بغداد/ يوسف المحمداوي:أخذ مهند بائع البخصم يلعن السماء على نعمتها علينا وهو يحاول الحفاظ على بخصمه داخل أكياس النايلون متحاشياً أن تقع فريسة للمطر الذي بدأ ينهمر بغزارة،
تعالى صياحه بالسب والشتم بعد ان مرّ موكب سيارات احد المسؤولين وقام بغسل بضاعته وملابسه بالمياه المتجمعة وسط الشارع، غير آبهٍ بما قد تجلب شتيمته من ردة فعل حماية المسؤول بعد أن ضاعت (الصاية والصرماية) كما كان يردد ،وقبل أن يستقل احدى الحافلات صاح (حتى السمه محاربه الفقير موبس الحكومة)! المطر نعمة السماء على الأرض تحوّل الى نقمة ليس على مهند فقط وانما طال ضرره شرائح واسعة من المجتمع،وبالتحديد الباعة المتجولين من اصحاب البضائع التي يتلفها تساقط المطر.
محنة أبي سعد
بائع السكائر أبو سعد ترك موقعه في تقاطع المسبح ولجأ الى احد الأبنية محتمياً تحت سقفها من نعمة الله ،وهو يحمل صندوق سكائره المفتوح من الأعلى والمعلـَّق برقبته بواسطة أحزمة جلدية،ظل ينتظر ان يتوقف صديق الفلاحين عن عداوته والمساهم بصورة مباشرة بقطع رزق عائلته اليومي،لكن من دون جدوى لأن الغيوم كانت تغني مع السياب مطر....مطر....مطر، فيما ابو سعد ومن كان على شاكلته يغنون قهر...قهر...قهر، راح ينظر الى السماء بنظرات استعطفاف طالباً الرحمة ،لكنها واصلت البكاء عليه من عيون غيومها بما ينذره بيوم بطالة تفرضه الطبيعة عليه،وهو يردد مع نفسه والآخرين (إجه الشته وإجه طيحان الحظ).
ابو سعد الذي تجاوز عمره الأربعين يقول: إن أيام المطر تعني المأساة لنا ولعوائلنا خاصة اذا استمر نزوله لأيام عدة وبصورة متواصلة،مؤكدا أن فصل الصيف هو صديق الفقراء أما الشتاء فهو عدوهم اللدود، في الوقت الذي كان فيه العراقيون يخرجون لأداء صلاة الأستسقاء في حالة تأخره بالمجيء، لكن بعد أن تراجع عدد الفلاحين الى نسب متدنية وقاموا بترك أراضيهم الزراعية وانخرطوا في صفوف القوات الأمنية بحسب قوله.
فلاحو الأمس واليوم
وأنا أستمع الى أبي سعد وحديثه عن هجرة الفلاحين تذكرت سبعينات القرن الماضي وثمانيناته وكيف كان الفلاح يدفع المبالغ مقابل عدم ذهاب اولاده لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية،لكي يضمن عمل الابناء في ارضه الزراعية، وكيف كانت الدولة توفر للفلاحين الدعم الكامل في السلف والمعدات والآليات والأسمدة من أجل المحافظة على استقلالية وعراقية السلة الغذائية ومنتوجاتها البالغة الجودة؟ أما اليوم تجد الفلاحين أنفسهم يقومون بتقديم الرشا من اجل قبول اولادهم في قواتنا الأمنية،بعد أن قلَّ الدعم المادي والمعنوي من الدولة وساهم أيضا بشكل فعال الإستيراد العشوائي للمنتجات الزراعية ومن مناشىء عدة وبأسعار زهيدة تنافس منتوجاتنا وهذا ما جعل المواطن يعزف عن الاقبال على شراء منتوجنا المحلي، لذا نجد الآلاف من الدونمات الزراعية تحولت الى مناطق سكنية،وشاهدت بأم عيني العديد من بساتين النخيل في محافظة المثنى تحولت الى قطع أراضٍ سكنية باعها أصحابها بعد ان شحّ موردها وعصفت بنخيل بساتينهم الأمراض مع غياب الرقابة الصحية،ويحدث ذلك على مرأى ومسامع الحكومة المحلية من غير رقيب او رادع!
عيون بانتظار الرزق
عمال البناء في ساحة الطيران سواء كانوا من بغداد أو المحافظات لم يسلموا من نقمة المطر،وجدتهم وقد بانت آثار المطر على ملابسهم والوحل على أحذيتهم المتهرئة أصلا، وعيونهم شاخصة الى السيارات التي تقف وحتى على المارة، لعل فيهم المنقذ والجالب لرزقهم اليومي،كانت الساعة تشير الى العاشرة صباحا وما يزال الكثير منهم متواجداً في المكان على الرغم من كون عملهم يبدأ مع بزوغ الفجر.
رضا هاني من سكنة عشوائيات حي البلديات وجدناه محتميا تحت مظلة كونكريتية لإحدى العمارات الواقعة في بداية شارع النضال ،بين لـ(المدى) عن سبب بقائه حتى الساعة العاشرة بأنه يعمل احيانا مع صديقه أحمد حتى في أيام المطر داخل البيوت التي تحتاج الى ترميمات داخلية وليست خارجية وبأجر مقطوع يسمى (الكبالة)،وهو بانتظار صاحب البيت الذي سيقله وصاحبه الى أحد الدور السكنية في منطقة حي الغدير،موضحا بأن عملهما سيستغرق ثلاثة ايام وبأجر مقطوع قدره(125) ألف دينارا،ويرى هاني ان مثل هذا الاجر في ايام هطول الأمطار يُعد نادراً.
المحافظات في بغداد
عبد جاسم كان يجلس على قطعة من البلوك قريباً من العامل هاني، فضلا عن آثار المطر الظاهرة على ملابسه كانت ملامحه وهو يسحب دخان سيكارته تحيلك الى مشهد مَن فقد عزيزاً عليه، في تلك اللحظة ترددت في البداية أن أحدثه عن تأثير هطول الأمطار على مصدر رزقه،لكن العامل هاني كان مفتاح حديثي مع جاسم بعد ان بادره بالسؤال نفسه ليوضح لـ(المدى) أنه من أهالي الناصرية ،وجاء الى بغداد مع مجموعة من الشباب العاطلين عن العمل بمحافظته للحصول على مصدر عيش بعد أن أرهقهم العوز المادي بحسب قوله،مشيرا الى أنه ومَن جاء معه يسكنون في فندق بائس في منطقة البتاوين،وهذا ما يطلب منه توفير أجرة الفندق فضلا عن مصروفات الطعام،والأهم من كل ذلك هو مصروف العائلة الذي لابد من توفيره لهم لكوني المعيل الوحيد لهم بعد وفاة والدي الذي كان عامل بناء ايضا إثر مرض عضال،ويؤكد جاسم أن هطول المطر يعني انقطاع الرزق، وإضافة الى ذلك ان عمال بغداد يقومون بمحاربتنا لكونهم يعدُّون أبناء المحافظات وفق تصورهم منافسين لهم ويحدون من مردودات أرزاقهم، متناسين تماما أن الأرزاق على الله.
صباغ الأحذية والصيف
عبد الرزاق شاب صغير بوجه يختلط به اللونين الأحمر والأبيض وشعر بلون الشمس التي كفنتها غيوم الشاء وهو يرتدي بنطال جينز اسود وتشيرت أحمر غطاه بقمصلة سوداء ،ويحمل على كتفه الأيمن صندوقا خشبيا اسودا مرصعا بمسامير فضية وهو ورشة عمله المتنقلة كصباغ للأحذية، وعلى الرغم من صغر سنه الذي لا يتجاوز الثلاثة عشر لكونه من مواليد 2000 كما قال لي، ومع ذلك كان دخان سيكارته الكلواز ينفث من فمه وأنفه باحترافية لا يُجيدها حتى مدمني التدخين! قال حين سألته عن وارد مهنته ايام هطول المطار: إنه في أيام المطر يقوم بالتنقل بين المقاهي والمطاعم ومحال الحلاقة وكذلك المعامل ويكون الوارد فيها جيدا،مبينا بأن الرزق يتضاعف مع انقطاع نزول المطر حيث أن أغلب الذين يسكنون المناطق المتأثرة بالمطر من الموظفين وغيرهم يقومون بصبغ احذيتهم،موضحا بأن وارده بعد توقف المطر هو ضعف رزقه في فصل الصيف.
صباغ الأحذية والتدخين
حاولت أن أعرف من عبد الرزاق هل هو طالب مدرسة؟ وفي أي مرحلة؟ ولماذا يدخن؟ وفهمت من خلال حديثه ولهجته بأنه جاء مع والده والعائلة الى العاصمة بغداد منذ عامين من محافظة نينوى بحثاً عن العمل لانعدامها هناك، موضحا بأن الأوضاع الأمنية في الموصل اصبحت خطرة ،وقد قتلوا خالي وكذلك ابن عمتي قبل عام،ومنذ عام 2011 ونحن نسكن منطقة الطوايل في العامرية،وأوضح عبد الرزاق ان والده يعمل في الشورجة حمالاً وشقيقه يونس الذي يكبره بثلاثة أعوام يعمل أيضا صباغاً للأحذية في منطقة المنصور، وعن وضعه الدراسي قال عبد الرزاق: باستثناء شقيقه الصغير الذي هو في الثالث الإبتدائي لم يذهب احد للمدرسة،مضيفا بأنه تركها وهو في الصف الرابع الإبتدائي لأن المدرسة للأغنياء فقط،اما هذا العمل وغيره فهو لنا نحن الفقراء،وبررعبد الرزاق ظاهرة تدخينه بأن شقيقه يونس هو من علـَّمه التدخين، مضيفا بأنه لا يدخن في اليوم غير عشر سكائر فقط بحسب قوله،لكن هيئته وطريقة تدخينه حسب اعتقادي تشير الى اكثر من العدد الذي ذكره.
ما بين الخضراء والمآسي
تركت عبد الرزاق وملابسه السوداء وصندوقه الأسود وحظه الأسود ومستقبله الذي هو بالتأكيد أسودا، وأنا أبحث في جيبي عن قرص أسبرين وردي اللون خشية على قلبي من الحزن الذي أفرزته تلك الحكايات التي لا تنتهي، ملتفتاً صوب المنطقة الخضراء وبعض ساكنيها من اصحاب المليارات التي لا يفصلها عن مشاهد تلك المآسي سوى جسر الجمهورية،ومع ذلك لم تكلف عنصراً من حماياتها على تفقد أحوال مواطني بلد الثروات! ولن تفعل ذلك أبدا لأنها الجاني ،ولا أعتقد سيحِنُّ يوما على المجنى عليه ما دام ثمن الجناية كل تلك الأرصدة الخرافية والمنافع التي كانوا يحلمون ببعضها،ومع ذلك أواسي نفسي بالقول: إن وسامة الشاب عبد الرزاق صباغ الاحذية ،ستتحول قبحاً في جباههم بذاكرة التأريخ ،وسوداوية مستقبله ستكون احلك ظلاما عليهم وعلى عوائلهم التي يطعمونها من مال ثروات وطنه، ولابد أن يأتي عليهم يوم من الذلة والعار يتمنون فيه لو تصبغ وجوههم فرشاة عبد الرزاق حتى لا يرى العالم وجوه اللصوص الحقيقية.
مستنقع ساحة الطيران
أصحاب العربات بأنواع بضائعها الذين يملأون ساحة الطيران لم يسلموا من أضرار الأمطار باستثناء الذين نصبوا مظلات ثابتة وأخرى متحركة محتاطين مسبقاً من نعمة السماء،البعض منهم ركن عربته في المخازن التي يحفظون بها عرباتهم وبضائعهم وآخرون فضلوا البقاء لكون هطول الامطار لا يؤثر على ما يبيعونه، كبائعي اللحوم والأجبان المعلبة وغيرها من المواد المحمية،وحتى اصحاب عربات بيع الفواكه والخضار لم يغادروا الساحة.
أبو كريم الذي يملأ عربته بأنواع المعلبات الغذائية والكمالية قال لـ(المدى): ان الحال في أيام الأمطار لا يقتصر تأثيره على قلة الوارد فقط وانما يؤثر على الموقع برمته بحيث تصبح ساحة الطيران موقعاً لتجمع المياه والنفايات فضلا عن الشوارع التي تكون ممتلئة بالوحل،وبوجود هذا المشهد يعزف حتى الزبائن عن المجيء تحاشيا للمرور بالصورة المأساوية التي تعيشها الساحة بحسب قول أبي كريم.
أحزان بيوت الصفيح
مصطفى صاحب بسطية على الرصيف المقابل لحديقة الأمة وهو متخصص ببيع معدات التصليح كالدرنفيسات والإسباين والسكول إسبانة وغيرها من الأدوات ،ترك بسطيته محمية بغطاء نايلوني لا يضر ولا ينفع في علم الوقاية ، ووقف بعيدا عنها قرب كشك مغلق ينتظر بترقب ضالته من الرزق الذي قد يعاند الطبيعة ويحضر في هذا المناخ الذي هو برأيه أسوأ من السوء، كان يحسبني زبونا وأنا أقترب من بسطيته الحديدية،فصاح بي من بعيد (تفضل عمي) وكالعادة سألته عن الرزق في الشتاء،فرد عليَّ والحسرة ترافق رده (بالشته زفت) وأوضح انه اليوم يعيش في مصيبتين الأولى تتمثل باستمرار هطول الأمطار وما يسببه من قطيعة مع الرزق،والثانية في منطقته الكائنة في حي العامل التي تسمى بيوت الصفيح، مبينا حيرته في كيفية الوصول اليها،والأمر الآخر هو خشيته على عائلته واثاث بيته من الغرق بسبب استمرار هطول الأمطار لأن سقف مَن يسميها داراً مكونة من صفائح الالمنيوم (الجينكو) الذي يغطيه الطين الذي ستذوبه هذه الامطار بحسب قول صاحب المصائب مصطفى.
ضحايا نعمة السماء تركتهم يبحثون بقلق تصرخ به ملامحهم ،بعد أن بحَّت أصواتهم وعجزت من الوصول الى مسامع سياسيي الصدفة،من أجل إيجاد الحلول،وأنا أنظر معهم باتجاه السماء،مرددا بكل ما يحملون من وجع الكون (هلبت كسرنه بخاطر الله).
595 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع