اطعم كلبك، اطعم روحك

 

             اطعم كلبك، اطعم روحك
بقلم:جين سيفر

           

                ترجمة: نواف شاذل طاقة

                 

من بين جميع المرضى الذين رأيتهم خلال فترة اربعين عاماً من عملي كمحللة نفسية، كان دانيال الاشد غرابة. لقد كان ابعدهم عن البلوغ إلى اعماقه، وأكثرهم معاناة من عذاب داخلي، وأشدهم إثارةً للغضب من بين كل الاشخاص الذين عرفتهم على الاطلاق. ومع ذلك فقد واظب على حضور جلسات العلاج معي طيلة أكثر من عقد من الزمن، حريصا على الاتصال بي هاتفيا كل اسبوع بكل اخلاص - أصرّ على القول بأن عمله منعه من الحضور شخصياً- على الرغم من انه امضى العديد من جلسات العلاج تلك في صمت مطبق او خاطبني وكأني قطعة من جماد. افقدني عقلي، وطاردني كالاشباح وجعلني ادور- ادور في بعض الاحيان في المكان نفسه في جلسة واحدة . كان سبب مجيئه اليّ بمنتهى البساطة؛ لقد اراد "ان يصبح عنصرا فاعلاً في الجنس البشري"، على حد تعبيره، وان يتعلم كيف يتواصل مع الآخرين من بني جنسه. وهكذا، فقد تم استئجاري كي اعلمه كيف يفعل هذه الامور.
كان دانيال قد اختارني لهذه المهمة في بادئ الامر بعد أن قرأ كتاباً كنت قد ألفته بعنوان "مشكلة الاشقاء" الامر الذي ذكّره بطفولته. كان شقيقه الاكبر قد روعه كثيرا خلال ثورات الغضب اليومية التي كانت تنتابه في حينه، بينما  لم يفعل والداه ما يذكر لاحتوائها، حتى وصل الى قناعة مبكرة مفادها ان العلاقات لا يمكن ان تمنح الانسان راحة البال او الرضا، وانها ليست سوى مصدر للانهاك والشقاء.
وبدا لدانيال بان الحاجة الى الآخر او حاجة الآخر لأي شخص أمران محفوفان بالمخاطر.وكان بالكاد يتبادل أية كلمة خلال العمل مع زملائه الذين عرفهم لسنوات، وفي مسكنه، حيث شاطرته الحياة زوجته التي عانت طويلاً على نحو غير طبيعي (ربما كانت تعاني من مشاكلها الخاصة)، كانت الأجواء شبيهة بالدير، حيث لا يتم تبادل الكلمات إلاّ لدى الضرورة.
ونادرا ما تابع تنفيذ اي امر اوصيتُ به مثل: إجراء احاديث مقتضبة مع زوجته بموجب مواعيد، والذهاب الى كافتيريا الشركة، وتدوين ما يدور في خاطره من أفكار على مدونة خاصة، وأن يبعث لي برسائل الكترونية بين جلسات العلاج الاسبوعية. وقد وافق في أغلب الأحيان على محاولة تلبية طلبي، لكنه كان يعثر بعد ذلك على الاعذار او ينسى المهمة.
وبعد تسع سنوات من هذا العلاج، كنت على وشك أن أفقد صوابي. بيدّ أن الأمر الوحيد الذي جعلني اواصل المضي قدما بعد ان فقدت الامل في النفاذ الى أعماق دانيال في اي وقت من الاوقات هو حديثه بين حين وآخر بمشاعر صادقة عن عمق الوحدة التي يعيشها، والرعب الذي سينتابه في حال عدم عثوره ابداً على مخرج لـ "قبوه" الذي شيده للحفاظ على نفسه.
وفي أحد الأيام، خطرت ببالي فكرة. كان ثمة كائن آخر يسكن في داره – أنه جيف – الذي لم أعلم بأمره إلى بعد بضع سنوات من بدء جلسات العلاج مع دانيال، لأن جيف كان جزءا صغيرا جدا وبعيدا عن مشاعره. كان جيف كلباً من سلاسة نادرة تعلقت به زوجة دانيال فيما تجاهله زوجها تماماً، ولم يطعمه أبداً، أو يربت على ظهره، أو يخرج معه للسير.

كانت الفكرة تكمن باستخدام جيف كمساعد طبيب لي لمعاونة دانيال على كسر عزلته. اقترحت على دانيال بأن يتحمل قسطا من مسؤولية رعاية جيف، كاعداد العشاء وتقديمه للكلب يوميا – كانت زوجته من المفترض أن تواصل تحمل عبء مناوبة رعاية الكلب في الصباح عندما يكون دانيال في العمل- وأن يعتني بمشاعره تماما كما يفعل مع نفسه.
الحقيقة، لقد أثارت الفكرة اهتمام دانيال، طالما أنها لم تنطو على أية ممارسة كلامية وأن اللقاءات بينهما لن تستدعي ما تتطلبه اللقاءات البشرية. وهكذا وافق على بذل جهد جدي.
كنت بعد ذلك أساله خلال كل جلسة علاج عن التقدم المحرز حيث كان يجيب بشكل دائم قائلا: "أني أمضي معه بشكل طيب"،غير أن التحقق عن قرب أظهر دائما بأن ثمة ثغرات في تأديته لالتزاماته جرى التسترعليها ليقدم بعد ذلك تبريراته حيالها. وقد يقول "لم أفعل ذلك يوم أمس لأن ثمة برنامجا تلفزيونيا كان يعرض وقت العشاء ولم أرغب أن تفوتني مشاهدته" أو أن يقول "كنت خارج المدينة" أو "ذهبت للجري".
إن المهمة بحد ذاتها، والتي بدت لي في غاية من البساطة – أن تقوم عند حلول وقت الطعام بفتح علبة أكل جاهز، تملأ الصحن، ثم تغسله- اتضح فيما بعد أنها مهمة شاقة لدانيال.  كانت نقطة الخلاف، كما توقعها كلانا، تكمن في المقدرة على تحمل أعباء المسؤولية. لقد تعين على دانيال أن يمنح أموراً – أي التقدير والدعم- لم يمنحها له أحد من قبل على الاطلاق.
على الرغم من ذلك، رفضتُ أن يفلت دانيال من تحمل مسؤوليته. قلت له محذرة "لن تقدر مجرد أن تفترض بأن زوجتك سوف تعوض عن كسلك". ومضيت قائلة له:

"على الرغم من كل شيء، ينبغي اطعام جيف كل ليلة في الموعد المحدد، كما تفعل انت تماما. إنه يعتمد الآن عليك في استمرار حياته – عليك أن تحفظ متطلباته في ذهنك وأن توفرها له". غضب من كلامي لكنه قبله بحسن نية.
بعد ذلك، وفي احد الايام، أبدى دانيال ملاحظة فاجأتني بنفس القدر الذي فاجأته. قال: "سمعت الكلب اليوم وهو يأكل. لاحظت ذلك، واعجبني". كانت تلك المرة الأولى التي استطاع فيها دانيال ان يستذكر شعوره بالمتعة على الاطلاق، وليس بالتهديد، لادراكه أن ثمة آخر بصحبته. بالنسبة لرجل تم "اقحامه على عجل" في كل مناسبة اجتماعية، على حد وصفه، غير قادر على تذوق لذتها، فان تلك التجربة كانت رائعة.
كان جيف أكثر صفحاً مني لحالات الاهمال التي بدت من دانيال. وبينما صار دانيال جديرا بالثقة على نحو أكبر، على الرغم من أنه لم يبلغ مرحلة الكمال، كان، السيد، جيف – الذي لم يناديه دانيال يوما باسمه أبدا- قد بدأ ينتبه إلى وجود صاحبه، وصار يهز ذيله لدى اقتراب دانيال منه. لقد أخبرني ببهجة غير خفية في احدى جلسات العلاج  بأن "الكلب قفز نحوي وانحنى عند قدميّ"، مضيفا "أنه لأمر بديع. لدي تأثير على الآخرين."
كانت هذه المرة الأولى التي احسست فيها بالفرح الكامن في صوت دانيال. لقد كان تعبير الكلب جيف عن الامتنان، والاستجابة، والتقدير قد جعل دانيال يشعر بأن الجهود التي بذلها جديرة بالاهتمام. قلت له "إن اطعامك كلبك بمثابة اطعامك لروحك، واطعام البشرية جمعاء"، فما كان من دانيال إلاّ أن أجاب معيدا صياغة الفكرة ذاتها على نحو مذهل: "لا أُطعَم قط إلا عندما أُطعِم".
في الجلسة التالية، ابلغني دانيال عن حدث مهم آخر. قال "اليوم، نظر الكلب إليّ ونظرت إليه عينا بعين". اقترحت عليه أن يبدأ بمناداة جيف باسمه، لكي يعكس ذلك وجود علاقة مشتركة بينهما.
كانت ثمة مؤشرات لبداية حب حقيقي بين دانيال وجيف. قال لي يوما "افتقد الكلب عندما لا اطعمه. انه في منتهى السعادة عندما يراني. لقد أصبحت جزءاً من حياته. اربت على بطنه واداعب رأسه".
بيدّ أن ثمة حدودا لالتزامات دانيال إذ لم يبدأ حتى الآن باصطحاب جيف معه في السير، على سبيل المثال. لكني تركت الاثنين بمفردهما كي يرتبا هذه المسألة على رسلهما. حاولت أن اكون صبورة مع دانيال بذات الصبر الذي أظهره جيف معه.
أخيراً، في احدى الليالي، وبكل عفوية، حاول دانيال تبديد المخاوف. وقرر أن يخطو خطوة بالاتجاه الصحيح فاستدار نحو زوجته بعد العشاء وقال "أنا وحيد. لم اعاملك أو أفكر بك على نحو جيد طيلة هذه السنين. كنت متخوفا جدا من أن اسمح لنفسي ان تهتم بأي شيء أو أي شخص، لكني أعلم بأنك تهتمين لأمري. أود أن أعوضك عن ذلك".
مدت يدها لتشبك يده.
ثم اصطحبها خارجا للسير سوية.

      

ملاحظة:الكاتبة تعمل كطبيبة (محللة نفسية) في مدينة نيويورك ولها ستة مؤلفات. وقد اجريت  تغييرات على التفاصيل من أجل حماية هوية المريض.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

806 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع