تمثال وورود من البلاستك!!
كتب: صفاء ذياب:فوجئ سكان بغداد في أحد أيام العام 2003 باختفاء تمثال عبد المحسن السعدون في ليلة من الليالي الخالية من المارَّة، التمثال الذي كان من البرونز النقي سرقه بعض اللصوص من أجل صهره وبيعه كمعدن من أجل بضعة دنانير، غير أن الحكومة العراقية لم تصمت أمام هذا، فجاؤوا بتمثال جديد للسعدون ونصبوه في مكانه في منتصف شارع السعدون؛ الذي سمي على اسمه، بحجم لا يساوي ثلث حجم التمثال الأصلي، حتى أصبح من النكات التي يتندر بها العراقيون.
هذه الحادثة، ربما كانت الأولى من نوعها، لكنها لم تكن الأخيرة، فقد سرقت تماثيل وهشمت أخرى في أماكن مختلفة من بغداد العاصمة وبقية المدن العراقية… إلا أن ما جيء بها بديلاً عن النصب المسروقة والمهشمة مغايرة تماماً، فنياً وحرفياً وذوقياً، فمنذ العام 2003 وضعت نصب في أغلب ساحات بغداد لا تتناسب مع الذوق العام، ولا تعبأ بالفني والجمالي، فضلاً عن الفضاءات غير الصحيحة التي لا تدل على أي خبرة في المعمار وبناء مدينة كان يفترض أن يعاد رسمها من جديد، لا تهديمها بحسب وصف بعض الفنانين.
في استطلاعنا هذا، نحاول أن نعرف آراء الفنانين في التشويه الذي تعرضت له المدن العراقية
دعم الدولة
يتحدث الفنان ستار كاووش عمَّا حدث من خلل في المستوى الجمالي، قائلاً إنه «منذ أكثر من عشر سنوات وشكل المدينة والشارع العراقي في تغير مستمر وذلك نتيجة الأحداث التي مرت على البلد والظروف المليئة بدخان الحروب». مبيناً أننا نعرف أن الفن في جانب كبير منه هو انعكاس لأخلاقيات وثقافة وطريقة تفكير المجتمع، وبما أن هذه كلها بدأت في الاضمحلال خلال هذه السنوات لهذا أخذ الفن منحى آخر وانعطافة سلبية في أغلب الأحيان على صعيد المادة والموضوع والتقنيات أيضاً. «نحن الذين اخترعنا النحت قبل ستة آلاف سنة ليس لدينا الآن مصهر واحد للبرونز فيه مواصفات فنية لإنجاز تماثيل بشكل محترف. الفن التشكيلي فن يعتمد على المواد والتقنيات بشكل أساسي أكثر من اعتماده على أي شيء آخر. لدينا مواهب كبيرة ومهمة، هذا ليس تفرداً ولا استثناءً، فالمواهب موجودة بشكل طبيعي في أي بقعة من هذا العالم دون استثناء، والمهم هنا هو كيف نوفر لهذه المواهب مواد فنية ومصاهر وبرونز ومشاغل وكل ما يتعلق بالعملية الفنية، كي تنتج أعمالاً تساهم في جعل المدينة أجمل وأكثر عصرية وأشد حضوراً».
ويضيف كاووش: فن النحت يختلف عن الفنون الأخرى، فالنصب النحتية في كل العالم تعتمد اعتماداً كلياً على دعم الدولة، فهي التي تكلف الفنانين بعمل هذا النصب أو ذلك التمثال. لا يمكننا الآن أن نفخر لا بدعم الدولة ولا بما يقدم من نصب بسيطة ولا بذهنية المواطن مع الأسف. «كنا نقول دائماً بأننا لا نملك أعمق ولا أهم ولا أجمل من فننا التشكيلي، لكننا شاهدنا بكل بساطة كيف أن الناس باعت تمثال السعدون بالكيلوغرامات على شكل خردة نحاس! كيف انحدر الوضع في العراق إلى هذه الدرجة؟ المسؤولية في رأيي الشخصي تقع بشكل كبير على الحكومة التي حولت البلد إلى ساحة للنهب والصراع على الكراسي بدلاً من إحياء روح المواطنة وإشاعة الجمال».
صفقات مالية
ومن الفنانين الذين كانت لديهم مشاريع لتأسيس بنية جمالية جديدة، محمد مسير الذي دعته أمانة رئاسة الوزراء لتشكيل لجنة مختصة بالنصب والجداريات في بغداد مع الفنانين هادي ماهود وأحمد نصيف والنحات رضا فرحان وطه وهيب وآخرون «بدأنا بالعمل وكتابة تقارير مهمة عن النصب الموجودة وحجم التلف فيها وطلبنا رفع بعض النصب الجديدة لعدم امتلاكها المواصفات الفنية، وبعد أقل من سنة واجهنا صعوبات في التعامل معهم لعدم جديتهم، وفي النهاية انتهت هذه المجموعة لأن كل ما كنا نعمله كان حبراً على ورق».
ويؤكد مسير أن المؤسسات عملت هذه النصب بشكل صفقات مالية مع فنانين لا يرتقون لمثل هذه الأعمال، وهذه المؤسسات لا تفقه ما تفعله ولا توجد لديها لجان خاصة لإختيار الأعمال المناسبة. هذا بالإضافة إلى ثقافة البلد الجديدة ذات الميول الدينية الرافضة في أكثر الأحيان للنحت والرسم، فمعظم النصب التي أنجزت تحاول الابتعاد عن التشخيص ومالت إلى الطرح الساذج. «إن الموضوعات التي تتبناها المؤسسة الآن موضوعات ليست من خيارات الفنانين، وليس للفنان حرية العمل لتبني فكرة ما، فالمؤسسة هي من تدعم العمل مادياً.. فبالتأكيد هم لا يتبنون إلا ما يرضيهم.. وما يرضيهم لا ذوق فيه» على حدِّ قوله.
شرعنة السرقات
في هذا الاتجاه، يتحدث الفنان صدام الجميلي مبيناً أنه لا يوجد مبرر لإنشاء النصب في العراق اليوم إلا لأسباب خاصة بمموليها. فهي إما أن تكون سبباً شرعياً مموهاً للسرقة والنهب، كأي كلمة (حق) يراد بها باطلاً. أو أن هذا الحق هو حق سياسي أو طائفي يدافع عنه حزب ما أو طائفة للدفاع عن وجودها، من دون فهم المعنى العميق للوطنية مما يشكل خرقا للوطنية بمعناها الدقيق، فضلاً عن الخراب الذي تؤسس له، فهي نصب تقوم بدور معاكس تماماً، فبدلاً من دورها الإيجابي، تقوم النصب اليوم في العراق بأدوار سلبية مدمرة كونها إما أن تكرس للطائفية أو لحزب ما أو لجهل مطبق أو مجانية أو شرعنة للصوصية، كونها تنتج لأسباب نسبية بعيداً عن التعميم الوطني. والأهم إنها تخضع لمزاج الجهات الممولة والتي تجهل بدورها تقنيات وشروط الأعمال الفنية البيئية، فضلاً عن جهلها بالقيم الجمالية لعلاقتها بالثقافة العراقية. كما أنها تجهل القيم الجمالية للعمل النصبي، وبالتالي فإن مجملها أنتجت تحت تأثيرات حزبية أو دينية أو على الأقل إدارية لأغراض دعائية لجهة ما أو شخص ما.
ويضيف الجميلي أن هذه الأعمال تقدم لنا درساً في التلوث البيئي والخراب الثقافي، فلا يدفع بها إلى فنانين بقدر ما يبحث عمن يخلص لتلك الفكرة الإستباقية للنصب نفسه، والتي يؤسسها الحزب نفسه أو الطائفة، والتي تحدد بمبالغ بسيطة مقارنة بمبالغها الأساسية التي تذهب إلى الجهة المتقدمة بالمشروع. الفنان هنا مساهم في الخراب، وهو مسؤول عن كل نتائج الدمار التي تخلفها تلك الخرائب. نحن نمارس من خلال تلك النصب هدماً ثقافياً استراتيجياً ممنهجاً، فضلاً عن كونها تشكل دعماً مضاداً لمفهوم العراق في الثقافة.
بين الماضي والحاضر
انقلبت الحياة فجأة بعد العام 2003 ومعها تغيرت الكثير من السياقات والملامح، ومنها بشكل عام ما يتعلق بالفني والثقافي والذوقي وبشكل خاص ما يتعلق بجمالية المكان والأعمال الفنية التي تنفذ فيه، وهذا بطبيعة الحال انعكس على مجمل العلاقات والنواتج، إذ لم يعد ينظر إلى الثقافة على أنها شيء أساسي في الحياة، وإذا نظر لها فإن العاملين على الثقافة منشغلون بأمور أخرى غير الفن والثقافة، بحسب ما يرى الفنان الدكتور كاظم نوير، مبيناً أن العملية السياسية سمحت بصعود الكثير من المسؤولين إلى عتبات الإدارة والتشريع ممن لا يعون أهمية الفن والثقافة وبناء الدولة، ولذلك فإن الكثير من النصب والتماثيل وحتى الأبنية التي تشكل صورة المدينة والمكان تمت على عجل أو من دون اهتمام واضح أو بصفقات مالية كان الهدف منها سرقة المال العام أو إهداره ليس إلا، هذه التي شوهت معالم المدينة والمكان في بغداد والكثير من المحافظات العراقية. «عندما كنا في بداية حياتنا الفنية كانت هناك لجان لا تسمح لأي عمل فني فاشل أن يعرض في قاعات العرض الرئيسية في بغداد خاصة، أما الآن فهناك ملايين الدنانير تصرف على إقامة معارض فنية لأعمال فاشلة ليست لها علاقة بالفن. من هنا يمكنك المقارنة بين ما يحدث الآن وما تم إنجازه في عقود سابقة، فالأعمال الفنية التي تعرض في الساحات العامة وقاعات العرض الآن لا تعرض على لجان متخصصة ومحترفة، بل يستطيع أي مسؤول إقامة أي نصب من دون الرجوع إلى لجان أو مؤسسات متخصصة».
مقاولون أميون
الفنان هاشم حنون يوضح أنه بعد التغيير أزيلت أعمال ونصب مهمة وكان المفروض الإحتفاظ بها وحصرها في مكان أمين لأنها ملك وثروة للشعب وليس للنظام الحاكم! أما البديل من الأعمال التي زينت بعض الأماكن والساحات فهي أعمال إرتجالية وغير مؤهلة من الناحية الفنية والجمالية، كتمثال الجواهري الذي أقيم في المركز الثقافي البغدادي، وما يحيط به من دلال القهوة، فهو عمل ساذج ولا يمت للجواهري ولا للنحت العراقي بصلة، وحتى تمثال البديل لساحة الفردوس كان مدرسياً لمجموعة من الشباب ولا يمت للنحت. «هذا ما يجعل مدينة بغداد تعود للخلف بعيداً عن التطور وما يشهده العالم من تطور في البناء المعماري وتشويه الوجه الحضاري للمدينة». ويشير حنون إلى الأسباب التي أدت لهذه الهجمة المتخلفة، ومنها عدم وجود كوادر واعية ومثقفة تشرف على إدارة هذه المشاريع، وكذلك إعطاء هذه المشاريع الفنية لمقاولي بناء وليس فنانين أصحاب خبرة ورؤية جمالية، علماً أن هناك الكثير من النحاتين العراقيين المبدعين ممن لهم دور متميز في النحت العراقي وعلى مستوى عربي وعالمي.
عين عوراء
وبصفته متخصصاً في النقد الفني، يحلل الفنان والشاعر مازن المعموري ما ينطوي عليه الموضوع من مفارقات تخص كيان الدولة أولاً، ومن ثم تداعيات اختيار النصب التي تقدم للجمهور في العاصمة تحديداً، إذ إن الخيارات التي تحددها لجان متخصصة في بغداد خاضعة لرغبات وميول المسؤولين، وما يحدث الآن من تشويه للنصب النحتية التي وقفت شاهداً على تردي الجمال في العراق لا ينفصل عن تشوه رؤيوي للحياة السياسية والإدارية في بغداد، إذ لم تقدم لأي فنان معترف به دولياً أي دعوة لمعالجة قضية تخص المجتمع والواقع السياسي لسبب جوهري يكمن في أن الحياة السياسية غير مستقرة أولاً وأن ما يتم تنفيذه لا يتعدى كونه مقاولات وتبييض أموال لأفراد لا علاقة لهم بالفن لا من قريب أو بعيد ثانياً بل أستطيع القول إن بعض النصب الخاضعة للتنفيذ الآن مكرسة تماماً لرغبات الوزير أو صاحب القرار الذي يملك رأس المال وهذا الأمر خاضع بالنتيجة الحتمية لمبدأ المحاصصة الطائفية. والمشكلة الأكبر هي أن النصب النحتية التي أزيلت وضعت الجميع أمام خيارات البدائل التي لا ترقى لأن تكون «مانيكانات» في محال تجارية رخيصة. لذا أجد أن تقاليد النصب والمنحوتات في كل دول العالم تعني إنعكاسات لفكر الدولة والمجتمع وآيديولوجيتهما في الحياة، فالأعمال الرديئة الموجودة في بغداد تعبر بلا شك عن طبيعة النظرة العوراء للحياة العراقية والسياسة المتخلفة بكل ما للكلمة من معنى».
سماء بغداد
ويستذكر الفنان والشاعر عمار بن حاتم بغداد عندما كان يحلق فوقها، «كنت تشعر أنك تحلق فوق متحف كبير لوجود كم هائل من النصب والتماثيل الكبيرة التي تؤرخ لمراحل مهمة من تاريخ العراق الحديث وهذه النصب كانت نتاج فكري وفني وثقافي عظيم لمجموعة فنانين عظام كان يشار عالمياً إليهم وإلى أعمالهم بالبنان، وكانت أعمالهم الشامخة في بغداد أشبه ما تكون علامة فارقة» إلا أن الأمر تغير بعد الاحتلال الأمريكي وبعد أن بدأت إفرازات الاحتلال من تخلف وجهل وتسيد الجهلة من الناس ووصول التيارات الدينية المتشددة إلى سدة الحكم بدأت حملة إزالة التماثيل والنصب التي ليس جميعها كان لها علاقة بحقبة الديكتاتورية، بل إن الحملة قامت بإزالة الكثير من التماثيل والنصب التي هي جزء من تاريخ العراق الذي لا يمكن استئصاله واقتطاعه بسهولة، إذ إنه من المفروض الحفاظ على بعضها وعدم إزالته من الساحات المهمة وسط بغداد والمدن الأخرى، فهنالك شواهد ونتاجات فنية عظيمه تؤرخ لمراحل مهمة من تاريخ العراق.
مضيفاً أنه كان يجب على الحكومة والمسؤولين أن ينظروا إلى الأعمال الفنية كابتكار مجرد وكمجهود شخصي وليس كرمز سياسي يرمز إلى شخصية أو جهة سياسية أو حزب معين يجب استئصاله واجتثاثه، فالعمل الفني هو توثيق حقيقي لأفكار المجتمع في تلك الحقبة ذلك اننا عندما نقول إن هذه الأعمال هي تاريخ، فإننا نعني ذلك وجميعنا يعلم أنه ليس من السهولة اقتطاع أجزاء من التاريخ أو طمسه، وفي حالة أن الحكومة فكرت في إزالة آثار مرحلة سياسية معينة، فإن عليها إزالتها وفق أساليب مدروسة بعدها يتم تجميعها في مكان واحد كان يخصص على سبيل المثال قصر من القصور الرئاسية السابقة وتحويله الى متحف يسرد تاريخ تلك الحقبة كاستذكار وللحفاظ على الأعمال الفنية كمنجز فني وثقافي مهم قد يدرس فيما بعد كجزء من التراث الفني والإرث الثقافي والأهم من ذلك أن لا تشوه ساحات ومدن العراق بأعمال هزيلة تسيئ إلى التاريخ الفني وتشوه جماليات الأماكن، وتكون ملوثات لجمالية وتاريخ الفن العراقي الذي يمتد لأكثر من ستة آلاف عام.
1040 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع