«ذاكرة الأندلسيّين» تبحث في موروث العرب وحقوقهم في إسبانيا في ندوة ضمت بحوثا لخبراء عرب واجانب
مدريد ـ «القدس العربي» من محمّد محمّد الخطّابي: نظمّت «مؤسّسة ذاكرة الأندلسيين» في الرباط ندوة بعنوان «القضيّة الموريسكية في ضوء التشريع الإسباني ومنظومة حقوق الإنسان»، بمشاركة نخبة من الباحثين من المغرب، ومصر، وإسبانيا والبرتغال.
وكان البرلمان الإسباني قد صادق بتاريخ 11 حزيران/يونيو 2011 على مشروع القانون المعدّل للفصلين 21 و23 من مدوّنة القانون المدني الإسباني (الحالة المدنية الإسبانية)، بهدف ردّ الاعتبار لذاكرة اليهود الإسبان (السيفارديم) الذين طردوا من إسبانيا ضمن عملية الطرد الجماعية النهائية التي كان قد تعرّض لها الموريسكيون (من مسلمين، ويهود، وبعض النصارى) عندما خشي الحكّام الكاثوليك الإسبان على هؤلاء من التكاثر واستعادة النفوذ. هذا القانون لم يعر أيّ اهتمام أو اعتبار لذاكرة الموريسكيين المسلمين الأندلسيين الذين شملهم هذا الطرد؟ وعلى إثر المصادقة على هذا القانون كانت وسائل الإعلام الدولية والإسبانية والمغربية قد تعرّضت لهذا الموضوع المجحف. وعقدت مؤسّسة «ذاكرة الاندلسيين» العزم على البحث عن العناصر القانونية التي ينبغي أن تعتدّ بها لردّ الاعتبار حيال السلطات الإسبانية لذاكرة هؤلاء. ويشير المشرفون على المؤسّسة أنه بهدف تسليط الأضواء الكاشفة على هذا الموضوع من مختلف جوانبه التاريخية والقانونية، ارتأت تنظيم هذه الندوة العلمية الحقوقية. ويشير القانون الإسباني الجديد المتعلّق بالحالة المدنية إلى تخويله ما يزيد على 4500 من اليهود السيفارديم الحصول على الجنسية الإسبانية حتى الآن في ظروف جدّ ميسّرة.
ومن البحوث والمحاضرات التي تمّت معالجتها خلال الندوة من إسبانيا: «نحو مطبقة قانونية لأعقاب الموريسكيين- الأندلسيين في القانون المدني الإسباني» لأنطونيو مانويل رودريغيس راموس (جامعة قرطبة)، و«الذاكرة التاريخية وطرد الموريسكيين حيال القانون الإسباني والوضع الحالي لمسلمي إسبانيا» لأمبارو سانشيس روسيل، (من مدينة بلنسية) و«المسيحيون الجدد للمنطقة الشرقية لمملكة غرناطة القديمة في القرن السادس عشر» لماريا دولثي أركاس كامبوي، و«الموريسكيون في مفترق الطرق السياسية والعلمية في أوروبا الحديثة وإشكالية استمراية الحياة لدى أقليّة» لمارافيّاس أغيلار، (كلتاهما من جامعة لاغونا تينيريفي الخالدات) و«إستراتيجية لإعادة الاعتبار التاريخي لأعقاب الموريسكيين المطرودين من إسبانيا في القرن السابع عشر» لباربارا رويث بيخارانو. (من جامعة أليكانتي). ومن البرتغال: «الموروس والموريسكيون في البرتغال (في القرنين السابع عشر والثامن عشر)، لأنطونيو خوسّيه دا سيلبا (من جامعة لشبونة الجديدة ). ومن مصر: «صورة الأندلسي في الأدب الإسباني الحديث» لجمال عبد الرحمن. (جامعة الأزهر ـ القاهرة). ومن المغرب: «الموريسكيون ومحاكم التفتيش: تأصيل فقهي» لمحمد رزوق، (كلية الآداب ـ الدار البيضاء) و«الأندلس: مساواة في المعرفة وإشراك في التدبير» لأحمد شحلان، (جامعة محمد الخامس ـ الرباط). و«الروابط الموسيقية كشاهد على مدى التأثير الموريسكي في المجتمع الإسباني « لعبد العزيز بنعبد الجليل، (باحث في علم الموسيقى مكناس) و«إشكاية الاعتراف بحقوق أحفاد السيفارديم المطرودين من الأندلس، الذين أسلموا بعد الطرد» لحمزة الكتابي، (باحث جامعي الرباط) و«قراءة في كتاب رودريغو دي ثاياس» (الموريسكيون وعنصرية الدولة، الظهور والاضطهاد، والترحيل- 1499-1612 ) لكوثر العمري (عن معهد الدراسات الإسبانية- البرتغالية) جامعة محمد الخامس الرباط. و«الفونتي: أسرة موريسكية في الرّيف، الماضي – والحاضر» لعمر ددوح الفونتي، وأخيراً «الإشعاع الحضاري الأندلسي: عقد من جمان يزيّن جيدَ الزّمان» لمحمّد محمّد الخطّابي (سفير سابق، وباحث، وكاتب، ومترجم غرناطة – مدريد). هذه الندوة الدولية أزاحت الستار، وأماطت اللثام عن مظاهر الظلم والإجحاف الذي طال الموريسكيين في الأندلس والذين تعرّضوا لعمليات طرد، وكانت مداخلة الباحث محمّد محمّد الخطّابي (كاتب هذه السّطور) تحت عنوان: «الإشعاع الأندلسي: عقدٌ من جُمان يُرصّع جيدَ الزّمان» قام الكاتب خلالها برحلة عبر ربوع، ومدن، وحواضر تلك الأصقاع الغالية علينا جميعا، النائية عنّا في الزمان والمكان، والقريبة منّا في الذاكرة والعقل والوجدان، وهي أرض الأندلس الفيحاء، رحلة تسلّط الأضواء على بعض المظاهر الحضارية العربية والأمازيغية التي تألقت وازدهرت، وأشعّت على العالم المعروف يومها. ويقوم المحاضر بجولة في أهمّ الحواضر التي عرفت تألّقاً وازدهاراً في الأندلس أيام وجود المسلمين بها، مستشهداً بأقوال بعض المثقفين الإسبان، ومن أمريكا اللاتينية الكبار أمثال أمريكو كاسترو، وبيلاسكو إيبانييس، وغارسيا لوركا، ولوبث بارالت، وخوان غويتيسولو، وأنطونيوغالا، ومانويل دي لا بارّا، وكارلوس فوينتطيس، وأدالبرتو ريوس، وإكرام أنطاكي وسواهم، عن الأوج البعيد الذي أدركته الحضارة الإسلامية في الأندلس، وعن قيمة وأهمية ما ورثه الإسبان عن تلك القرون للوجود الاسلامي في شبه الجزيرة الايبيرية»، وهم يجمعون في هذا الصدد أنه يستحيل فهم الثقافة الاسبانية وهضمها بشكل شامل ودقيق دون إستيعاب التراث الإسلامي، ومعرفة الثقافة الإسلامية، واللغة العربية.
الثقافة الثالثة
ويبيّن المحاضر كيف أن لقاء العالمين الإسباني والسكان الأصليين في القارة البكر ينبغي أن يضاف إليه عنصر ثالث هام وهو الحضارة الإسلامية، أيّ أنّ هذا اللقاء بعد ما أطلق عليه «الإكتشاف» لم يكن بين ثقافتين إثنتين وحسب وهي الإسبانية والهندية الأصلية للهنود، بل ينبغي أن يضاف لها عنصر آخر أسمته الباحثة المكسيكية الرّاحلة إكرام أنطاكي (من أصل سوري) بالثقافة الثالثة، إذ بعد تاريخ 12 إكتوبر 1492 لم تكن الرقعة الجغرافية الإسبانية خالية من العرب والبربر المسلمين، فمنهم من هاجر وفرّ بجلده، وهناك من آثر البقاء متظاهراً بإعتناق الكاثوليكية، والذين نجوا وبقوا سمّوا بالموريسكيين، فقد كان منهم أمهر الصنّاع والمهندسين والعلماء والمعلمين وخبراء الرّي والفلاحة، بل لقد ظلت مسألة تسيير العديد من المرافق الحيوية في البلاد ليس في الأندلس وحسب (جنوب إسبانيا) بل وفى مناطق أخرى من شبه الجزيرة الإيبيرية خاصة في شمالها الشرقي بيد المسلمين. فكيف والحالة هذه ألاّ يحمل الإسبان الذين هاجروا إلى العالم الجديد معهم هذا «التأثير»..؟ بل إنّ هناك من المسلمين المغلوبين على أمرهم من الموريسكيين مَنْ هاجر مع أفواج المهاجرين الإسبان، وإلاّ من أين جاءت هذه الدُّور، والقصور ذات الباحات والنافورات العربية التي بنيت في العديد من مدن أمريكا اللاتينية ..؟ ومن أين هذه الأقبية والأقواس والعقود والشبابيك العربية؟ بل والأبعد من ذلك حتى الكنائس التي كانوا يبنونهاغداة وصولهم كان يظهر فيها الأثر العربي والإسلامي بوضوح، وإستعمل بعضهم الخطّ العربي المحتوي على أشعار وحكم وآيات قرآنية إعتقاداً منهم أنه كان من علامات الزينة في البيوتات الكبرى في إسبانيا.
أدب المنفى داخل الوطن
ويسلط المحاضر الأضواء على الأدب السرّى أو ما كان يُطلق عليه بـ»أدب المنفى داخل الوطن» الذي كان عند هؤلاء الموريسكيين وهو أدب مؤثّر وبليغ يُسمّى باللغة الإسبانية الخاميادة أوالخاميادو أو الخامية بمعنى (العجمية)، وقد أطلق عليه هذا النعت لأنه أدب مكتوب إنطلاقا من اللغة الإسبانية ولكنه يستعمل حروفاً عربية، وكان الإسبان من ناحيتهم يطلقون هذا اللفظ على اللغة القشتالية المحرّفة بمزجها بكلمات عربية، وكان يتكلّم بها عرب إسبانيا في آخر عهدهم بالأندلس، ولمّا خشي الحكّام الكاثوليك على هؤلاء من التكاثر وإستعادة النفوذ قرّر الملك فيليبّي الثاني بعد أن أصدر ظهيراً أو مرسوماً بين 1609-1614 بطرد آخر المسلمين من إسبانيا. ويشير الباحث «لوبث بارالت»: «أنّ هذا القرار الدرامي المجحف الذي إتّخذه فليبي الثاني كان سبباً في إثارة جدل هائج ما زال يُسمع صداه حتّى اليوم». وإذا كان هذا يحدث في القرن السابع عشر (1614) أي 122 سنة من وصول الإسبان إلى «العالم الجديد» (1492) فإنّ ذلك يدلّ الدلالة القاطعة على أنّ إسبانيا عندما «إكتُشِفت» أمريكا كانت لمّا تزل واقعة تحت التأثيرالعربي الإسلامي الموريسكي، وأنّ العادات والتقاليد وفنون المعمار وأسماء الحرف والمهن والصناعات والإبتكارات والآلات البحر ية، والعسكرية والفلاحية وعشرات الآلاف من المسمّيات كانت عربية أو على الأقل من جذر أو أصل أو أثل عربي، وهي التي استعملت في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية وظلّت مستعملة بها ولا تزال إلى يومنا هذا. ويستشهد المحاضر في هذا القبيل بأقوال العديد من المثقفين الإسبان وغير الإسبان الذين يؤكّدون هذه الحقيقة التاريخية التي لا مراء فيها.كما يثبت عدداً هائلاً من الكلمات الإسبانية من أصل عربي وأمازيغي التي إستقدمها الموريسكيون معهم وإستعملوها، وجاءت هذه الحقيقة على لسان أحد جهابذة الإستشراق الإسباني وهو «أمريكو كاسترو». و يتساءل المحاضر في ختام عرضه: بعد كلّ هذا، أيحقّ لنا أن نسمّي الأندلس «بالفردوس المفقود»..؟! ويسارع بالإجابة في نصّ شاعريّ حالم : لقد سمّوه فعلاً فردوساً، ولكنّه ليس مفقوداً كما وُهِمُوا، إنّه هنا حاضر الكيان، قائم الذات، إنّه هنا بسيره وأسواره، وبقاياه وآثاره، وعمرانه، ونفائسه وذخائره، بعاداته وطبائعه، في عوائده وأهوائه، إنّه هنا في البريق المشعّ، في المدائن، والضّيع، والوديان، في اللغة والشّعر، والعلم والأدب، في لهجة القرويّ النائي، والفلاّح المغمور، في الكرم العربي، والإباء الأمازيغي، والحزازات القديمة، التي ما فتئت تفعل في ذويها فعلَ العُجب.
البيان الختاميّ (تصريح قصبة الأندلس)
وتجدر الإشارة إلى أنه قد صدر عن هذه الندوة – بعد إنتهاء أشغالها- بيان ختامي باللغتين العربية والإسبانية يتضمّن جملة توصيات منها: -تأسيس مجمع للتوثيق و الدراسات حول ذاكرة الأندلس، والشتات الموريسكي، للإبراز المعنوي للتراث الثقافي، وللبصمة الموريسكية الأندلسية في الهوية الإسبانية- البرتغالية وفى بلدان البحر الأبيض المتوسّط . –المساواة بين الموريسكيين والسيفاراديم في القانون المدني الإسباني إحتراماً لمقتضيات الدستور الإسباني 1978.-الدّفع لمزيد من الحوار الحضاري لتجنّب الإقصاء، والإقصاء المضاد الذي يعارض المبادئ الديمقراطية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. – تكثيف الجهود لتنظيم ندوات للتعريف بالقضية الموريسكية ثقافياً، وإجتماعياً، وحقوقيّاً على الصعيدين المحلّي والدولي. – دعوة السلطات الإسبانية للإعتراف بالحقوق الموريسكية وإحداث مرصد لذاكرة الاندلسيين في الأوساط التعليمية والثقافية الإسبانية –تكليف مؤسّسة ذاكرة الأندلسيين بالنهوض بترشيح « عقب الموريسكيين الأنلسيين» لجائزة أميرة أستورياس للإتفاق والإنسجام والوفاق. ـ وأخيراً قيام إسبانيا بواجب الذاكرة نحو الموريسكيين، وسنّ قانون لهذه الذاكرة من أجل تفعيل كلّ هذه التوصيات، وإقتراح يوم 9 أبريل من كلّ سنة يوماً وطنياً لذاكرة الموريسكيّين.
416 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع