الأسد يغادر دمشق في عملية سرية نظمتها روسيا، ليجد ملاذًا قد يكون مريحًا لكنه خاليًا من أي أمل بعودة سياسية.
إيلاف من لندن: دون توجيه أي رسالة وداع لشعبه، غادر الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد بلاده على وجه السرعة تحت ظلال الظلام. تمت العملية بطريقة سرية للغاية، حيث تم إطفاء أجهزة تتبع الطائرة التي نقلته لتجنب رصدها أثناء مغادرتها من قاعدة جوية سورية.
عملية انقاذ سرية روسية
وفقًا لتقارير من "بلومبرغ"، احتاج الأسد إلى قدر كبير من الإقناع من الجانب الروسي قبل أن يوافق على مغادرة بلاده. الاستخبارات الروسية هي من خططت ونفذت العملية، مما يعكس التزام موسكو بمنح الأسد مخرجًا شخصيًا بعد أن ضاقت عليه السبل داخل سوريا.
لماذا اختار الأسد موسكو؟
بصفته منبوذًا عالميًا، لم تكن لدى الأسد خيارات واسعة للمأوى. روسيا وإيران، حليفاه الرئيسيان، كانتا الخيارين الوحيدين المتاحين. لكن اختيار موسكو يعكس عدة عوامل، أولها الاستقرار الجيوسياسي، وخصوصاً أن روسيا توفر بيئة أكثر استقرارًا مقارنة بإيران، التي تعاني من ضغوط دولية وعقوبات متزايدة.
عامل آخر جعل موسكو وجهة الفرار هو الانسجام الثقافي، إذ يرى مراقبون أن بشار الأسد، المعروف بأسلوب حياته المترف، اختار موسكو نظرًا لتقاربها النسبي مع نمط حياته، ولأنها أكثر انسجامًا مع طبيعته العلمانية. الدكتور ديفيد ليش، الخبير في الشؤون السورية من جامعة ترينيتي في تكساس، أوضح أن الأسد وعائلته يميلون إلى روسيا بسبب هويتهم العلمانية، رغم ارتباطهم بالطائفة العلوية.
تاريخ من المصالح المتبادلة
ترجع العلاقات بين عائلة الأسد وروسيا إلى السبعينيات، عندما عزز حافظ الأسد، والد بشار، علاقة سوريا بالاتحاد السوفييتي.
وفي عام 2015، أعطت روسيا دفعة جديدة لتلك العلاقة عندما تدخلت عسكريًا في الحرب الأهلية السورية، مما أنقذ نظام الأسد من السقوط بعد أن كان على شفا الهزيمة.
وفي السنوات التالية، قضى أبناء الأسد، برفقة أبناء النخبة السورية، عطلاتهم في المخيمات الصيفية في شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا. كما التحق حافظ، الابن الأكبر لبشار الأسد، بجامعة "ماجيمو" (MGIMO) الروسية المرموقة لمتابعة دراسته.
في الوقت ذاته، قام أبناء عمومته وأقارب آخرون بشراء عقارات بملايين الدولارات تدريجياً في منطقة ناطحات السحاب الفاخرة بموسكو.
إلا أنه من غير المرجح أن يعيش الأسد وعائلته أسلوب حياة علني وباذخ في موسكو. وبدلاً من ذلك، ستكون العائلة تحت رقابة مشددة من ضباط الأمن الروس، ومن المحتمل أن تظل مختبئة في عقار منعزل بعيداً عن أعين الرأي العام.
فتور العلاقة الشخصية بين بوتين والأسد
رغم تزايد اعتماد سوريا على موسكو، إلا أن العلاقة الشخصية بين الأسد وبوتين بقيت باردة. ففي حين طور بوتين صداقات قوية مع قادة عالميين مثل سيلفيو برلسكوني، الذي رافقه في جولات سياحية بشبه جزيرة القرم، إلا أنه حافظ على مسافة بعيدة مع الأسد.
ولم تسهم الروابط التاريخية والسياسية في تعزيز العلاقة الودية بين الأسد والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. بينما حافظت موسكو على دعمها لنظام الأسد، كان بوتين ينتقد رفض الأسد تقديم أي تنازلات للمعارضة أو إدخال إصلاحات في سوريا.
تصف مصادر روسية العلاقة بينهما بأنها عملية بحتة، بخلاف صداقات بوتين الشخصية مع قادة آخرين.
قرار بوتين بإنقاذ الأسد
عندما أصبحت دمشق مهددة بسقوط وشيك في يد قوات المعارضة، قرر بوتين توفير مخرج شخصي للأسد. وأكد الكرملين أن قرار إجلاء الأسد كان قرار بوتين الشخصي. ووفقًا لدبلوماسي روسي سابق، كان قرار إنقاذ الأسد مدفوعًا بتجربة روسيا مع مقتل القذافي في ليبيا، وهو مشهد ترك انطباعًا عميقًا لدى الكرملين. وأوضح أن فيديو قتل الزعيم الليبي معمر القذافي في الحرب الأهلية في ذلك البلد في عام 2011 ترك انطباعاً خطيراً لدى المسؤولين الروس وبوتين نفسه. وقال الدبلوماسي السابق: "حتى لو كان بوتين لا يحب الأسد، إلا أنه لم يكن ليتركه للثوار ليقضوا عليه".
ما ينتظر الأسد في موسكو؟
من المتوقع أن يعيش الأسد وأسرته حياة محمية ومريحة تحت ظل بوتين ما دام الأخير في السلطة. ستكون العائلة في عزلة مشددة داخل قصر محاط بالحراسة، بعيدًا عن دائرة الضوء.
وقد تحولت موسكو على مدار السنوات الأخيرة إلى ملاذ آمن لعدد من الشخصيات المثيرة للجدل، من بينهم لاعب كرة القدم السابق كوينسي بروميس، والمتعاقد السابق مع الاستخبارات المركزية الأميركية، إدوارد سنودن، والذي سرب معلومات استخباراتية تخص عمليات مراقبة وتجسس واسعة النطاق أجرتها الوكالات الاستخباراتية الأميركية. كما تحتضن روسيا المدير التنفيذي السابق لشركة وايركارد يان مارساليك، الذي أصبح عميلاً لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي.
إلا أن الشخص الهارب الذي يتشابه مصيره مع مصير الأسد هو الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش، الذي استقر في مسكن فاخر بضواحي موسكو الراقية منذ الإطاحة به عقب ثورة الميدان في عام 2014.
مصير مشابه ليانوكوفيتش
وعلى غرار المشاهد التي أظهرت الأوكرانيين يتجولون في قصر يانوكوفيتش المزدان بالفنون والممتلكات الباهظة، تداولت لقطات الأسبوع الماضي تُظهر الثوار السوريين وهم يستعرضون قصور الأسد، المليئة بالسيارات الرياضية الفاخرة والحقائب الثمينة. وتعكس هذه المشاهد حجم الترف الذي كان يعيشه الأسد قبل فراره. وتقدر ثروة الأسد بملياري دولار موزعة في حسابات سرية وشركات وهمية. هذه الثروة قد تكون مصدر تمويل حياته في روسيا.
كما أن روسيا، التي يقودها بوتين - المطلوب بدوره للمحكمة الجنائية الدولية - ليست عرضة لضغوط دولية لتسليم الأسد، مما يجعلها ملاذًا مثاليًا له ولعائلته.
وتشير التقارير أيضاً إلى أن روسيا قد توفر رعاية طبية أفضل لزوجة الأسد، أسماء، التي تم تشخيصها بسرطان الدم في أيار (مايو) الماضي.
موقف موسكو من الأسد
حتى الآن، تلتزم موسكو الصمت بشأن ضيفها الجديد، متجنبةً أي تذكير بأنها دعمت واستضافت زعيمًا جمع بين الاستبداد الوحشي والفشل السياسي.
ولم تنشر وسائل الإعلام الرسمية الروسية أي صور للأسد داخل البلاد، في خطوة تعكس حرص موسكو على إبقائه بعيدًا عن دائرة الضوء.
وفي تعليق على مستقبله، يقول أحد المحللين: "أعتقد أن بشار سيبقى في الظل، ربما إلى الأبد. لا أرى أي احتمال لعودته السياسية، سواء في سوريا أو خارجها".
926 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع