'أم الأعجوبة' تتحول إلى غصة مؤلمة لدى مسيحيي العراق

        

   برج الساعة، هدية زوجة نابليون الثالث لمسيحيي الموصل

بعد أن كان الموصليون يضبطون ساعاتهم عليها، الكنيسة تقع فريسة الجهاديين بعد 133 عاما من قرع الأجراس وأداء الصلوات.
 ميدل ايست أونلاين/بغداد - منذ سقوط النظام العراقي في 2003 والكنائس داخل مدينة الموصل لا تدقّ أجراسها بسبب محاذير أمنية واستهدافات منظمة طالت المسيحيين من قبل مسلحين متشدّدين كان هدفهم منذ البداية إفراغ المدينة منهم.

تسع وعشرون كنيسةً تخطت كل مصاعب الأزمنة الدموية المتلاحقة التي شهدها تاريخ مدينة الموصل (400 كم شمال بغداد) على مدى 1770 سنة من الوجود المسيحي فيها حتى وقعت في نهاية الأمر أسيرةً بيد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي احتل الموصل في العاشر من حزيران/يونيو 2014 ليضع بصمته المميتة عليها باعتباره أكبر دمار حلّ بها منذ قرون.

تحولت الكنائس في الموصل إلى ركام بعد تفجيرها أو إلى محاكم شرعية للتنظيم أو سجون لمعارضيه بعد أن انتزعت منها الصلبان والرسوم والنقوش وتم تدمير أية إشارة توحي إلى أنها كانت كنائس ذات يوم.

كانت الكنائس موزعة في مختلف أنحاء مدينة الموصل التي كان يسكنها نحو مليون ومئة ألف شخص، في أحياء ومناطق العربي والنور والفيصلية وسوق الشعارين والساعة والدواسة والمجموعة، في إشارة الى تعايش سلمي اتصفت به المدينة قبل أن تفقد الدولة سلطتها وبالتالي هيبتها لتفرض الجماعات المسلحة قوانينها وشرائعها.

ويعدد الباحث متي بهنام في حديث لموقع "نقاش" الاخباري أسماء لأقدم وأشهر كنائس الموصل وهي "شمعون الصفا والطاهرة ومسكنته ومارتوما ومار كوركيس" ويشير الى أن أشهرها على الإطلاق هي "كنيسة الساعة" في منطقة الاوس في الجانب الأيمن لمدينة الموصل.

و"كنيسة الساعة" هو الاسم الشعبي لها بينما الاسم الذي يطلقه عليها مسيحيو الموصل هو كنيسة "أم الأعجوبة" او "بيعة الباتري" وتعني باللغة الايطالية بيت الآباء، وتسمى أيضاً كنيسة اللاتين أو الآباء الدومينيكان.

افتتحت الكنيسة في الرابع من آب/أغسطس 1873 لتكون مركزاً للآباء الدومينيكان في المدينة، وتم إكمال بناء برج ساعتها الشهيرة في تموز/يوليو 1882، وهي عبارة عن نصب قدمته كهدية للآباء الدومينيكان، الملكة أوجين زوجة الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث مكافأة لجهودهم التي بذلوها في تقديم العلاج وتوزيع الأدوية والأغذية لأهالي الموصل بعد ان فتك مرض التيفوئيد بالكثيرين منهم بين عامي (1879- 1880).

ومنحت هذه الساعة طوال 133 سنة شهرة كبيرة للكنيسة بل وأطلق اسمها على المنطقة بأكملها إذ تعرف ولغاية اليوم بمنطقة "الساعة".

ويصف بهنام الساعة بأنها كانت ذات أربعة أوجه وعقاربها تدار بنصبها يدوياً لأكثر من قرن قبل أن تزود بنظام الكتروني في العقد الثامن من القرن المنصرم، وكان صوت دقاتها يغطي مساحة قطرها 15 كم ومعظم أهالي المدينة كانوا يضبطون ساعاتهم على وقتها.

ويضيف أن للكنيسة قبتين واسعتين متساويتي الحجم مع صحن يمنح مئة مصلٍ مساحة لأداء صلواتهم، هذه الصلوات بقيت مكتومة وحبيسة الجدران طوال عقد مضى قبل أن تكتم داعش أنفاسها تماماً.

ويعود ذنون الطائي مدير مركز دراسات الموصل ثلاثة عشر عقداً للوراء وتحديداً بين سنتي 1879-1880ويقول إن المدينة شهدت في تلك الفترة مجاعة كبيرة وتفشياً لأمراض كثيرة كان أخطرها حمى التيفوئيد التي قتلت العشرات من سكان الموصل ومحيطها.

وقام الآباء الدومينيكان المتواجدون في الموصل منذ سنة 1636 بمعالجة المرضى وتوزيع الأدوية والأغذية على المصابين والفقراء وساهموا بنحو كبير في الحد من تداعيات تلك الفترة، وتقديراً لما بذلوه من جهود قدمت الملكة الفرنسية ساعةً بوجوه أربعة كهدية لهم، وضعت في برج كنيستهم التي صار اسمها لاحقاً كنيسة الساعة.

ويروي الطائي كيف أن سكان المناطق المحيطة بالكنيسة احتجوا وقتها على وضع الساعة بذلك الارتفاع الذي يشرف على سطوح منازلهم التي ينامون فيها مع عائلاتهم في موسم الصيف. فطمأنهم الآباء الدومينكان أن الساعة مهمتها تذكير الناس بمواعيد الصلاة ولن يصعد إليها أي شخص من الكنيسة.

وجود الكنيسة في قلب مدينة الموصل وفي أقدم أحيائها الشعبية لم يبعد عنها المخاطر، إذ تسببت المياه الجوفية التي تطوف فوقها الموصل القديمة بتشققات في جدرانها واستعانت الحكومة العراقية بعد انتهاء الحرب الإيرانية في 1988 بشركة ايطالية لترميمها، وتوقفت تلك الأعمال بعد احتلال العراق للكويت في آب/أغسطس 1990.

بعد سقوط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين في 2003 أضطر عدد كبير من مسيحيي الموصل للمغادرة الى أماكن أخرى آمنة بعد هجمات دموية تعرضوا لها من قبل مسلحين إسلاميين متشددين وأغلقت الكنيسة تقريباً أبوابها قبل أن يؤدي تفجير قريب منها في التاسع من نيسان/أبريل 2008 الى تدمير جزء من برجها وساعتها.

وبعد ثمانية أشهر من سيطرته على الموصل أقدم داعش في مطلع شهر شباط/فبراير من هذا العام على تدمير باقي البرج وإزالة صليب الكنيسة معلناً تدمير رمز آخر من رموز مدينة الموصل بعد أن دمر العشرات من معالمها كمدينتي الحضر والنمرود التاريخيتين وقبر البنت والعديد من الجوامع الأثرية كالنبي يونس والنبي شيت والشيخ فتحي.

المسيحيون النازحون من الموصل يتذكرون بحزن شديد كنيستهم "أم الأعجوبة" وتطوف في خواطرهم مسحة عتاب للأهالي المسلمين المحيطين بها والذين تغنوا بها وضبطوا ساعاتهم على وقعها عقوداً طويلة لكنهم لم يضبطوا أيدي داعش التي عبثت بكنيستهم، هذا لسان حالهم الآن وهم يتذكرون معالمهم التي أصبحت بالنسبة إليهم الآن في أقل تقدير شيئاً من الماضي.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

879 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع