الشعر طريق مؤلم لا شك في ذلك، لكنه يبقى من أكثر التجارب والأفعال الإبداعية التي تختزل الكون في حيز صغير من الكلمات، ثم تقدمه إلى الناس وتحفظه له. ويبقى للشاعر رغم ألم كتابة الشعر، ذاك الألم الأقسى من تحطيم عظام اليد بمطرقة، ألم جميل تماما كألم الولادة، حين تنسى الأم ألمها ما إن تنظر إلى مولودها. عن كتابة الشعر ومخاضات نظمه تواتر الحديث مع الشاعرة اللبنانية فيوليت أبوالجلد، أثناء لقاء جمعها بجريدة “العرب”، التي تنقل ما دار من حديث ضمن الحوار التالي.
العرب آرام:أقل ما يقال عن اللبنانية فيوليت أبوالجلد أنها شاعرة استثنائية بكل المقاييس، شاعرة تخبز الشعر وتوزعه على الأطفال والعشاق والجائعين إلى الحب والحرية، شاعرة لا تعرف أن تتفاصح أو تتثاقف، إنما تترك كلماتها تتسرب كالماء، وتقنع الجميع بضرورة الشعر، كما الضوء والهواء، ومع ذلك كلما تتقدم تنحت في فضائها أفقا آخرا، شكلا ولغة ومجازا وتعبيرا جديدا.
صدرت لها خمس مجموعات شعرية هي “همس ممنوع”، و”بنفسج أخير”، و”صياد النوم”، و”أوان النص أوان الجسد”، و”أرافق المجانين إلى عقولهم”، وفي آخر أعمالها الشعرية الصادر عن دار فضاءات.
أول الشعر
أنا ابنة جونية، رفيقة الأغاني وجارة البحر، ولدت في عائلة تحترم الإنسان ولا تفرق بين رجل وامرأة، لم يكن هنالك يوما شيء ممنوع عليّ سوى ما يمس تقديري لذاتي.
تقول الشاعرة التي تتحدث بكثير من الفقد عن أختها التي فقدتها في الحرب الأهلية اللبنانية، إثر قذيفة وقعت قرب بيتها، تلك الحادثة التي يتضح أن لها بالغ الأثر على شخصيتها، وكانت سببا أساسيا في توجهها نحو عوالمها الداخلية وتعميق علاقتها مع نفسها.
تقول فيوليت أبوالجلد: شاهدتها مع القتلى والجرحى على التلفاز حينها بكيت بحرقة وكتبت يومها أول نص عن الحرب والفقدان، وعن الوحدة التي مازالت بنضارة الفقد الأول وبطراوة تلك الطفلة التي غادرتني باكرا. هكذا إذن مثلما هو الأمر دائما، يعيش الشعر ويتنفس على الفقدان والخسارة.
تقول أبوالجلد “مع الوقت، تتعمق التجربة الشعرية كما الحياتية، كلّ ما حصل صنعني، وأنا أصنع ما سيحصل بالكتابة”. تلك الشاعرة التي تتلذذ بالاكتشاف والتقصي، حسب قولها، رغم فداحة الخذلان ومرارة اللاجدوى في عالم عربي يوشك على الانهيار، ومع ذلك تعتبر ضيفتنا أن الكتابة هي الضوء في آخر النفق، الضوء الذي يؤدّي إلى نفق آخر ثم إلى ضوء آخر.
تقول الشاعرة: أنا أكتب لأني لا أفهم ما يجري ولأن ما يجري لا يفهمني. تعتبر أن القصيدة محرقة، حين تعلن أنها هي وغيرها من رفاق الكلمة وطريق الجمال الوعر، بمثابة وحوش كاسرة تحرس باب المجاز، ولا سيما حين تقول “الشاعر هو الجمرة، والشعر محاولة يائسة لترميم الكون، وهو كل هذا اللاانتماء الوحشي”.
رقص على النار
أما عن تجربتها الشعرية فهي تترك هذه المهمة لغيرها من النقاد والباحثين في تطور الشعر ومستقبل القصيدة للحديث عنها، فهي المأخوذة بالكتابة ولا شيء آخر، إذ تقول “لي هذا الغرق الجميل وهذا الموت الأنيق في آخر كل قصيدة”.
وتتحدث عن إضاءة الناقد عبدالكريم كاظم الذي يبدو أنه أجاد وصف تجربتها وسبر عوالمها الشعرية حين قدّم مقالة نقدية بعنوان “النص الطاعن بلذة المعنى”.
أما عن كتابها الشعري الأخير “أرافق المجانين إلى عقولهم” تقول الشاعرة “كتابي الأخير يضم حبا كبيرا وحزنا أكبر. يتراوح بين الحسية والصوفية كرياح قلقة، وبين المشهدية والتأمل، كنت أنيقة ومترفة بالحزن، عقدت شعري بالندم، وبالهجران ملأت بيتي”.
هي الشاعرة التي لا تعنيها فكرة الأبوة في الشعر ويتوضح ذلك من خلال كلامها حين تشرح: لا أريد أن أقتل الأب ولا أريد أن أحييه، ولا أريد أن أكون أمّا، أنا العشيقة السرية للشعر، أنا مشتهى نصي.
أما عن سجالات الشعر، ونقاشات تطور القصيدة، فلا يبدو أنها مشغولة بمثل هذه الأسئلة التي تشغل بال الكثير من الشعراء، إذ تقول: أنا أرافق المجانين إلى عقولهم وسعيدة بلعبتي، المجانين الذين لا يدخلون في سجالات بل يقتحمون النص ويشكلونه ويشكلون حالة جميلة ينشغل بها من لا يجيدها أو من لا طاقة له على تحمل نهرها المتدفق عكس مجراه، أنا منذورة للغناء وللحب ومنشغلة بالرقص فوق النار لا حولها.
تقول الشاعرة فيوليت أبوالجلد: زمن العظماء قد ولّى ولم يعد الكاتب مؤثرا في الجماعة كما كان سابقا، لأنه ببساطة لم تعد هناك جماعة بل شلل وطوائف وتيارات حزبية وحتى ثقافية مزعومة.
إذن هذا هو الواقع الذي نعيش فيه ببساطة كما يبدو، وتلك هي المنصة التي يتحرك فوقها الشاعر، ويكتب قصائده، ويجابه كل آفات الجمال والحرية.
وتستطرد الشاعرة قائلة: يا لفداحة الواقع، أن يتشبث شاعر بسياسي، أو برجل دين أو بمنصب، يا لحزن الشعر. بعد كل ما يجري يصدمني أن الشعراء مازالوا قادرين على المناقشة والمناورة واتخاذ المواقف مع أو ضد، يصدمني أننا مازلنا أحياء وسط كل هذه القسوة.
عجز ثقافي
كما تعتبر الثقافة أسلوب حياة متكاملا، ليست قراءة الكتب فحسب هي التي تجعل من الفرد مثقفا ولا شهاداته العليا أيضا، فالثقافة بالنسبة إليها انفتاح على كل جديد، هي الوعي الكامل بكل ما يدور حولنا والتفاعل معه. هي تحديدا كيفية هذا التفاعل، فالجمود موت، حسب قولها.
كما تفضح فيوليت أبوالجلد الواقع الذي يعيشه المثقف والإنسان العربي بصورة عامة حين تقول: الأدوار الكبرى اليوم يلعبها الإعلام السياسي، والإعلام التجاري. الأول ليسيطر على العقول والثاني ليسيطرعلى الجيوب، ووسط الاثنين يجد المثقف نفسه عاجزا ومستسلما أو متذمرا على صفحات التواصل الاجتماعي.
أما عن وطنها لبنان فإن الشاعرة تتحدث بمزيج من اليأس والأمل إذ تقول: الجميع مستعد للموت، للأسف، ولا نجد من هو مستعد للحياة كما تليق بنا الحياة؛ الثقافة، السياسة، الاقتصاد.
كل شيء معطل في لبنان سوى قدرة أبنائه الهائلة على التشبث بالحياة، وبالضحك ربما لأننا جميعا أبناء فيروز، ننتظر معها القطار ونشتري منها تذاكر الفرح، هي القائلة “الانتظار خلق المحطة وشوق السفر جاب الترين (أي القطار)”. ها نحن معها نقف على سكة الحديد بانتظار بلد موعود علّه يعود.
727 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع