الخوريات .. قبسات ... وأضاءات ...
ما يميز الخوريات كجنس أدبي قائم بذاته ،عن الشعر التركماني ، هو أحتوائه على الومضة الشعرية التي تمنحها مزيدا من عنصر الجذب والتفاعل من قبل القاريء المتلقي ، الى جانب كونه موروثا شعريا يتميز به التركمان عن باقي الاثنيات والقوميات التي أستوطنت في بلاد الرافدين منذ القدم ،ولا بد من الاشارة الى ان هذا النوع من الأدب منتشر بين الاقوام الناطقة بالتركية في أذربيجان الروسية والايرانية وبمسميات مختلفة ، نظرا لمشتركات عدة بين تلك الاقوام والتركمان العراقيين ..
ولسنا هنا بصدد الحديث عن تاريخ الخوريات وبداياته ومن نظّمه أولا ، ولا عن صيرورته الأدبية النقدية بعين الدارس والناقد الأكاديمي ، وأنما أستبيان مواطن الجمال ، والاشارة الى المكنونات البلاغية والمعانية بين ثناياها ، لعلها تكون حافزا ولو ( بسيطا ) للشعراء الشباب والكتّاب المبتدئين الى المزيد من العناية بالنواحي البلاغية حين كتابة الخوريات ..
وبدءأ نشير الى ان من أهم ما يجذب القاريء الى الأعجاب بالمعنى العام لاي خوريات ، هو مجهولية الناظم أو الشاعر ، فكل الخوريات القديم وأكثرها في الأعم الغالب ، لا يعرف من كتبها ، أو نظّمها ، الأمر الذي يدع المتلقي الى الأحساس بأنه يقرأ نتفا من وراء الغيب ، وحوارا مبهما يتسم بالهيبة من المخاطب المجهول ..
ويبقى الكاتب أو الناظم أو الشاعر هو سيد الموقف بأعتباره جنديا مجهولا قام بعمل خارق و بطولي ، ثم غاب ، دون ان يكشف عن هويته ..!!
لنبحر في عباب الخوريات التالي ، ونغوص في أعماقه ونستخرج بعضا من صدفاته ...
(( سله وين يارا .. كّلسين ... أولدوم أقرارا .. كّلسين
صالاجام .. كّزديريلله ر .... بزه نسين .. سيره .. كّلسين ))..!!!!
الترجمة بتصرف (( قولوا لحبيبتي كي تأتي لأني متت شوقا لمراّها .. فلتتزين وهي تراقب نعشي يطاف به ..))
بدءا نّود القول أن من المحال أن يترجم الشعر بكل محتواه الجمالي ، مهما أوتي المترجم من الملكة والحبكة والدراية ، لأن الشعر هو الشعر بذاته بكل ما يحتويه ويضمه من مكنونات لغوية وجمالية ، وبالتالي فأن من اشق التراجم هو ترجمة النص الشعري ، طال أم .. قصر .. قل أم ..كثر ..
في النص الشعري للخوريات أعلاه .. نستشف ان الشاعر ( العاشق ) نظّم كلامه وهو في الرمق الأخير ، قبل أن يكمل بقية الكلام ( الخوريات ) وهو في حالة موت ...!!
لأن سياق الكلام يدل على ذلك .. فهو يطلق صرخته الأخيرة مخاطبا المجهول بصيغة الجمع (( سله وين )) اي قولوا .. ثم يأتي السطر الثاني من النص وأذا بالشاعر قد فارق الحياة (( اولدوم )) اي " مت"..
أذن البيت الشعري الاول ينقسم كحالة ، الى قسمين .. قسم فيه الشاعر مازال حيّا .. والقسم التالي .. الشاعر او العاشق وقد فارق الحياة ..
والمتلقي القاريء يحس أنه أزاء حالية أنسانية تراجيدية ، مؤلمة ، تتجسد في أن أحدهم يطلق نداء استغاثة سريعة وهو في اللحظات الأخيرة من الحياة ، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ، ويموت ..
ويبقى السؤال المهم ، وهو ما داعي الأستغاثة ، وماهي علة الموت وسببه ؟؟!!
ثم نقرأ بقية النص الشعري بتأن ورّوية ، لنستشف منه ، أن الحبيبة المعنّية بالدعوة الى حضور مراسم الدفن ونقل النعش ، هي السبب في موت الشاعر العاشق .. الذي طال أنتظاره لها ، ولم تأت ، حتى مات الحبيب كمدا وحزنا ..!
ويبدي الشاعر العاشق ( ناظم الخوريات ) اريحية ما بعدها اريحية ، حين يطلب من حبيبته ان تتزين ، وتتحلى ، قبل أن تأتي لحضور نقل نعش الحبيب المقتول .. والمعروف ان من يحضر مراسم الدفن ، يأتي حزينا ، كسيرا ، متالما ، مرتديا زي الحداد والحزن ...!!
لكنّ شاعرنا هنا ، ومن فرط حبه ، يرجو حبيبته كي لا ترتدي السواد ، ولا تحزن ، بل والاكثر من ذلك ، يطلب منها ، أن تأتي متزينة ، ومتحلية ....
والمعلوم ان المتصوفة الاتراك من اتباع مولانا جلال الدين الرومي ، يعتبرون الموت ، هو أنتقال من حالة حزن الى حالة فرح ، ويشبّهون ليلة الموت ، بليلة العرس ، ويطلقون عليها تسمية (( شب عروس )) اي (( ليلة الدخلة )) ..
ويبدو أن شاعرنا هنا قد تأثر بهذا الفكر الذي كان سائدا بين عامة الناس ايامذاك ، لذا فهو يعتبر موته في سبيل حبيبته ، حالة من الأنتقال الجسدي والروحي معا ، من عالم الحزن والكمد والقهر المتمثل بالدنيا ، الى عالم ارحب ، وأوسع ، وأسعد .. حيث تلتقي هناك ارواح المحبين مع بعضها ، دون رقيب ، أو مانع .....
والى قبسات واضاءات أخرى ....
910 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع