الادباء العراقي دون ان يطرق بابها او يسأل عنها / احبّ ابن الديوانية العراق وعشق ترابه وودع الحياة فيه !
يتحدث البرفسور عبد الاله الصائغ احد ابرز تلامذة الاستاذ الراحل بتركيز رائع :
[ لقد كان أستاذنا الكبير من (السهل الممتنع) وكان مثله وعلمه ومعرفته واللغة التي يؤدي بها عنهما / كنا نجلس بين يديه نتعلم منه العلم والمعرفة / كان يشد الأسماع ويصرف إليه العقول / وعندما نحضر له مناقشة لأحد طلبة الدراسات العليا كان سيد الجلسة / صوته الجميل ولباقته واسترساله وحسن إلقائه ودقة ملاحظاتها وعمقها تنسينا الوقت ونتمنى لو أكمل هو وحده دون الآخرين / كان يحاضر بلباقة ويجوب بنا التاريخ الأدبي القديم والحديث/ يقدم لنا بلغة الخيال علوم الأولين والآخرين / ويطرق أبوابها جميعاً وينتقل بنا بين فنونها من الشعر إلى القصة إلى النقد الأدبي والأدب المقارن وتاريخ الأدب بكل مراحله / يطل على الأدب العالمي بلغته وينقل لنا منه منتخبات تدل على رقي معرفته وعمق علمه حتى يخيل إلينا انه متمكن من كل شيء ويمتلك كل شيء / كان يقدم لنا كل هذا بسهولة ويسر / وهذا من كرم النفس وكرم العلماء وتواضع الكبار من الرجال ! ] انتهى
اما الاستاذ غالب الشابندر فقد تناول الفكر النقدي لدى الراحل الكبير قائلا :
[عناد غزوان كان من الشعر والى الشعر ،كان من الادب والى الادب ،ولذلك كان تقييمه لكل شي ....الوجود....الغياب ....الحضور...النكتة.... الموت ... الحياة ... كان تقييمه وتفسيره لهذه المقتربات شعرا ... أدبا .... نقدا / هاجسه الاول هو النقد ،وقد كتب فيه كثيرا / والمطلوب من رواد الادب العربي خاصة العراقيين ان يقرأوا ويتدارسوا هذه المادة الغزوانية لاستدلال القواعد الفنية والنقدية التي كان يمارسها الراحل لعلها تضيف منهجا آخر الى عالم النقد الادبي الجديد ]
قرأت الكثير عمّا كتب عن الراحل الكبير < بعد رحيله > / لم اجد للأسف احدا من الاساتذه / يتحدث عن عبقرية متميّزة تفرد بها الراحل في سبر غور نفس تلميذه بطريقة فذّه دون ان تشكل حرجا لمن يعنيه الامر / كان يمتلك فراسة غير معهودة في < علم النفس التربوي > بدرجة تمكنه من استنطاق المتلقي بما يدور في خلجات نفسه وعقله من رفض او قبول خلال التعامل في قاعة الدرس / خذ مثلا :
حينما يستعرض الاستاذ بعضا من آرائه النقدية المتطورة في عنوان من العناوين / كانت < بلا شك > في وقتها جديدة علينا وحتى على اهل الاختصاص / يسترسل بالحديث مشفوعا بكافة الشواهد المتعارف عليها في اللغة والادب المقارن والنص القرآني وهو يتطلع في الوجوه بأبتسامته المعروفه وكأنه يقرأ فينا درجة الفهم كما يقرأ الطبيب نبض المريض / حينما ينتهي يسأل : اعزائي هل استوعبتم ماذكرت ؟ يسكت الجميع من باب < السكوت من الرضا > ومن واقع فراسته التربوية يُدرك ان البعض مازال بعيدا عن الاستيعاب / يمتلكه الخجل / لايستطيع القول : لم افهم / عندها يبادر الراحل فورا ومن تلقاء نفسه قائلا : اذا انتم جميعا استوعبتم قولي / تحملوني سأعيد الحديث مرة اخرى لأن في الاعادة افادة !
كانت اصعب المواقف عند الدكتور غزوان حينما يرى احدا من تلامذته اخفق في النجاج او احرز درجة كسيحة / يحس وكأن الدنيا قد ضاقت به دون ان يُشعر الاخرين بذلك / يتحاور مع المذكورعلى انفراد خارج قاعة الدرس / لايوبخه كما يفعل بقية الاساتذه وانما يشد من عزمه بطريقة هادئة مريحة طالبا منه ان يكثر القراءة الخارجية لبعض الكتب المطلوبة ويذكرها له بالآسماء ! / وفي موقف طريف آخر تعلق بالذاكرة :
وردت مفردة الحب والحبيب كثيرا في الشعر العربي < قديما وحديثا > وكان وقتها يقوم بتحليل مُعلقة امرؤ القيس المعروفة ومطلعها :
قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
قبل ان يبدأ / طلب الراحل منا تعريف كلمة < الحب > بعبارة مركزة / اخذ كل واحد منا يدلي بدلوه / والحق يُقال فشلنا جميعا في اصابة التعريف الصحيح / اكتشف الاستاذ فينا ودون ان نشعر مقدار مانحمله من ثقافة عامة عاجزة عن تعريف مفردة نرددها كل يوم عشرات المرّات / سمعنا بعض الآراء المضحكة / احدهم قال < والله انا لااعرف من الحب غير البنت الحلوة اللي شالعة قلبي / اكثر من سنة اطارد وراها لازم أهلها يوافقون على زواجي منها > اجابه الاستاذ واذا لم يوافقوا ؟ قال : اقرأ عليهم قصيدة < قفا نبكي > !
*****
التقيت بالاستاذ الراحل لأول مرة في عام 1969 عند التحاقي في كلية اصول الدين في بغداد وقد اخترت هذه الكلية دون غيرها كونها تملك كوكبة من خيرة اساتذة جامعة بغداد في اللغة والادب والتاريخ / كالدكتور مهدي المخزومي والدكتور ابراهيم الوائلي والدكتور جواد علوش والدكتور عبد الله الفياض والدكتور حسين علي محفوظ والدكتور عبد الباقي الشواي والدكتور باقر عبد الغني عميد كلية اللغات اضافة الى الدكتور غزوان وآخرين / جميعهم اصبحوا الآن في ذمّة الله
وأنا في ذروة الشباب ذلك الوقت كنت خزينا للشعر ومتابع جيد لكل نتاجات الادباء الكبار< قديما وحديثا > وما كان ينقصني هو علم البلاغة وما يتفرع منه / فكثيرا ماكنت اتعثر في فهم خطب الامام علي ع عندما اقرأها في كتاب أبن ابي الحديد المعتزلي [ شرح نهج البلاغة ]
شاء القدر ان اجد ضالتي المفقودة في استاذ قدير تنطلق من لسانه حروف الكلم البليغ كالماء العذب الزلال / زدت تعلقا بمحاضراته اكثر فأكثر / حرصت على متابعة ملاحظاته النقدية / بمرور الوقت خلق عندي مَلَكة معرفية جديدة جعلتني اطرح عليه اسئلة مبتكرة بشواهد ادبية ذات علاقة بمحور العنوان الذي يطرقه / دائما ما كان يأنس لها معتبرأ ان حصاده قد اثمر / خلال سنوات الدراسة الجميلة انعقدت بيني وبين استاذي علاقة روحية قوية اعجز عن وصفها / ومن باب المحبّة كثيرا ما كان يناديني بأسم الدلع < عبوسي > / أقسى مامرّ عليّ كان في يوم تخرجي من الكلية إذ لم يكن بوسعي بعد الآن ان التقي به كل يوم كما اعتدت عليه سابقا
دخلت عليه في مكتبه لغرض توديعه وكان وقتها عميدا للكلية / التقاني لقاءاً حاراً ومن حيث لاأشعر انهالت دموعي بغزارة / تأثر ابو معتز بهذا المشهد الدرامي وأخذ يُهدّء من روعي ويقوّي من ازري ويتفاءل بمستقبلي / قال اجلس عزيزي هنا جنبي لأكتب لك هذه الشهادة التقديرية :
بغداد 2 / 7 / 1973
تلميذي العزيز عباس احمد العلوي
لك من استاذك اطيب التحيّات والامنيات بمناسبة نجاحك الميمون .. ان اروع شيىء في حياة المرء ذكرياته لأنها سجل حياته الحافل يعود اليه في كل حين ليرى فيه نفسه .. ذاته بعد عناء الأيام ان التلميذ النجيب الوفي المخلص في عمله صورة رائعة وفريدة لأستاذه ..حيّاك الله وسدّد خطاك ورعاك طالباً وفيّاً وانساناً نبيلاً جديراً بالتقدير والذكرى .
استاذك
عناد غزوان اسماعيل
سيدي الاستاذ الكريم
سأبقى مدينا لك مدى الحياة بما أفضت عليّ من عطائك الثر / صنعت مني انسانا محبّا لتراثه / فتحت لي سماء اللغة والادب والبلاغة و صرت اسبح طليقا في فضائها / علمتني قواعد البحث العلمي / علمتني ان اكون صبورا حينما تشتد عليّ طوارق الزمن / خلقك الكريم رسم لي منهجا في الحياة / اراك ياسيدي شاخصا امامي في كل كلام بليغ اسمعه او أقرأه / ذكراك لم تفارق مخيلتي مهما تقدم بي الزمن / تركت لنا ارثاً طيبا نغترف منه مادام فينا عرق ينبض / رحمك الله يا أبا معتز وأسأل العلي القدير ان يٌكرم مثواك في دار القرار .
عباس العلوي
السويد في 5 / 9 / 2016
655 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع