العالم/د. زهير الخويلدي:" لاعلاقة بين السياسة والأخلاق.. لا أهتم بأمر الواقع بل أهتم بتغييره.. تغيير واحد يفتح المجال لتغييرات أخرى"
-نيكولا مكيافيللي-
استهلال:
الفيزياء الرياضية هي مجال بحثي يشترك فيه كل من الرياضيات والفيزياء وذلك حينما يهتمان بتطور المناهج الرياضية الخاصة بالمشاكل الفيزيائية وبصورة أدق بتطبيقات الرياضيات على الفيزياء وبطور الرياضيات حينما تقوم بمعالجة العديد من المجالات البحثية داخل الفيزياء.
تستخدم الرياضيات في الفيزياء باعتبارها لغة قادرة على التعبير عن القوانين والظواهر الطبيعية بشكل واضح ومفهوم ولقد تشكلت الفيزياء الرياضية بهذا الاستخدام. ويدل ذلك على أن المعادلات الرياضية تمثل في علم الفيزياء وسيلة منهجية أساسية قصد تفسير مواطن الغموض في الكون ونمذجة جملة الملاحظات في دوال مبنية وصياغتها في نظريات شاملة وإيجاد حلول حسابية للمشاكل العلمية الطارئة ووضع التوقعات التي تخص الظواهر المستقبلية المختلفة.
على هذا النحو توجد العديد من المناهج الرياضية قيد التطبيق في الفيزياء سواء من جهة النموذج الفرضي الاستنباطي أو من جهة النموذج الاستقرائي التجريبي وكذلك المعالجة الهندسية للطبيعة.
أما الواقعية السياسية فهي الموقف الذي يعد البراغماتية أو الذرائعية هي الأسلوب الذي يتبع في العمل السياسي للناشطين أو المنهج المعتمد من قبل الحاكمين من أجل تحقيق المصلحة والنجاعة.
لقد حرصت الواقعية السياسية على الفصل بين السياسة والدين والأخلاق وعلى استخدام العلوم وعلى معاملة الأفراد في ظل غياب حكومة عليا بوصفهم مستقلين ذاتيا وأسيادا لذواتهم بصورة تامة وتمنح الدولة القدرة اللازمة لتدبير شؤون المجتمع ولكي يتم فرض هيبة السلطة واحترام القوانين.
كما أن السيادة التي تتمتع بها الدولة تعطيها الحق في الاستعمال الشرعي للقوة على إقليمها. غير أن الواقعية السياسية تحمل نظرة تشاؤمية للعلاقات بين الدول وتشرعن جنوح البعض من الأنظمة إلى الحروب من أجل تصدير أزماتها الاقتصادية وحل مشاكلها السياسية.
يمثل هذا الاتجاه السياسي كل من المؤرخ الإغريقي توسيديد (460 -400 قبل الميلاد) ونيكولا ميكيافيلي (1469-1527 )وتوماس هوبز (1588-1679) وهانز مورجنتو (1904-1980).
1 - الأمير الحديث عند نيكولا مكيافيللي:
"من يريد أن يطاع فعليه أن يعرف كيف يأمر"
لقد أعلن مكيافيللي عن أزمة الوعي الديني بسبب تدهور دور اللاهوت كعامل تاريخي وتحول الدولة إلى عمل وكيان اصطناعي يقوم البشر أنفسهم بوضعه للتخلص من الخضوع لسيطرة الكنيسة ورجال الدين. لقد بدأت السياسة تنفصل عن الأخلاقية الدينية وسعت إلى تمثل الوعي العاري بالواقع. هكذا مثلت المكيافيللية هي محاولة مهمة لتقليص الزيف الإيديولوجي والأخلاقي عند وصفها للواقع السياسي.
لقد اتجهت الواقعية السياسية التي تستخدم الفيزياء الرياضية نحو البحث عن التطابق مع واقع متحرك لا يتورع عن إخفاء ذاته والتستر والمراوغة. بناءً على ذلك ظهرت أخلاقية سياسية جديدة تقوم على الكذب، الاحتيال، عدم خيانة العهود. لقد "أعطي مكيافيللي لمعاصريه وصفة التأويل الواقعي للواقعية السياسية" على حد عبارة أرنست بلوخ في كتابه "فلسفة عصر النهضة". لقد قام بترك "ما الذي يجب أن يكون" من جهة حكم القيمة وفي المقابل ركز اهتمامه على "ما هو كائن" من جهة حكم الواقع.
لقد وصف مكيافيللي الوقائع السياسية كما هي بادية للنظر في الحياة المحسوسة ولم يرغب في إعطاء توجهات أخلاقية ووعظ ونصح وإرشاد بشأن ما يجب أن تكون عليه سياسة الدولة في حكم الشعب بل ركز انتباهه على الخلاف من ذلك في اتجاه إظهار ما هو موجود وبدا عمله جديدا بالمقارنة مع الفكر السياسي التقليدي الذي أغرق في النزعة المثالية والنظرة اليوتوبية الحالمة والبعيدة عن الواقع العيني.
على هذا الأساس إن مهنة الدولة هي "عمل غير رحوم وغير أخلاقي". لقد بين مكيافيللي أن الصدق في السياسة ليس لذاته أي الوفاء المطلق للمنطق الأخلاقي بل لتقوية الدولة وبالتالي كرّس انفصال المنطق السياسي عن المنطق الأخلاقي. بهذا المعنى تكون دولة مكيافيللي هي ولادة القيم بذاتها. بهذا المعنى يتحدد المعيار بمنطق الدولة لا بمنطق الدين أو الفرد. على هذا النحو تشكل السياسة معركة متواصلة وصراعا مستمرا من أجل الاستيلاء على السلطة والمحافظة عليها. في نفس الاتجاه وفي فترة معاصرة يبيّن غرامشي أن الأمير عند مكيافيللي هو الأمير الواقعي الذي يمثل إرادة جماعية بحيث يمثل هدفا سياسيا محددا وإرادة سياسية تتجسد فيها آمال الشعب صعود الإنسان للحلول محل الله هو صعود قوة.
لقد أسس مكيافيللي تصوره للسياسة على ما يمكن تسميته الحقيقة الفعلية للأشياء الملموسة، أي على الطابع الواقعي للسياسة وليس على البعد الخيالي الذي ظل سابقوه يتخبطون في دائرته دون أن يبرحوه.
لقد أسس مكيافيللي الواقعية السياسية وجعل من الرغبة في الفعل وفق النجاعة المطلوبة الغرض الأبرز الذي يتحرك ضمنه نشاط الأمير على مستوى استعمال القوة والحيلة والقيام بالتدابير وإصدار القرارات.
إن الحاكم غير الناجع لا يستطيع أن يمسك بالسلطة ولا أن يحافظ عليها ولا يفيد شعبه في شيء وقد يخسر نفوذه من طرف سلط أخرى سواء داخلية أو خارجية ويذهب حكمه لسوء إدارته لشؤون دولته.
لقد جعل مكيافيللي من استعمال القوة قانونا أولا في السياسة وأظهر الفارق بين الأفكار والوقائع ونفى بشكل قاطع الاقتصار على توجيه الكلمات للدفاع على الدول وأكد أن سلامة الدولة هي الفضيلة السياسية الأولى وضمان الحياة والمحافظة على البقاء وتحقيق الازدهار والاستمرارية للجسم السياسي.
لقد كانت مهمة الأمير السياسي هي تربية المواطنين على احترام القوانين والخدمة للصالح العام وتعليم الأجيال المقبلة بأن الشأن السياسي من صنع ذاتهم وليس ضرورة تخضع لتقلبات الدهر وحتمية الأقدار.
لقد بذل مكيافيللي مجهودات لتطهير مفهوم السلطة من الرواسب اللاهوتية وحاول تفكيك الحكم الفردي الذي يستند إلى مبدأ الحق الإلهي، وبين أن الأمير لا يستمد مشروعيته ولا يحافظ على موقعه إلا بالمقدرة والكفاءة والأداء وذلك باستعمال الأدوات الناجعة والوسائل الضرورية لتحقيق سياسة ناجحة ومزدهرة.
المطلوب من الأمير أن يبذل كل ما يقدر عليه من جهود من أجل الوصول إلى السلطة والمحافظة عليها وأن يتبع لذلك منهجا واقعيا ويبتعد عن خيالات الأحلام والمثل المطلقة والغايات النهائية ومنطق النوايا.
لقد اعتبر مكيافيللي المؤسس الفعلي للواقعية السياسية بالنظر إلى تبنيه مسألة الحركة والعمل بغية الفعل في الواقع وبلوغ النجاحات والتغلب على المشكلات وتخطي الصعوبات وتخليص المجتمع من الآفات.
لقد تضمن كتاب الأمير تناولا إشكاليا للمسائل التي تطرحها قضية السلطة وبالخصوص من جهة الواقعة والحقيقة والإمكانية وكذلك من جهة الوسائل والغايات بتخطي الأحكام المسبقة والآراء الجاهزة وذلك بالابتعاد عن وجهة نظر المؤرخين والفلاسفة والشعراء عن المثل السياسية والفضائل الأخلاقية. لقد راهن مكيافيللي على الذكاء البشري وقدرته على التحكم والتوجيه في واقع ومصير الدول والشعوب بدل الاعتقاد في تدخل الأمور المفارقة في حركة التاريخ وترك مجرى الأحداث عرضة للصدفة والاتفاق والجواز والحظ ودعا إلى التسلح بالحذر والفطنة والاحتراس والاستعداد لمواجهة المستجدات.
لقد صاغ مكيافيللي نمطا خاصا بكيفية إدارة الإمارة من جهة الطرق المؤدية للفوز بها ومن جهة شروط المحافظة عليها ولكنه قدم أيضا درسا افتتاحيا في الواقعية السياسية ورأى بأن اللجوء إلى القوة والحيلة هو رغبة طبيعية للإنسان ترنو إلى تحقيق أغراض أخلاقية مثل وحدة الدولة وسعادة الشعب وتطوره.
إن الناس الحائزين على أكبر درجة من القوة والذكاء هم الأقدر على تغيير وجه التاريخ وتطوير دولهم وإذا كان غرضهم خدمة شعوبهم فإنه بإمكانهم استعمال كل الوسائل المتاحة من أجل تحقيق هذه الغاية.
لقد اتصف التفكير السياسي الحديث عند نيكولا مكيافيللي بالعقلانية والواقعية وفتحه دروبا جديدة للناس لكي يفكروا في الأشياء السياسية بعيدا عن الإغراق في الحياة التأملية ودون الإبحار إلى مملكة الغايات، ونظر إلى حياة معلمنة تستمد ديناميكيتها من ذاتها وليس من قيمة أخلاقية أخرى أو حقيقة متعالية عليها.
إن نظرية "عقل الدولة" التي أسسها العلامة نيكولا مكيافيللي ترتكز جوهريا على اعتبار السيادة المطلقة غير المنقسمة وغير المشروطة هي حجر الزاوية التي تتأسس عليها مصلحة الدولة الجمهورية.
628 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع