د.عبد الكريم توما: الشـجرة الوارفة بعطائها العلمي
قصدوها من كل انحاء البلاد، وكانت جلّ آمالهم ان يجعلوها تزهو وتكبر، فيكبروا معها، تلك كانت بغداد الجميلة، وحكاية المثقفين والأدباء والشعراء والفنانين والكوادر العلمية الرصينة معها.
اما اليوم،سنسير سوية في رحلة مع رجل العلم الكبير د.عبدالكريم توما، ونزور اهم محطاته، ونستذكرها قليلا عللها تبث قليلا من شعاعها في نفوس اليافعين، ويجدوا ظالتهم في سلوك نفس الجادة التي سلكها استاذنا الفاضل، في العلم وخدمة الأنسان من اجل ان يرتقي به وبمدينته. وهي محطة لتقديم الشكر والأمتنان للجيل الذي خدم الوطن والطلبة منّا نحن ابناء العراق الأوفياء، بأمل ان نزيّن ايامهم وأيامنا بالمحبة والتقدير ، لكل من وضع الأوطان وأهلها نصب عينه، وفاض عليهما بمشاعره النبيلة.
في احدى البيوت الزجاجية بالكلية وأستخدام تقنية جديدة في الأنبات
البداية
د.عبدالكريم توما هرمز شـعوكا، من مواليد العام 1925 في قرية "تلسـقف" التابعة لمحافظة نينوى. بدء الأبتدائية في مدرسة "تلسقف" لغاية الخامس، وأنتقل الى مدرسة "تلكيف" الأبتدائية لأنهاء الصف السادس. ثم انتقل للموصل وأكمل "المتوسطة الغربية" هناك، بعدها التحق ب "ثانوية الزراعة" في مدينة ابي غريب في بغداد، وتخرج منها في العام 1945. مقترن بالسيدة هناء يعقوب اليوسف، ولهما بنتان وولد ، كما ولهما حفيد واحد.
كان اول مشواره مع التوظيف بعنوان "ملاحظ زراعي" في مدينة "زاخو" للعامين 1945- 1946، ثم نقل الى مدينة "شقلاوة" بنفس العنوان الوظيفي للعامين 1946 – 1948. ويبدو ان هذه السنوات الأربع كانت كفيلة بأن تقنع مرؤسيه بجديته وجدارته.
رحلة الألف ميل
نتيجة لأدائه الوظيفي المتميز، فقد أختير في البعثة العلمية لدراسة موضوع "الغابات والموارد الطبيعية" لدورة تدوم (5) سنوات في الولايات المتحدة، على ان يقضي السنة الأولى في الجامعة الأمريكية ببيروت. وبعد ان انجزها بنجاح باهر، اوفد الى جامعة (ايست لانسـنك) في ولاية مشيكان الأمريكية، والتي تعد من اشهر الجامعات في حقول الغابات والدراسات الزراعية، وبحلول العام 1953 كان يحمل شهادة "بكالوريوس علوم" من الجامعة المذكورة. عاد للعراق، وبعنوان وظيفي وأختصاصي جديد في مديرية الغابات العامة، بوزارة الزراعة في العاصمة بغداد. وما ان حل العام 1955 حتى رشــحت مجددا (يقول د. عبد الكريم) لدراسة موضوع "المساحة المستوية والطوبوغرافيا" وذلك في المعهد العالي في مدينة "لاهاي" في المملكة الهولندية والتابع للأمم المتحدة ولمدة سنة واحدة، وبعد انجازي تلك الدراسة منحت "درجة ماجستير علوم" في ذلك الأختصاص المهم. عدت بعدها الى وظيفتي في مديرية الغابات ببغداد، وبادرت الى تدريب المسـّاحين العاملين في تلك المديرية.
في حفل تخرج كلية الزراعة - جامعة بغداد 1978
صناعة الكادر المختص
كانت تلك البعثات العلمية والدراسية، وجديته وأخلاصه في العمل، تمثل منتصف المهمة التي يجب ان تصل مداها الصحيح، فقامت مديرية البعثات العامة بوزارة التربية في العام 1957على ترشيح الأستاذ "عبد الكريم توما" لنيل شهادتين، الأولى ماجستير في الموارد الطبيعية، والثانية الدكتوراه في الفلسفة العلمية وببحث كان عنوانه " دراسة مقارنة للأشجار المنتجة للعصائر الحلوة" ويضيف قائلا: بعد ان انجزت دراستي ، ونلت كلتا الشهادتين بتفوق وأمتياز، عدت الى بغداد في العام 1961، ورجعت الى عملي الأصلي في المديرية العامة للغابات، لكن عاملا جديدا فرضته حالة حصولي على الشهادات العليا ومنها الدكتوراه، فدخلت وزارة التعليم العالي على الخط وفاتحت وزارة الزراعة ذلك للأستعانة بخبراتي وشهاداتي للتدريس في "كلية الزراعة" لمادتي "الموارد الطبيعية" و "المساحة" وهما مجال بحوثي وأختصاصي في آخر دراساتي، وصادف ايضا ان تنتهي مهمة الأستاذ السويسرى الذي كان يدرّس هذه المواد، وقرر العودة لبلاده، فلم يكن لدى الوزارة خيارا افضلا من اختياري لهذه المهمة، وأنا الكفاءة العراقية والوطنية (واطئة الكلفة على الميزانية) فتم ذلك.
حكايتي مع "جزيرة بغداد"
بتكليف من جامعة بغداد في العام 1964، انيطت بي مهمة الأشراف على تأسيس "حديقة نباتية علمية" للأغراض العلمية والبحثية، وتهيئة الموقع للأغراض السياحية، وكان ذلك المكان هو جزيرة بغداد السياحية، والتي كانت تسمى "جزيرة ام الخنازير" اذ تقع في نهر دجلة مقابل جامعة بغداد في الجادرية. ارتأت الجامعة الأستفادة من خبرات (الجمهورية العربية المتحدة) في هكذا انواع من الحدائق، فطلبت منها ارسال احد خبرائها في هذا المجال، وفعلا كان ذاك هو (د.سليمان مصطفى)، اذ رافقته عدة مرات حيث الجزيرة البغدادية، لكي يطلع على خصائصها الجغرافية والطوبوغرافية، ونوع تربتها. وبعد ان أنهى د.سليمان مهمته، قدمت تقريرا بمقترحاته وآرائه بغية الأخذ بها وتطبيقها، وكان من ضمنها ايفاد مسؤول الحديقة المزمع انشائها الى (مصر) للأطلاع على مختلف الحدائق العلمية والترفيهية، وتم بالفعل ترشيحي لهذه المهمة حيث اوفدت في تموز من العام 1965، وأطلعت على الحديقة (الأوزبكية) والحديقة (اليابانية)، بعدها الى مدينة الأسكندرية وألأطلاع على حدائق القصور الملكية والجمهورية. عند عودتي للبلد، قدمت مخططات عديدة بما شاهدته بأمل تطبيق ما توصلت اليه من معلومات مهمة ومفيدة.
لكن، وبمزيد من الحزن والأسى، فقد جرى قتل هذا المشروع في المهد، وأهدرت الأموال والجهود والبحوث، حينما طلبت (متصرفية لواء بغداد حينها) امتلاك الجزيرة ، بغية انشاء المرافق السياحية وتحويلها الى منتجع !
قسم التربة في كلية الزراعة اواسط السبعينات
عودة للتدريس
عدت بعد هذه التجربة للتدريس في كلية الزراعة، وأرتأى احد زملائي التدريسين ان اقوم بتأليف او ترجمة كتاب في موضوع الغابات. وقد رحبت بمقترحه هذا، وتوجهت صوب الترجمة، اذ ان التأليف سيأخذ وقتا وبحثا طويلين، والحاجة كانت ماسة لوجود هذا الكتاب، وأخترت لذلك كتابا مهما أشرفت عليه نخبة اختصاصية تابعة للأمم المتحدة وبعنوان (ممارسات التشجير في المناطق القاحلة)، وبالفعل اكملت ترجمته وقدمته للجامعة التي طبعته وأعتبرته كتابا منهجيا آنذاك. وصادف في ذات العام، 1968 ان طلبت حكومة المملكة العربية السعودية ترشيح من تراه جامعة بغداد مناسبا لتدريس مواضيع (الموارد الطبيعية والمساحة) في جامعة الرياض، وبالفعل ترشحت لهذه المهمة التي اديتها حتى العام 1970.
في العام 1975 اقدمت على تأليف كتاب(المساحة المستوية والطوبوغرافيا) مع الدخول في المساحة الجوية، نتيجة لحاجة مكتبتنا العربية وطلبتنا الى مصدر يساعدهم كثيرا في دراساتهم، وقد تبنته جامعة بغداد وقامت بطباعته مرتان، بعد ان نفذت الطبعة الأولى وبعدد يقارب 4000 نسخة ، ووزع ايضا على جميع اقسام الهندسة (التكنلوجية، المدنية والمعمارية) وكذلك اقسام الجيولوجيا والآثار في جميع جامعات العراق، وضم ايضا الى عائلة الكتب المنهجية والتدريسية منذ ذلك التأريخ (وربما لليوم).
اما في العام 1979 ، فقد طلب مني تدريس موضوع المساحة الأرضية في كلية الهندسة/جامعة بغداد، اضافة الى مهامي التدريسية الكثيرة في كلية الزراعة، وفعلا انجزت المهمة بنجاح. وما ان اذن العام 1980، حتى شعرت بالحاجة الى التقاعد بعد خدمة تجاوزت 35 سنة ، ومازلت اذكر كيف ان كلا من عميد كلية الزراعة د.مهدي، والذي كان زميلا لي، ورئيس جامعة بغداد قد وافقا عليها، فتم الأنفكاك يوم 15/6/1980.
استشاري لدى المنظمة الدولية
لم تمض فترة طويلة على بدء زمن التقاعد، حتى اتصل بي احد زملائي والذي كان يعمل رئيسا للهيئة العلمية والأجتماعية لمنظمة الأمم المتحدة في بغداد (اسكوا) وطلب مني العمل كأستشاري في تلك المؤسسة وبموجب عقد يصدر من منظمة الأغذية والزراعة الدولية في روما. امتد عملي معهم مابين الأعوام 1983-1994، وكنت اقدم الدراسات التي تهتم بتحليل الأمور الزراعية في منطقة غرب آسيا (العراق، سوريا، الأردن، لبنان وأقطار الخليج العربي) بغية وضع الحلول اللازمة للنهوض بأساليب تطوير الزراعة على اختلاف انواعها، مع التأكيد على حصر العوامل المؤدية الى ظاهرة التصحر، وأيجاد الحلول الناجعة لمقاومتها. ومن باب الأمانة ، فقد توفرت لي الفرصة لدراسة التقارير المتوفرة حول تلك المواضيع والمقدمة من قبل نخبة من الأختصاصين العاملين في منظمة الأغذية والزراعة الدولية آنذاك، وكانت معينا جيدا لي.
الفرص الضائعة
لم تكن مسيرتي المهنية بالرحلة السهلة، بل رافقتها الكثير من الصعوبات والمشقات، والأبتعاد عن الأسرة ايضا، وأكرر امتناني للأستاذة والمسؤلين الذين منحوني ثقتهم في الأيفادات، على اني كنت استحقها بجدارة، وحققت اعلى الدرجات والنتائج ايضا، وكانت محطة مهمة في حياتي، كنت اتمنى لو ان الدولة عرفت كيفية استثمار هذه الطاقات على اتم وجه، ورغم ان وقتا طويلا قد مضى منذ ان احلت نفسي على التقاعد (حوالي 34 سنة) الا ان دولا وجامعات ومؤسسات كبرى، لاتترك اصحاب الأختصاصات والشهادات دون ان تستثمر خبرتهم ومعلوماتهم حتى بعد فترة من التقاعد (طبعا بموافقة الطرفين) ، وتحضرني حادثة مازالت مرارتها في فمي لليوم، ففي العام 1979، قررت ان ازور جامعتي التي حصلت منها على شهادة الدكتوراه (جامعة ايست لانسنك في ولاية مشيكان)، وعند زيارتي قسم الموارد الطبيعية، كان استقبالهم لي جميلا، اما المفاجأة كانت عندما شاهدني رئيس القسم ، فنهض من مكانه وقصدني ، ورحب بي بحرارة، ومازالت كلماته ترن في اذني كلما مرت تلك الذكريات وقال: (السيد توما، انت هنا من جديد، لكن هذه المرة لن ادعك تذهب مني، وســوف تدرّس عندنا في الجامعة)، فقلت له اني مازلت اعمل في الجامعة ببغداد، فبادرني القول:(سأعطيك مدة سنة كاملة حتى تصفي امورك، وتأتي الينا انت وعائلتك، وسنمنحك الأقامة الدائمية ، وراتبا يساوي ما يتقاضاه الأستاذ الجامعي الآن)! هذه الحادثة جرت وكان عمري (54) عاما، ولك ان تتصور الفرق في استثمار الكفأت والطاقات المبدعة، ولكن للأسف لم تمض الأمور كما كنت اتمنى، فبعد ان احلت نفسي للتقاعد عام 1980، اردت ان التحق بهذه الجامعة، الا ان قانونا كان قد صدر بعدم منح رخص مغادرة العراق لذوي الشهادات العليا الا بعد مرور سنة على تقاعدهم، فضاعت تلك الفرصة التي كان من المكن ان تغير حياتي كثيرا.
السيرة العلمية والأكاديمية في سطور
1- التحصيل العلمي
- بكالوريوس من جامعة ولاية مشيكان – ايست لانسنك، 1953
- ماجستير في المساحة الجوية، هولندا 1955
- ماجستير من جامعة ولاية مشيكان – ايست لانسنك، 1958
- دكتوراه من جامعة ولاية مشيكان – ايست لانسنك، 1961
2 – الأعمال الوظيفية والمهنية
- موظف في مديرية الغابات العامة – وزارة الزراعة – جامعة بغداد 1945 – 1957 بعناوين: ملاحظ، معاون اخصائي، مدير شعبة ورئيس قسم.
- محاضر ثم استاذ مساعد في كلية الزراعة، جامعة بغداد 1962- 1980، استاذ، كلية الهندسة جامعة بغداد 1980
-عميد معهد الغابات العالي – جامعة بغداد 1963 – 1964
- محاضر في كلية الزراعة – جامعة الرياض – السعودية 1968 – 1970
- خبير المياه والأراضي والمراعي والغابات – وزارة الزراعة – بغداد، 1980 – 1982
- استشاري لدى الوكالات التابعة لمنظمة الأمم المتحدة بموجب عقود 1983 – 1996
UNEP, UNDP , ESCWA , FAO
3 – التأليف والترجمة
- ترجمة كتاب من الأنكليزية الى العربية بعنوان" طرق التشجير في المناطق القاحلة، 296 صفحة بدعم من جامعة بغداد.
- تأليف كتاب بالعربية لتدريس طلبة الجامعة بعنوان: المساحة المستوية والطوبوغرافية ومدخل في المساحة الجوية، 377 صفحة في العام 1975، وطبع ثانية في العام 1977
- ترجمة كتاب من الأنكليزية الى العربية بعنوان: علاج التهاب المفاصل بدون استعمال الأدوية 1999.
- تأليف كتاب بعنوان: شافيا الأمراض والآلام – الثوم والخل، باللغة العربية (تحت الطبع).
- تأليف كتاب بعنوان: امراض التهاب المفاصل والروماتزم- الوقاية والعلاج (جاهز للطبع).
- تأليف كتاب بعنوان: مذكرات ابن الريف من سهل نينوى (جاهز للطبع).
4 – البحوث والدراسات والمقالات العلمية
- اعداد 8 بحوث باللغة الأنكليزية حول مختلف المواضيع المتعلقة بالغابات تم نشرها في مجلات علمية عراقية وأجنبية.
- اعداد 16 دراسة ووثيقة علمية لحساب الوكالات المتخصصة لمنظمة الأمم المتحدة وتم نشرها من قبلها، كان 12 منها باللغة الأنكليزية ودارت حول تطوير القطاع الزراعي وتحسين وأدارة الموارد الطبيعية، وأجراءات منع التصحر في عدة دول عربية بالشرق الأوسط والجزيرة العربية.
مدارات
كانت لتربيتنا المنزلية والتعاليم التي نشأنا عليها،دورا مهما في صياغة شخصيتنا ومواقفنا،ان كان في العلاقات العامة او في الصدق والتعامل والتعاطي مع الوظيفة. ومن المواقف النبيلة التي لا انساها للمرحوم والدي، ان حدث في الفترة التي اضحت الآثار الأقتصادية المدمرة للحرب العالمية الثانية تضرب وتصيب العوائل الفقيرة وذات الدخل المحدود، وكنت حينها شابا يافعا، فتقدمت منه بطلب ان اترك دراستي وألتحق بالعمل لكي اعيل العائلة، فرفض ايما رفض وطلب مني (أمرني) ان اكمل مشواري مع الدراسة، لأنها وحسب قوله، مفتاح السعادة الشخصية وسر خدمة الأخرين والبلد. وحينما استذكر تلك الكلمات، فأني والحق يقال، مرتاح الضمير لسيرتي المهنية وخدمتي للبلد، وعلاقاتي الأنسانية مع الهيئات التدريسية او الطلاب، لكن ما يحزنني كثيرا، وأنا انظر لتلك السنوات التي مضت ، والطاقات الكبرى ، والأموال التي صرفتها الدولة على المشاريع الزراعية والدراسات والجامعات، وأقارن حال البلد اليوم، وما آلت اليه الأراضي الصالحة للزراعة وأنخفاض مناسيب المياه ومشاكل شط العرب ،لا استطيع ان اتمالك مشاعري، وفي زمن كان في العراق 3 جامعات فقط، واليوم عندنا 28 جامعة، لكن كم هو معيب ان يقبل اناس في جامعاتنا الكبيرة وهم يحملون شهادات مزورة! كم هو مهين ومخجل هذا الحال، وكم هو معيب ايضا، ان يرتضي المسؤلون بهذا الأمر ويعتبروه امرا واقعا.
اما الأمر المحزن الثاني فهو، الطريقة التي يجري فيها تقييم وتثمين عملنا نحن التدريسين من خلال الراتب التقاعدي، وبرغم كل واردات البلد العملاقة، فأني لا افهم كيف يمكن لأستاذ جامعي يحمل شهادة الدكتوراه، وله خدمة 35 سنة ان يكون راتبه التقاعدي مساويا لراتب، مستخدم وذو خدمة لا تتجاوز 12 سنة. هذا شئ غير مقبول، ليس بأعتراض المبلغ المالي (الرمزي) وانما هذا يمثل الموقف من جيلنا ومن خدماتنا وحاجاتنا الأساسية.
امنيات
رغم كل ما شهده العراق من حروب وحصار وكوارث ومآسي، لكن كان للوطن مذاقه ومنزلته الخاصة ، اما وبعد ان اخذ العمر منّا نصيبه، فقد وصلت الحالة ان لا اجد في السوق الدواء الخاص لمعالجة حالتي المرضية، فأضطررت للمغادرة انا والعائلة في شهر ايلول من العام 1998، بحثا عن سقف يسعنا، وسماء نستطيع ان ننام تحتها ونحن نشعر بالأمان، فكانت مدينة ديترويت الأمريكية التي وصلناها في حزيران 2001، الأرض التي جمعتنا مع العائلة والأقارب والأهل وكثير من الأصدقاء وحتى بعض تلامذتي. وبالحقيقة، فأني ومنذ وصولي ، انا في حركة دؤوبة ومستمرة في الكتابة ومراسلة المجلات والجرائد المحلية الصادرة هنا ومنها (مجلة القيثارة) التي يشرف على اصدارها السيد سلام رومايا، احد تلامذتي في كلية الزراعة، كما وأعمل على اكمال العديد من البحوث والتي اتمنى ان يكون لي متسعا من الوقت حتى اضعها بخدمة وبين ايدي من يستطيع الأستفادة منها.
وحينما يسألني احدهم عن امنياتي الشخصية، فأني وبلا انتباه، اقفز الى امنيتي الكبرى للعراق، حيث اعرف ما مدى تأثير الأمن والسلم والأستقرار على اهله وناسه، كما وأرنو لليوم الذي تقود دفة بلدنا فئة متســمة بروح التسامح والمحبة والوفاق والأخلاص، لكي يتمكن الشعب العراقي من العيش، وهو الذي جرّب الحرمان والمآسـي لسنين طويلة وما يزال، للأسف.
**قبل ان انهي لقائي مع د.عبد الكريم توما، طلبت منه بعضا من الصور الفوتوغرافية من حياته الجامعية او المهنية، فأجابني بحسرة واهنة (هو وأفراد اسرته): لا توجد عندنا صور، لقد تركناها في العراق، لقد تركنا كل ذكرياتنا، وصورنا والمجلات، ولا نعرف مصيرها الآن، نحن هنا بلا صور، بلا ذكريات!!
وبالحقية فأن هذا الكلام اثار عندي حزنا ممزوجا بالغضب، على حالة التناقض التي يعيشها المواطن، وعلاقته بالأنظمة. فالحاكم له حرية التصرف والتنقل، لابل حتى اخذ (شوايات اللحم) معه عند السفر، وكذا مع طاقم لعمل (السمك المسكوف)، لكن المواطن الذي خدم البلد بأخلاص، يخشى من حمل صوره الشخصية، من حمل ذكرياته عند السفر! يالها من مفارقة عجيبة.
اما الصور المرفقة، فهي مشاركة من الصديق (سعد كاظم) خريج كلية الزراعة/بغداد في العام 1978،شكرا له. وللأمانة اقول، ان الكتابة عن سير المربيات والمربين الذين خدموا في العراق ليست الا مبادرة آمل منها شيئان:
الأول،ان نقول لهم شكرا وألف شكر على جهودكم وصبركم وتضحياتكم من اجل بناء الأجيال،
والثاني، ان نعزز بيننا، نحن سكنة بلاد الغربة ، تقليدا حضاريا في الأحتفال والأحتفاء بكل من خدم في العراق او خارجه، خاصة اذا كان على قيد الحياة. ان نشكره، ونشكر عائلته، وأن نزيده قدرا وأحتراما على ما هو عليه، ان نرفعه عاليا لمصاف النجوم. انهم ابناء شعبنا ويستحقون منّا كل المحبة والتقدير، ومنهم د. عبد الكريم توما.
كمال يلدو
حزيران 2014
1270 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع