بيسوتو تؤكد أنها لن تنهي اعتصامها قبل تحقيق مطالبها أو وفاتها
بقيت بيسوتو التي تنتمي لأقلية الهيسبانيك (الاسم الذي يستخدمه الأميركيون لوصف أصحاب الأصول الأسبانية)، صامدة طوال 34 عاما في خيمتها المهترئة المصنوعة من البلاستيك في ساحة متنزه لافاييت المواجه للبيت الأبيض، دون أن يحبط عزائمها عدم اهتمام كل من توالوا على سكناه بمقابلتها أو الإصغاء لأسباب اعتصامها.
العرب محمد وديع:واشنطن- في خيمتها التي أنهكتها آثار الشمس ومزقت الأمطار أجزاء منها، التقى محرر “العرب” السيدة التي تجاوزت السبعين من عمرها، واستقبلته بابتسامة من اعتادت اللقاءات الإعلامية، دون أن تتحرك من مقعدها الخشبي أو تترك من يديها اللافتات التي تحملها للتنديد بالصهيونية والتدخل الأميركي في شؤون الدول الأخرى وضد الهيمنة الإمبريالية واستمرار التجارب النووية.
بيسوتو ضئيلة الحجم لكن عينيها تلمعان بفضل الحماسة، تتحدث الإنكليزية بلكنة أسبانية وترتدي شعرا مستعارا (باروكة) بني اللون تغطيه بوشاح.
وبالرغم من أن صيف واشنطن شديد الحرارة هذا العام، إلا أنها ترتدي ملابس صوفية نقشت عليها كلمات تعبر عن الغضب، مرتبة وحريصة جدا على نظافة المكان المحيط بها وتنظيمه، وتقوم كل فترة بإزالة أوراق الشجر من حولها، وقبل أن ينقضي الليل تجمع أشياءها خلف اللافتات لتعود فتنثرها في الصباح التالي.
رحبت بيسوتو بإجراء الحوار عندما علمت أنه سينشر في جريدة عربية، كاشفة أنها كثيرا ما دافعت عن قضايا العرب، ووقفت مع القضية الفلسطينية، ورفعت الكثير من اللافتات التي حملت عبارات تأييد لفلسطين وحقوق شعبها المشروعة، وأخرى تدعو لرفع الحصار عن غزة، وأخرى مناهضة لأفعال إسرائيل الإجرامية.
وقالت إنها بدأت اعتصامها في الأول من أغسطس عام 1981، مع بداية حكم الرئيس الراحل رونالد ريغان، وذلك مع صديق لها يدعى توماس كوني، وكان احتجاجها وقتها على استخدام الأسلحة الكيمائية.
وتسرد بيسوتو ظروف اعتصامها وتعرفها إلى صديقها، فقالت: إنها في أحد أيام صيف 1981 شديد الحرارة جمعت متعلقاتها، واستقلت إحدى الحافلات إلى المنتزه، حيث عسكرت فيه في مواجهة البيت الأبيض، وبعدها بوقت قصير انضم إليها توماس الذي كان قد بدأ التظاهر قبلها بعام، وطرد من بريطانيا، بعد أن مزق جواز سفره الأميركي، اعتراضا على أمور سياسية عدة، معلنا أنه لا ينتمي لأي دولة.
أضافت أن الرئيس ريغان وافق على اعتصامها وصديقها في خيمة بحديقة لافاييت المواجهة للبيت الأبيض، مؤكدة أن الطقوس التي تمارسها لم تتغير منذ 34 عاما، حيث تقف أمام الخيمة منذ الصباح لاستقبال السياح الذين يتوافدون على الحديقة، وكانت في السابق تحاول لفت انتباههم لقضيتها، قبل أن تتحول هي بحد ذاتها إلى معلم سياحي لا تكتمل زيارتهم للحديقة دون المرور عليها.
وكشفت لـ”العرب” أنها لا تملك أي دخل خاص بها، وتعيش على التبرعات التي تصل إلى 15 دولارا في اليوم الواحد، تنفقها على شراء الطعام والألوان الخاصة لكتابة اللافتات، كما تعتمد على ما يحضره المتعاطفون معها من طعام ومشروبات، كذلك بعض السائحين الذين يعطونها القهوة والحلوى والخبز يوميا.
وأوضحت أنها تستحم كل بضعة أيام في ملجأ للمشردين بوسط المدينة، وتنام ما لا يزيد عن 3 ساعات فقط في اليوم، مضيفة أن مشاكلها المعيشية تزداد في الشتاء، حيث لا تملك ملابس تحميها من برودة الطقس، ما يضطرها لتمضية معظم الليالي بالقرب من المحلات المواجهة للمنتزه تجنبا للسعات البرد القاسية.
تتذكر أنها وصديقها توماس الذي توفي قبل سنوات قليلة كانا يوزعان المنشورات ويتحدثان مع المارة ويعرضان لوحات ولافتات للمطالبة باتخاذ موقف ضد التجارب النووية، ولم تدفعها وفاة صديقها للتفكير في إنهاء اعتصامها، وأكدت أنها ستظل مصرة على إكمال ما بدأته، حتى تتحقق مطالبها أو ترحل عن الدنيا مثل توماس.
وأضافت لـ”العرب” بنبرة تتسم بالحدة “لقد ضحينا بالكثير بالفعل، ومستعدة لمزيد من التضحيات لأن القضايا التي أدافع عنها تستحق الكثير”.
ورغم أنه تم حظر التظاهر أمام البيت الأبيض منذ تفجيرات أوكلاهوما عام 1995، فإن أحدا لم يستطع الاقتراب من بيسوتو، التي تفتخر بأنه ولا حتى الرئيس الأميركي يمكنه إزاحتها من مكانها بعد أن أصبحت أحد ملامح المكان، مثل التماثيل التي تزين المتنزه، لكن الأمر لا يخلو من مشاكل، حيث تعرضت للاعتقال عدة مرات من قبل الشرطة، كما اعتدى عليها لفظيا غرباء.
وأشارت إلى أنها من وقت لآخر تتعرض لوابل من الحجارة يلقيها عليها شباب يهودي مستاء من تعاطفها مع العرب، وقالت “إلا أنني أبلغ الشرطة عنهم”، وفي بعض الأحيان يتخطى الأمر الحدود الآمنة ليصل إلى الاعتداء عليها جسديا مثلما حدث قبل سنوات قليلة حين وجه إليها شاب لكمة قوية على وجهها.
ورغم تقادم عمر الخيمة بفعل السنوات والظروف المناخية، إلا أنه يبدو أنها أجريت لها الكثير من عمليات الصيانة والتحديث، كما بدت بيسوتو متابعة لكل ما يحدث في العالم أولا بأول.ولدت بيسوتو في أسبانيا، حيث فقدت والديها في سن مبكرة وتولت جدتها أمرها إلى أن ماتت هي الأخرى فقررت المراهقة الطموحة الهجرة لأميركا، ووصلت الولايات المتحدة في سن 18، وعملت في البداية كسكرتيرة في قنصلية بلدها، ثم في عمر الـ21 تزوجت رجل أعمال إيطالي لكن زوجها طلقها بعد أقل من عامين، لتجد نفسها وهي في الرابعة والعشرين تقريبا بلا زوج أو عائلة أو وظيفة ولا حتى منزل. أمضت 7 سنوات بين محاكم منهاتن ونيويورك، ومدريد في محاولة يائسة للحصول علي حضانة ابنتها، وعندما وجدت أن القضاة ينحازون لطليقها صاحب النفوذ (من وجهة نظرها) قررت أن تأخذ حقها من الشوارع، حيث بدأت تتظاهر خلال أيام إجازاتها أمام البيت الأبيض.
وطالبت الرئيس الأميركي وقتها جيمي كارتر بالعدالة، وكتبت خطابات لليليان والدة كارتر تطلب منها المساعدة وبالتدريج تحولت بيسوتو من المطالب الشخصية، إلى المطالبة بوقف الانتشار النووي، كما زاد حماسها للقضية العربية، بعد أن تابعت مجازر صبرا وشاتيلا في مخيمات الفلسطينيين في بيروت عام 1982، وقضايا حقوق الإنسان في العالم.
1006 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع