العراق بين وباءين: الإهمال الحكومي وتركة الغزو الأميركي

             

العرب/بغداد- عرف العراق منذ سنة 2003 جملة من الأحداث غيّرت مجرى العديد من البرامج التي خيّل للعراقيين أنها ستنجز وتكبر غداة سقوط نظام صدام حسين.

لكن وعلى العكس من ذلك فقد استشرى العنف وحوّل البلاد إلى مستنقع دموي تسيره ميليشيات طائفية؛ وأصابت مختلف مؤسسات الدولة كوليرا الفساد السياسي القاتلة التي سرعان ما تحوّلت إلى وباء أعاد العراق عقودا إلى الوراء وزاد من مأساة أبنائه؛ فبسبب الإهمال والتقصير الحكومي، ونتيجة لسيطرة تنظيم داعش على الموارد المائية، ونظرا لسياسة التهجير الإقصائية التي تقوم بها الميليشيات الشيعية، عادت إلى العراق أمراض وأوبئة عضوية قاتلة كان قد ظنّ أنه تخلّص منها منذ السبعينات من القرن الماضي مرّة وإلى الأبد.

وفي خضم الوضع الأمني والسياسي المتدهور، وفي قمة الاحتجاجات الشعبية المطالبة بتحسين الخدمات الاجتماعية، استفاق العراقيون على قاتل جديد يهدد حياتهم، ولا يقلّ خطورة، إن لم يتم التعامل معه بسرعة، عن القاتلين الآخرين، وهما تنظيم داعش والميليشيات المسلّحة. وقد كشفت وزارة الصحة العراقية عن تسجيل عودة قوية لوباء الكوليرا، مسجّلة في أول تفشّ واسع للمرض، منذ 2012، يشمل أكثر من 1800 حالة؛ من بينها ست حالات وفاة، والعدد في ارتفاع، نظرا للفشل في السيطرة على الوباء إلى حدّ الآن.

ومثلما جاء تنظيم داعش والميليشيات، وكلاهما يمارس عمليات تهجير وقتل، نتيجة للوضع الذي أفرزه الاحتلال الأميركي للعراق سنة 2003، يأتي أيضا وباء الكوليرا، وغيره من الأوبئة التي انقرضت منذ عقود، كنتيجة لهذه الحرب، التي استخدم فيها اليورانيوم المشعّ والفوسفور الأبيض والغازات السامة، وغير ذلك من الأسلحة المدمّرة للحياة.
    
واليوم، وبعد أكثر من عقد من الحرب الأميركية، وفي ظلّ الظروف الأمنية المتدهورة وظاهرة الفساد المتفشية في البلاد، أصبح العراق محطة تجتمع فيها الأوبئة والأمراض العضوية والسياسية المستعصية والقاتلة.

وثمة ارتباط وثيق بين انتشار مرض الكوليرا والفشل في الإدارة البيئية، فمن شأن انعدام البنية التحتية وتعطل شبكات المياه أن يزيد خطر انتشار بكتيريا الكوليرا، بحسب منظمة الصحة العالمية. وتنطبق هذه الحالة على العراق الذي تعاني بنيته التحتية تهالكا كبيرا منذ الاحتلال الأميركي عام 2003.

ولا شكّ في أن الأسباب الظاهرة لعودة وباء الكوليرا إلى العراق بعد نصف قرن على اختفائه، يمكن إرجاعها كما قالت وزارة الصحة العراقية، إلى شح المياه واعتماد السّكّان على الآبار والمياه الملوّثة لسد احتياجاتهم وانتشار الأوساخ وانعدام الخدمات الصحية والاجتماعية في مخيمات النازحين.

ولاتزال تصريحات المسؤولين حول أعداد المصابين بالمرض متناقضة وغير دقيقة، ويكشف بذلك حجم الكارثة التي تحيط بالمناطق التي انتشر فيها، ومنها أبوغريب شمال بغداد، وعدم اكتراث المسؤولين بشكل حقيقي بتقدير حجم المشكلة. وبحسب وزارة الصحة، فإن أغلبية الإصابات تركزت في قضاء أبوغريب وفي محافظة النجف والديوانية جنوب العراق، وما زالت أعداد الإصابات المسجلة غير معلومة في تلك المناطق إلى حدّ الآن.

وقال قائم مقام قضاء أبوغريب عثمان المعاضيدي إن عدد حالات الإصابة بالكوليرا ارتفعت إلى 141 إصابة جميعها تخضع للعلاج بمستشفى القضاء، مؤكدا أن ظهور المرض بقضاء أبوغريب متعلق بعدم توفير مياه الشرب الكافية لمناطق القضاء. وأوضح المسؤول العراقي أن أغلب مشاريع المياه متوقفة، والناس في المناطق النائية يعتمدون على شرب المياه من الآبار، لافتا إلى أن مستشفى القضاء لم يعد يتسع للمصابين بالوباء.

ومنذ نحو شهرين، تشهد المدن العراقية مسيرات غاضبة احتجاجا على الفساد وتردي الخدمات الأساسية خاصة انقطاع المياه والكهرباء، لكن لا يبدو أن تغيرا قد طرأ على هذه الخدمات. ورغم مليارات الدولارات التي صرفت على البنية التحتية في العراق، لا تزال أحياء كثيرة في المدن العراقية بلا شبكات صرف صحي، كما أنها تفتقر إلى محطات تحلية المياه.

وخلف هذه الأسباب المعروفة والظاهرة، يكمن سبب آخر رئيسي، وهو الفساد السياسي وطاعون الطائفية اللذان أثّرا سلبا على الوضعين الاجتماعي والصحي في العراق، في مشهد يقول الخبراء إنه إحدى نتائج السياسة الأميركية التي استهدفت تدمير العراق، والتي بدأت عبر الحصار ثم الغزو وما أعقبه من سياسات طائفية وظهور التنظيمات الإرهابية.

وأكدت الباحثة العراقية سعاد العزاوي، لـ”العرب”، أن عودة الأمراض الانتقالية مثل الكوليرا والسل الرئوي والتهاب الكبد الفيروسي والدزانتيريا وغيرها، هي نتيجة حتمية للوضع البيئي المتدهور وانهيار السيطرة على الخدمات الأساسية مثل تنقية وتجهيز المياه النظيفة للمواطنين.

وأضافت أن أهم أسباب انتشار مثل هذه الأمراض تلوث مياه نهري دجلة والفرات بالمخلفات العضوية والجرثومية نتيجة تصريف مياه الصرف الثقيلة إلى الأنهار بدلا من معالجتها في محطات خاصة؛ هذا بالإضافة إلى فقدان سيطرة الدولة تماما على محطات معالجة مياه الصرف الصحي والصناعي وعدم قدرة محطات تنقية وتجهيز المياه على التخلص من هذه الملوثات لقدمها وعدم إجراء عمليات توسيع وتغيير لقطع الغيار نتيجة الفساد الإداري والمالي في الوزارات ذات العلاقة بهذه الخدمات. والنتيجة أن المواطن يكون الضحية لهذا التقاعس والفساد. ولعل من المفيد أن نذكر هنا أن تقارير منظمات الأمم المتحدة خلال السبعينات والثمانينات كانت تعتبر العراق من أفضل الدول في المنطقة العربية فيما يتعلق بمستوى الخدمات البيئي والخدمات الصحية المجانية.


وأشارت الباحثة العراقية إلى أن أول الوزارات التي تم إلغاؤها أو دمجها شكليا مع وزارات معوقة أخرى، من قبل رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي تحت ضغط المتظاهرين خلال الشهرين الأخيرين كانت وزارة البيئة ووزارة حقوق الإنسان ووزارة شؤون المرأة. وهي الوزارات التي تبجح الاحتلال الأميركي أنه استحدثها ليحقق الديمقراطية والعدالة للإنسان العراقي.

وتصف سعاد العزاوي ما يجري في العراق بأنها حرب إبادة غير منظورة وممنهجة؛ فبدلا من القيام بالقتل المباشر بأسلحة الاحتلال الفتاكة، كان لابد من جعل التلوث البيئي الخطير وانعدام الخدمات الصحية والطبية والوعي السلاح غير المنظور للتخفيض من نسبة النمو السكاني في العراق، وبالتالي كانت من أعلى النسب في المنطقة. وبما أن الثروة النفطية في العالم مهددة بالنضوب خلال العقود الخمسة القادمة، فإن الزيادة السكانية ستستهلك حتما

جزءا كبيرا من الثروة النفطية العراقية لسد الاحتياجات الغذائية والإنسانية للسكان؛ ولذلك يجري ما يجري الآن من قتل وتدمير وتهجير للاستحواذ على الموارد حتى لو كلف ذلك شن حروب إبادة كالتي تجري في مناطقنا.

القتل البطيء

يؤكّد الوضع في العراق أن الولايات المتحدة عرفت كيف تنتقي أسلحتها لقتل العراقيين، حيث اعتمدت في الأول سياسة الحصار الذي دام 13 عاما (1990 - 2003)، وحرم خلالها العراقي من أبسط حقوقه كإنسان. وفرضت على العراق، بسبب الحصار الذي باركته الأمم المتحدة بقرارها رقم 661، عزلة اقتصادية وسياسية أصبح على إثرها من أكثر دول المنطقة تأخرا وخاصة بعد السنوات التي تلت حرب الخليج الثانية، حيث دمرت بنيته التحتية من مصانع ومصاف ومحطات توليد ومحطات المياه والمجاري، إلى درجة أن جيمس بيكر، وزير الخارجية الأميركي في ذلك الوقت، علّق على ما لحق بالعراق قائلا إن الحصار “عاد به إلى حقبة ما قبل الصناعة”.

وقد منعت العقوبات دخول مواد وبضائع حيوية كثيرة إلى العراق، ووصل الأمر إلى حد منع الكتب والصحف والأقلام، بحجّة أن الغرافيت الموجود بها قد يستخدم لصنع أسلحة نووية؛ ولذات الحجّة منع العراق من الحصول على مادة الكولرين الأمر الذي أعاق عمليات تطهير المياه وأضحت مياه المجاري تفرغ في نهر الفرات دون أن تتم معالجتها.

وتسبب ذلك في عودة الأوبئة والأمراض القاتلة. وفاقم من انتشار هذه الأوئبة منع دخول الغذاء والدواء للعراق، وخلال الأشهر الثمانية الأولى من العقوبات توفي 47.000 طفل تحت سن الخامسة، وبحلول عام 1997 أصبح معدل الوفاة للشهر الواحد ما يقارب 7000 طفل بسبب الجوع والمرض، وحسب إحصاءات الأمم المتحدة مات ما يقارب المليون عراقي بسبب العقوبات.
    

وبعد أن استوفى الحصار شروطه وأنهكت العقوبات الاقتصادية البلاد، جاء دور الغزو العسكري ليتولى الجزء الثاني من خطة تدمير العراق وضمان بقائه خاضعا لسلطة الأميركيين، ولعل أفضل ما يمكن أن توصف به هذه الفترة ما كتبه الصحفي والمحلل الأميركي نير روسن، حيث وصف ما حدث حينها قائلا “العراق قتل كي لا يعود مجددا، الاحتلال الأميركي كان مدمرا أكثر من الاحتلال المنغولي في القرن الثالث عشر”.

في ظل الوضع الراهن لا يمكن وصف العراق إلا كما جاء على لسان جيمس دينسيلو، وهو باحث مختص في شؤون الشرق الأوسط بمركز لندن للسياسة الخارجية؛ حيث قال في تصريح لصحيفة “فيوس أف أميركا”، إن “انتشار الكوليرا في العراق علامة على ما يسميه المحللون الأميركيون زيادة في انعدام مقومات الحياة في تلك المناطق والتي تشمل سوريا والعراق”.

السرطان القاتل الأكبر

لا يتوقف مشكل التدهور البيئي والسياسي في العراق عند ظهور الكوليرا، بل يتعدّاه إلى قضايا أخطر وأكبر، يقول عنها خبراء إنها القاتل الحقيقي للعراق، فهي تستهدف الأجيال الناشئة ومكوّناته الاجتماعية.

ويؤكّد صائب الشحادات، الأخصائي في معالجة الأورام السرطانية، أن العراق يحتل اليوم مرتبة متقدمة بين دول العالم في أعداد المصابين بالأمراض السرطانية، مشيرا إلى ظهور أورام جديدة وغريبة لم تكن موجودة من قبل، مثل سرطان الثدي لدى الفتيات دون سن الثانية عشرة عاما، وسرطان العظام لدى الأطفال الصغار، وسرطان المجاري البولية لدى المراهقين، والأورام السرطانية في المجاري التنفسية لدى الأطفال الرضع، إلى جانب ارتفاع عال في الإصابة باللوكيميا واللمفوما وسرطان العظم، بينما معدل عمر مرضى السرطان هو أقل من السابق، بمعنى تسجيل إصابات في عمر مبكر بشكل مناقض للمعايير الدولية، فضلا عن وقوع إصابات ببعض أنواع السرطان التي لم تكن معروفة أو مألوفة في العراق سابقا، مثل سرطانات الدماغ والكبد، التي تم تسجيلها بأعداد متزايدة، إضافة إلى حصول عدد كبير من التغيرات الفسيولوجية والخلوية في بعض المرضى، وهي إشارة لكونهم قد تعرضوا لمخلفات اليورانيوم. وعلى غرار الكوليرا، تلعب البيئة دورا أساسيا في نقل الأمراض السرطانية، وكما هو معروف فقد تعرّض العراق للكثير من الانتكاسات والحروب التي أدت بطريقة مباشرة وغير مباشرة إلى تلوث بيئته، حيث أكدت تقارير عالمية أجريت بالاشتراك مع منظمة الصحة العالمية أن البيئة في العراق ملوثة بدرجة كبيرة مما أدى إلى ظهور العديد من أمراض السرطان.

وحذر د.كلاوس تويفر، المدير التنفيذي لبرنامج الصحة العالمية، من أن الصحة العامة للعراقيين في خطر، نتيجة استخدام كمية غير معروفة من ذخائر اليورانيوم المنضب في الحرب الأخيرة على العراق، ما يشكل تهديدا لمصادر المياه، فضلا عن انتشار الغبار المشع.

مرض حرب الخليج

ينتقد الخبراء الجهد المبذول حاليا في العراق، مشيرين إلى أنه لا يتماشى مع ضخامة الكارثة وخطورة المشاكل الصحية الناجمة عن التلوث النووي الذي يبقى تأثيره نشطا في محيطه ولمدة لا تقل عن مئة سنة في أحسن الأحوال.



وتشير التقديرات إلى أنه تم إطلاق أكثر من 300 ألف قذيفة يورانيوم منضب خلال حرب العراق عام 2003، أغلبها أطلقتها القوات الأميركية. وتسببت المخلفات العسكرية والقذائف الحربية بتلك الإشعاعات التي انتشرت بسرعة كبيرة نتيجة مناخ كثير الرطوبة، الذي تتميز به مدن العراق؛ كما أن الأراضي الحدودية في هذه المناطق كانت وما زالت مساحات زراعية خصوصا للخضراوات التي تسوق لمحافظات العراق وهي ملوثة بنسبة من إشعاع اليورانيوم المنضب.

تسببت الإشعاعات النووية الصادرة عن الأسلحة الأميركية في آلاف الإصابات بمرض السرطان بين المدنيين في العراق. وتداولت الأوساط الأميركية والغربية مصطلحا جديدا أطلقت عليه “أعراض مرض حرب الخليج”، للإشارة إلى بعض الأمراض المستهجنة التي أصابت العديد من الجنود من أفراد القوات التحالف الدولي الذين شاركوا في الحرب بسبب تعرضهم للإشعاع الناجم عن اليورانيوم المنضب.

أما في العراق فحدث ولا حرج عن آلاف من حالات التشوه بين الأطفال العراقيين الذين ولدوا بعد الحرب. وبحسب تقارير وأبحاث أجريت حول تأثير الأسلحة المحرمة على أطفال العراق وجد أن البويضات تكون مختزنة في مبيض النساء وعند خروجها بعد سنة أو سنتين أو عشر سنين أو أكثر من المبيض تكون معيبة ومشوهة وتؤدي في النهاية إلى حمل معيب أو مشوه قد ينتهي بالإجهاض أو يفضي إلى ولادة مولود به عيوب خلقية، ولهذا فإن الخطورة الأكبر التي ستواجه العراقيين هي أن الإناث اللاتي سيحملن أجنة، في السنوات القادمة، قد ينتج عنهن أطفال مشوهين وذلك أن أرحامهن تختزن بويضات تعرضت للإشعاع أثناء وجودهن في أرحام أمهاتهن.

وقد تضاعف عدد الإصابات السرطانية في السنوات الماضية،ومما يزيد من تعقد الوضع أن اقتصاد العراق منهك ولم يعد قادرا حتى على توفير الحاجيات الأساسية اليومية لمواطنيه من ماء صالح للشراب ومدارس وغذاء، وبقدر ما يزداد عدد ضحايا هذه الكوارث يفتقر العراق إلى إمكانيات المعالجة الآنية والفاعلة المطلوبة؛ فالعراق لا يستطيع في الوقت الحاضر، بالاعتماد على إمكانياته الضعيفة جدا ووضعه الأمني المتأزم، أن ينظف بيئته الملوثة والموبوءة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

786 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع