جمعية المترجمين العراقيين تكرم الدكتور هاشم عبود الموسوي وتمنحه درع الرواد في الترجمة لعام /2014
لقد تم في الساعة العاشرة من صباح السبت الموافق 27/12/2014 بنادي العلوية في بغداد إنعقاد حفل تكريم رواد الترجمة والمبدعين ، والذي نظمته جمعية المترجمين العراقيين وحضره عدد غفير من المترجمين والمبدعين في شتى صنوف الثقافة ، وقد تم تكريم أعمدة الترجمة العراقية ممن غادروا بأحسادهم وبقوا خالدين بإبداعهم، وكذلك النخبة المتبقية على قيد الحياة
وكان من بين المكرمين د.هاشم عبود الموسوي،أحد المشاركين الأوائل في تأسيس الجمعية في بداية سبعينات القرن الماضي
وبهذه المناسبة زودنا بالخاطرة التالية ...
المصادفةُ التي منحتني مسرةً لا تنسى
د.. هاشم عبود الموسوي
هل يُمكن لأحدٍ أن يُصدّق بأن البامياء يُمكن لها أن تصنع مترجماً من الدرجة الأولى؟ هذا السؤال الغريب سينكشف سرّه عندما أتحدث إليكم عن هذه المفارقة التي عشتها وتعايشتُ معها في فترة مهمة من حياتي..!!
لم أكن في يومٍ من الأيام أحلم، ولم أُخطّط لأُصبح مترجماً فورياً بالمؤتمرات.. إلا أن الصدفة قادتني إلى ذلك.. وحدث أن شدّتني الترجمة، وأخذتني معها لفترة ليست قصيرة.. أقمتُ خلالها بأحسن وأرقى الفنادق، وركبتُ أفخم السيارات، وأكلتُ أشهى الوجبات، وامتلأت جيوبي بالنقود، وفاض منها على بعض الأصدقاء والأحبة، وقبل ذلك وأنا لا زلتُ طالباً كُنتُ مُقتّراً، أُعاني من أزمات مالية.. والأسعد من ذلك كلّه فإنّي في هذه الفترة الاستثنائية، التقيت شخصيات عربية وأجنبية مهمة مثل المرحوم ياسر عرفات، والسيد هونيكر رئيس الدولة الألمانية الاشتراكية السابق، وزوجته وزيرة التعليم السيدة ماركوت هونيكر، إضافة إلى شخصيات ثقافية وعلمية متعددة مثل محمد مهدي الجواهري، ود. فيصل جري السامر (وزير سابق في عهد عبد الكريم قاسم) والسيد عزيز شريف (وزير عراقي سابق)، وشخصيات مهمة لها تأثير وثقل سياسي في كلٍ من سوريا ومصر والسودان واليمن والعراق، إضافة إلى فنانين وأدباء مثل زكريا تامر والمرحوم الصديق "أبو كاطع" شمران الياسري.. وغيرهم وغيرهم. ولكن أي مفاجئة تلك التي دفعتني إلى الخوض في بحيرةٍ لم أكن أجيد السباحة فيها من قبل، وكيف تمّ لي أن أكون من أقدر العوامين فيها؟ كُنتُ أعيش في برلين غارقاً بالتفكير للتحضير للبدء بكتابة أطروحة الماجستير، حين فاجئتني مهاتفة تلفونية من شخصٍ لا أعرفه قادم من العراق ضمن أحد الوفود الرسمية الزائرة لألمانيا، يُخبرني فيها، أنّه وصل يوم أمس مطار برلين واُستقبل من قبل الجهة المضيفة، وأُقلّ مع بقية أعضاء الوفد إلى مدينة أخرى، لم يكن حتى يعرف اسمها، وقد جلب لي من الأهل في العراق حقيبة فيها هدايا لا يعلم بتفاصيل محتوياتها، وهو يُريد أن يتخلّص منها لأنّه غير مُطّلع على البرنامج المُعدّ لهم من قِبل مضيفيهم.
فكّرتُ في بادئ الأمر أن أُهمل هذا الموضوع، وأتنازل عن الحقيبة ومحتوياتها، ما دامت الرحلة للمدينة التي علمتُ أنّهم يُقيمون فيها كانت تستغرق آنذاك خمس ساعات.. ناهيك عن تحمّسي للبدء بكتابة أطروحتي.. وأحسستُ بأن الموضوع لا يتطلّب كل هذه المتاعب، إن لم أستطع أن استلم الهدايا في برلين، حيث كُنتُ أُقيم..
لا أدري، كيف أنّي غيّرتُ قراري في فجر اليوم التالي، لأتوجّه إلى المحطة، وأستقلّ القطار الذاهب إلى فايمار.. نزلتُ في الساعة الحادية عشر صباحاً في محطتها، ووجدتُ نفسي أُسرع بالخطى تحت شمس الصباح على طرقات عُبّدت بالحجارة الصغيرة.. كأني طيرٌ عاد إلى عُشٍّ كان يعرفه جيداً.. هذه المدينة الصغيرة التي أعرفها شبراً شبراً، مقاهيها ومتنزهاتها، ومتاحفها، وبرجها القديم المدعو (كاساتورم) "برج الخزينة" والذي أصبح نادياً للطلبة، كُنتُ أسهر فيه كل مساء سبت حتى مطلع فجر اليوم التالي وفيه نسجتُ طوال سنوات مكوثي هناك أحلى ذكريات صباي على مقاعده وقاعة الرقص فيه.. أعرف مسرحها الوطني الذي شاهدتُ فيه لأول مرة مسرحيات كتبها الشاعر كوته.. وعلى خشبة هذا المسرح كان قد تدرّب هتلر على الخطابة بإشراف أساتذة متخصصين، وفندقها التراثي باسم (أليفانت) "الفيل" والذي كان يُقيم به هتلر عند قدومه إلى هذه المدينة.. وقد أقمتُ فيه لاول مرة كمرافق ومُترجم لكلٍ من الجواهري والدكتور السامر.. ثم أقمتُ به مرات عديدة، إنها ذكريات كثيرة رافقت سنوات الدراسة الأولى في المرحلة الجامعية.. توجّهتُ مسرعاً إلى معهد الاستراتيجيات الإدارية، على أمل التقاط الحقيبة والرجوع بالقطار المغادر إلى برلين في عصر نفس اليوم.. والتقيتُ بأعضاء الوفد، ورحّبوا بي كثيراً، وعرفتُ منهم بأنّهم لا يُجيدون أي لغة أخرى غير العربية، وهم يشعرون بصعوبة التفاهم مع إدارة الدورة.. وبعد استراحة قصيرة لديهم، سيطرت عليها المجاملات، تسلّمتُ الحقيبة منهم، وفتحتها على الحال، فلم أجد فيها غير كمية من البامياء المجففة والرز العنبر العراقي، وقليلاً من شاي الليمون المجفف "النومي بصره"، فثارت حفيظتي لأنّي تجشّمتُ عناء السفر، وأتعب أهلي أعضاء الوفد بحمل مثل هذه الحقيبة.. لكنّني أخفيتُ غضبي وشكرتهم مرّة أخرى، وهممتُ بالعودة.. تفاجئتُ عندما أخبرني أحد الموظفين في المعهد بأن مُدير المركز يطلبني لمقابلته.. خمّنتُ بادئ الأمر بأنّه يُريد أن يُخبرني بأن هذا المعهد يضم وفوداً من مختلف الدول وذوي مناصب عُليا في دولهم، ويُمنع دخوله إلا بموافقات خاصة.. إلا أن شيئاً من هذا لم يحصل، فقد استقبلني الرجل بحفاوة كبيرة أثارت انتباهي، وأصبحتُ أشك بأنّه توهّم بي واعتبرني أحد الأشخاص المهمين في السفارة العراقية.. تفاجئتُ أكثر عندما ذكرتُ له بأنّي طالب في مرحلة الماجستير، وردّ عليّ بأنّه يعلم ذلك.. ويُصرّ عليّ للبقاء لتناول وجبة الغداء مع الوفد، ثم يدعوني لحضور حفل الافتتاح الذي سيُلقي فيه عددٌ من الكلمات الترحيبية.. اعتذرتُ عن ذلك، ولكن دون جدوى، فالمشاعر الدافئة والترحاب الحميمي، الذي قوبلتُ به جعلني أخجل من رفض هذه الدعوة.
وهنا تأتي اللحظة المفصلية التي غيّرت حياتي وطريقة معيشتي اليومية لفترة سنة كاملة.. وفي أثناء فترة الغداء استدعاني مدير المركز، وهو الذي يملك من الصلاحيات ما يملكه أي وزير في الدولة، لأجلس بجانبه، وأفشى إليّ بما يُعاني منه من عدم وصول مترجمي اللغة العربية الثلاثة، والذين طلبهم عن طريق مؤسسة الترجمة الرسمية، وقد تخلّفوا عن أقرانهم مترجمي اللغات الأخرى، وسألني إن كُنتُ أستطيع مساعدته بهذا الشأن.. فسألته "ماذا تعني بالمساعدة التي تطلبها مني؟ هل تقصد بأن اتصل بمترجمين أعرفهم ليأتوا إلى هنا؟". فأجابني لقد فات الوقت، ولا يستطيع أحد أن يصل إلى هنا وبعد ساعة من الآن ستبدأ مراسيم الافتتاح. أجبته: إذاً كيف أستطيع أن أساعدك.. فردّ وبشكلٍ مباشر بأن أقوم بالترجمة الفورية.. راعني الموقف أن يطلب مني أحدٌ أن أساعده ولا أستطيع أن أُقدّم له العون.. وعندما تأكد من رفضي لطلبه هذا.. ذكر لي بشكلٍ لائق، لا بأس أن اطّلع على آلية العمل بهذا المجال.. فنادى شاباً، قال بأنّه متخصص بإلكترونيات هذه المنظومة التي تجري عملية نقل الترجمة من خلالها.
فضولياً ومرتاباً مشيتُ برفقة مهندس الصوت إلى نهاية القاعة المدرجة، والتي كانت فارغة من أي أحد، حيث توجد أربعة كابينات زجاجية تُشبه كابينات الهواتف على الطرق العامة.. وجدتُ أشخاصاً جالسين في الكابينات الأخرى، ومنشغلين، فهمتُ بعد ذلك بأنهم ّهم مترجمي اللغات الأخرى. وأشار إليّ المهندس للتفضّل بدخول الكابينة رقم 4.. جلستُ على الكرسي ووجدت أمامي سماعة رأسية، وأمامي منظومة صغيرة الحجم فيها عدة أزرار وأرقامها تدل على اللغة التي يُمكن أن يستمع إليها المترجم، وكانت أرقامها على التسلسل الآتي: 1) الألمانية. 2) الإنكليزية. 3) الفرنسية. 4) العربية. وثم الأسبانية والروسية.. وتعرّفتُ على أزرار الفتح والإغلاق للمنظومة. وشرح لي المهندس بدقة، كيفية إجراء الترجمة.. وما هي إلا نصف ساعة عصيبة من القلق والترقّب، وإذا بالقاعة تمتلئ بالمشاركين في هذه الدورة.. وبدأ الافتتاح بكلمة ترحيبية من مدير المركز، استمعتُ إلى سطورها الألمانية من خلال الرقم 1 باللغة الألمانية دون أن أنبس بكلمة واحدة، وبعد أن بدأ بتقديم الشكر للدول المشاركة، وذكر اسم العراق. وجدتُ نفسي وبشكلٍ تلقائي أفتح المايك وأُسارع بالقول. نُرحّب بضيوفنا من جمهورية العراق... و ... و... ولا أدري كيف انفكّت عقدة اللسان وواصلتُ الترجمة حتى نهاية الكلمة بشكلٍ متواتر.. وتلتها بعد ذلك كلمات لوزراء.. قمت بترجمتها بانسيابية أكثر، حتى تنفسّتُ الصعداء عندما أُعلنت استراحة لتناول المشروبات والمعجنات.. وما أن خرجتُ من القاعة حتى وجدتُ الوفد بانتظاري يُقبّلونني، ويُطلقون كلمات وجُمل المديح لطريقة أدائي للترجمة، لم أُعر ذلك انتباهاً وأهمية، لأنّني اعتبرت ذلك من قبيل المجاملات، والمستفيد من شيء حتى على علاته فهو لابد أن يتقدم بالشكر والثناء. إلا أن مهندس الصوت فاجأني بقوله: "كُنتُ استمع إليك مسروراً، رغم أني لا أفهم اللغة العربية، إلا أن الأداء والصوت الهادئ والتوقفات المريحة بين الجمل، أحسستُ بأنّها آتية من شخصٍ متمرّس واثق من نفسه وليس لديه ارتباك".
وبناءً على رجاء من مدير المركز بقيتُ بعدها ثلاثة أيام، أُترجم المحاضرات والمناقشات بشكلٍ فوري ومباشر بين اللغتين.. حتى جاءت مجموعة الترجمة المكونة من شابة وشابين من الألمان، ممن درسوا الترجمة في جامعة لايبزك.. سلّمتهم الكابينة وكُنتُ مسروراً لأنّي سأُغادر وأرجع مشتاقاً إلى خطيبتي التي فارقتها لمدة أربعة أيام. وقبل خروجي من المركز ناداني أحد الموظفين إلى مكتب المدير.. لأتلقّى منه الشكر والثناء. وهدايا على شكل كتب "انسيكلوبيديات" ملونة عن الفن والعمارة مُهداة منه، إضافة إلى مظروف، أحسستُ بأنّه ثقيلٌ نوعاً ما، وسألته عن محتوى هذا المظروف، فقال لي مختصراً، كتاب الشكر والتقدير على جهودي الطيبة، استأذنتُ مودعاً.. وقادني فضولي إلى أن أفض المظروف في بهو مدخل المبنى.. وإذا بي أجد آلافاً من الماركات التي لم تملكها يداي طيلة سنواتي السابقة في ألمانيا.. عُدتُ مسرعاً للمكتب وطلبتُ من السكرتيرة أن تُخبر المدير بأنني أُريد مقابلته ثانيةً.. فأذن لي بالدخول.. سألته مباشرةً فيما إذا كانت هذه النقود قد وُضعت سهواً في المظروف.. فقال لي: كلا لو قرأت الورقة المرفقة بالمبلغ، لفهمت بأنّك كنتَ تقوم بالترجمة لوحدك بدلاً من ثلاثة مترجمين.. وقد احتسبنا لك أجور الساعة بثلاثة أضعاف.. قاطعته قائلاً بأني لستُ مترجماً محترفاً.. وإنما قمتُ بالعمل بشكلٍ طوعي كمساعدة للوفد العراقي.. فأجابني بأنني أسديتُ للمعهد فضلاً لا يُنسى، وهذا المبلغ من حقي وليس لأحدٍ من منةٍ عليك، غادرتُ فايمار بخليط من المشاعر، وأول ما وصلتُ إلى خطيبتي ودخلتُ الشقة، أخرجتُ مظروف النقود وأفرغته فوق رأسها.. لتتطاير الأوراق النقدية في كل أرجاء الغرفة.
قضيتُ عشرة أيام متمتعاً بالأوقات الجميلة مع خطيبتي، نزور فيها المتاحف، وحديقة الحيوانات، ونجلس في المطاعم الممتازة نتناول فيها "الأوبن بوفيه".. وبدأت أضع آلية وهيكلية للبدء بكتابة أطروحتي.
لم يدم هذا الوقت الرائق طويلاً حتى تفاجأتُ بمكالمة من مؤسسة الأنترتيكست الألمانية تدعوني للترجمة الفورية لإحدى المؤسسات في مدينة ثانية.
كان ردّ فعلي ينم عن استغراب شديد، عندما أطلقتُ السؤال بدون تفكير وبلا تحضير مسبق.. الترجمة ليست مهنتي، ومن الذي أعطاكم رقم الهاتف.. فأجابتني سيدة، خمّنتُ من صوتها أنّها كبيرة بالعمر قائلة: "التقرير الذي رفعه مركز الاستراتيجيات الإدارية، يحمل تقييماً جيداً لعملك.. وفيه معلومات شخصية عنك.. وإذا وافقتَ أرجو أن تتصل بنا اليوم أو غداً في أقصى حد".
وهكذا انزلقتُ إلى ممارسة هذا العمل المغري، من كل الجوانب لمدة تقترب من عامٍ كامل، وانهالت عليّ العروض المغرية، وأحياناً كُنتُ أرفض بعضها لتقاطعها وتزامنها. كُنتُ عندما أعود إلى بيتي أُحاول أن أُعوّض خطيبتي عن فترات غيابي.. نحاول أن نخرج من البيت إلى أماكن ترويح متنوعة.. ولكن خطيبتي كانت تُعاني من سكوتي وبحثي عن الراحة، حيث أكون مقلاً في الكلام، وقد انزعجت مني في المرات الأولى.. إلا أنها فهمت بعد ذلك بأني طوال رحلاتي وترجماتي، كنتُ لا أتوقف طوال النهار عن الكلام، وحتى في أثناء تناول وجبات الطعام. إذ كُنتُ أُستدعى من قبل رئيس أحد الوفود لأجلس على طاولته، وفي الغالب يكون أحد المسؤولين أو المرافقين الألمان من الجهة المضيفة جالساً معه.. وكانت أحاديث المجاملات بينهما تُزعجني بشكلٍ كبير، لأنّها تمنعني من تناول الوجبات الشهية، لتبدأ جولة جديدة من الترجمة بعد الوجبات.. تكاد تكون حنجرتي قد جفّت طوال هذه الفترة، لذلك فإنني كُنتُ أعتمد على خطيبتي بالكلام عندما نخرج إلى المدينة، فهي توقف التاكسي وهي تطلب الطعام، وهي تشتري تذاكر الدخول.. وهكذا.
كنا أحياناً نُريد أن نُشعر أصدقائنا من طلبتنا المغتربين بأن وضعنا المادي قد تحسّن، لذلك افتعلنا كثيراً من المناسبات لندعوهم إلى بيتنا.. يتناولون معنا الأكلات المشوية.. والفواكه والمشروبات المتنوعة، التي كُنّا شبه محرومين منها فيما مضى.. عامُ كامل من المسرات والمشاهدات والمعايشات التي لا تعود.
لقد تبدّلت حياتي تماماً وتحوّلت من الملل والإيقاع الرتيب إلى حركة دائبة وتنقّل بين المدن.. وأمام الباب كانت تنتظرني في الغالب سيارة فارهة، تنقلني إلى مدينة أخرى، أو إلى المطار لحضور مؤتمر في مدينة نائية.
كُنتُ لاهياً أشعر بأني أعيش كرنفالاً، وبالرغم من التعب والإرهاق اللذين كُنتُ أعالجهما بفناجين القهوة التي كانت تصلني إلى الكابينة الزجاجية، الواقعة في الطرف الخلفي من القاعة، خلف ظهور المؤتَمِرِين، كُنتُ أشعر بنشوة وطاقة مُتجدّدة لا تنضب.. لم أكن أدري أو أُفكّر بهذه المَلَكَة التي أمتازُ بها عن بقية المُترجمين المتخصصين.
كانت الترجمة الفورية تحتاج من الشخص أن يقوم بثلاث فعاليات في آنٍ واحد، أن ينقل بجملٍ واضحة ومُريحة للسامع ما استوعبه قبل قليل من المُتكلّم، وأن يستمع في نفس الآن إلى جملة جديدة يُلقيها المتكلم، وأن يتهيأ لإلقاء ترجمة ما يسمعه الآن.. هذه الفعاليات الثلاث، تجعل الدماغ البشري يُبرمجها بشكلٍ تلقائي، دون توتّر أو انفعال من المُترجم، وهذا ما لم أكن أعرفه عن نفسي سابقاً بأنني أمتلك مثل هذه القابلية الدماغية، ومن الطبيعي أن لمثل هذه المهمة إضافةً إلى المعرفة الجيدة باللغتين لا يصلح من يكون عصبياً أو متنرفزاً.. ولا أدري كيف كانت تتمالكني السكينة ويتلبّسني الهدوء والارتياح الداخلي عندما أضع السماعة على أذني.. وأبدأ الترجمة وأنسى كل متاعبي ومشاكلي.. ومع مرور الزمن، أصبحتُ أكتب نصاً على الورق لا يمت لما أسمعه وأقوله بشيء، كأن أطلب الشاي أو القهوة من العاملين كتابةً، وأنا مستمر على الترجمة الفورية بدون انقطاع، حتى أن العاملين كانوا يُطلقون ابتساماتهم أثناء تناولهم الورقة مني وأنا منهمك بالترجمة. وأذكر يوماً أن أستاذة لغات اصطحبت عدداً من الطلبة الدارسين للترجمة الفورية، لتُجلسهم في النهاية الخلفية للقاعة ليستمعوا إلى ترجمتي. وعند الاستراحة خرجتُ من الكابينة ووجدت هؤلاء الطلبة مع أساتذتهم يتوجّهون نحوي ويدعوني لتناول المشروبات الساخنة معهم، وليبدوا إعجابهم بالترجمة التي استمعوا إليها من خلال السماعات المربوطة في مقاعدهم.
لقد تولّدت لديّ صداقات جديدة، مع مترجمات ومترجمين بلغاتٍ مختلفة، كُنتُ ألتقيهم بهذه المؤتمرات، وكنا نشعر بأُلفة ومحبة وتعاطف.
لكن كل شيءٍ وله نهاية.. أنتبهتُ إلى أن الوقت يضيع مني وأنا لم أكتب سطراً واحداً من أطروحة الماجستير.. لذا قرّرتُ أن أتوقف عن ممارسة العمل بالترجمة الفورية، وشعرتُ بأني مثل مُدمن مُنع من تناول ما كان يستذوقه ويستهويه.. وكان ذلك قراراً حاسماً مني لا رجعة فيه وطلاقاً أبدياً مع الترجمة الفورية.. قاومتُ نفسي كثيراً، و أنا أنطق بكلمات الاعتذار رداً على المهاتفات التلفونية التي تدعوني للقيام بعمل ترجمي.. بعد سنين وفي أيام القلق الدائم الذي عشتهُ وأنا في وطني العراق، متخفياً وراء اهتماماتي الأكاديمية، مبتعداً عن الممارسات الثقافية والأدبية.. كُنتُ أُشاهد لقطات تلفزيونية تنقل أحيانا ترجمة فورية من مؤتمرات وندوات، وأحنّ إليها بشيءٍ من الريبة، وقد دُعيتُ مراتٍ من بعض المنظمات للترجمة الفورية ومن جمعية المترجمين، والتي كُنتُ أحد أعضائها المؤسسين، وأحمل الرقم 72، وهي تملك اليوم عشرات الآلاف من الأعضاء.. ولكن دون جدوى، رفضتُ كل هذه الدعوات.
وكانت فرحتي كبيرة عندما اتصلت بي إحدى المترجمات المعتمدات لدى منظمة الأمم المتحدة، وهي قادمة للترجمة في أحد المؤتمرات الدولية ببغداد (وما أكثرها آنذاك).. ولتخبرني بأن كل الأصدقاء في الخارج قلقين عليّ، ويريدون أن يعرفوا عن مصيري أي شيء. وذهبتُ إليها مع زوجتي في فندق الشيراتون ببغداد.. وتبادلنا حديثاً قصيراً معها.. ذكّرتني فيه بأيام المؤتمرات في ألمانيا، والتي كنا نحضرها سوياً.. وذكرت من ضمن ما ذكرت بأنّها بالرغم من عملها الذي تُحسد عليه في الأمم المتحدة، إلا أنها تُعاني من قلة الوقت لديها.. فهي قلقة دائماً وفي توتر مستمر. إذ عندما تعود إلى مقر عملها في سويسرا تُستدعى مرة أخرى بعد أيام لتلتحق بمؤتمر في دولةٍ أخرى، حاملةً معها ملابسها المتسخة "التي لم تسنح الفرصة لها لتنظيفها".. ولتُسلّمها إلى مغسلة التنظيف في أي فندق ستُقيم فيه في جولتها التالية.. ودّعناها وعُدنا إلى بيتنا.. وفي تلك الليلة بقيتُ ساهراً، تؤرقني ذكريات وأحداث عامٍ كامل، وشعرتُ بأن المدينة، ساكنة ومهجورة، مثل مقبرة تعجّ بالأشباح.
وعند الصباح أحسستُ بأنّي كُنتُ أغرق في حلمٍ قديم، بدأت تمحوه الشمس التي عانقت وجه بغداد.. وتوجّهتُ إلى عملي مقتنعاً على مضض بصواب المثل الشعبي: "ما فات مات".
الگاردينيا:دكتورنا العزيز ...مبروك تستاهلون أكثر ....
1041 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع