كمال يلدو:في يوم الثلاثاء 24 حزيران 2014، طوى عميد رجال الأعمال الكلداني/ العراقي مايك جورج، عن عمر ناهز ال 81 عاما ، صفحة مهمة في تأريخ الجالية، تاركا ارثا كبيرا وذكريات لاتعد ولا تحصى في اهم مفاصل وحياة الجالية، منذ ان كان سكانها (من المهاجرين الكلدان) يعدون بالعشرات، ليومنا هذا، حيث يعدون بعشرات الآلاف، وبوزن اقتصادي وأجتماعي وسياسي وثقافي كبير ومؤثر.
البداية
ولد الراحل مايك جورج (ميخائيل – مايكل – مايك) في مدينة ديترويت، من ابوين كانا قد هاجرا من بلدة تلكيف العراقية في 20 كانون اول 1932، وكعادة كل اليافعين فقد آثر العمل لمساعدة عائلته، لدرجة انه كاد ان يترك دراسته ليتفرغ للعمل، لولا اصرار والده بأن يكمل الدراسة لأنها طريقه نحو التقدم والعطاء. وبعد ان حصل على شهادة الدراسة الثانوية من " المدرسة المركزية العالية للكاثوليك في ديترويت" عام 1950، انضم للعمل مع والده وشقيقه في شركة الألبان التي كان اسمها (جورج وأولاده). وعقب التحاقه بالخدمة الأزامية في (الحرب الكورية) وتسريحه منها، عاد للعمل من جديد. كان عمله مع والده وشقيقة (شاركي ) عبارة عن المختبر والمدرسة التي رسـخت عنده وأختزلت تجربة كبيرة ليس في حب العمل فحسب، بل في تملك ناصية الجرأة والأقدام بيد، وحب الناس ومساعدتهم في اليد الأخرى. فعائلة والديه تنحدر من القرية وحياة الفلاحين البسيطة، وعشية ولادته كانت الولايات المتحدة تمر بأسوء ازمة اقتصادية، فكان لهذه الخلفية اثرها الكبير الذي سيلازمه طوال حياته، حتى حينما بلغ ما لم يبلغه احدا من اقرانه او ابناء جيله، من المكانة والنجاح على كل الأصعدة. اقترن بالسيدة (نجاة دخـو) وأنجبا 6 اولاد، ولهم الآن 10 احفاد.
استغرقت مسيرته ما لايقل عن ثلاثون عاما (عقود الخمسينات والستينات والسبعينات) حتى وصل الى مصاف رجال الأعمال المتميزين في ولاية مشكان، ولتكون شركة الحليب ومنتجات الألبان (ميلودي فارم) حجر الأساس لمشروعه الأقتصادي العملاق والذي وصل مدياته بحوالي 19 مشروعا، موزعة بين العقارات والفنادق وشتى الأعمال التجارية والغذائية، وكان امينا على نصيحة ابيه في ان لايحصر نفسه في المجال (الخدمي) بل ان يفتح الأبواب واسعة امام الدخول والأبداع في المجال الأنتاجي، ولهذا فقد طوّر كثيرا مزارع شركة الألبان وأضاف اليها عدة فروع لتصبح واحدة من (عمالقة) منتجات الحليب والألبان، في المنطقة والبلد. ان هذا الأساس منحه فرصة ذهبية عرف كيف يستثمرها، ليس لغناه فقط (وهو الذي وصل الى ما وصل اليه) بل ليكون نموذجا فذا للقادمين الجدد الذين تزايدت اعدادهم بشكل ملفت مع دخول عقد السبعينات، وليشاركهم بخبرته في ايصالهم الى احلامهم بالرفاه والتقدم الأقتصادي.
لقد تمكن (مايك جورج) من ان يتبؤ مركزا تجاريا مرموقا في مدينة ديترويت، نتيجة لتعاملاته، ولتملكه شخصية فريدة في صدقها، وفذة في طموحاتها، فقد صار طريقه معبدا لنيل تقدير وأحترام وثقة البنوك والمصارف الأمريكية، والتي تعتبر العمود الأساسي لأي تقدم في المشاريع الأقتصادية، اذ لم يتوانى ابدا في تسخير هذه الأمكانيات الجديدة لدعم ابناء الجالية الذين كانوا عطاشى للعمل والتقدم، وبالفعل، قام بأستثمار امكانياته في (شركة الألبان) بتوفير القروض التجارية ، التي ساعدت المئات ان لم اقل الألوف لفتح المحلات التجارية، والأسواق، او في التوجه نحو العمل العقاري الخلاق، تلك الفرص التي كانت صعبة جدا على جيل كبير لم يملك ناصية العلاقات مع البنوك او لينال ثقتها وضماناتها (الكفالات)، ناهيك عن قلة الخبرة في التعاملات التجارية في السوق الذي كان جديدا على الكثيرين، لكن للذي تعامل مع (مايك جورج) ، فقد كان قد وضع كل خبرته ومعارفه ومعلوماته الأقتصادية في خدمة ابناء الجالية، من اجل تقدمهم ورفعتهم، حتى اطلقوا عيله كلمة ( العم مايك – آنكل مايك) لمحبتهم وتقديرهم ، كما ستحسـب له الجالية والأيام، دوره الكبير في تأسيس اول بنك بحدود العام 2005، يدار برؤوس اموال من الجالية الكلدانية بديترويت ، وهو "مصرف مشيكان" الذي يؤمل ان يلعب دورا كبيرا في العملية التجارية والأقتصادية والأستثمارية المحلية.
قوة الأنسان
لطالما ردد (مايك جورج) عبارته المشهورة مع المحيطين به (( قوة الأنسان وعظمته تكمن في خدمته للآخرين))، هذه الكلمات التي وضعها موضع التنفيذ، ولازمته في كل مراحل حياته، وأقترنت معه في (الحلوة والمرة)، ولهذا فقد عرف عنه اكثر من صورة رجل الأعمال الناجح. عمل طوال مسيرته على مساعدة الآخرين، وعرف عنه بأنه كان يرعى الكثير من الأرامل، وقدم المساعدات السخية لمنظمات الجالية الخيرية، وساهم في تأسيس اول صرح للجالية (الجمعية العراقية – الكلدانية الأمريكية)، ولاحقا كان له الدور الكبير في بنائها (جنبا لجنب مع نخبة طيبة من ابناء وبناة الجالية)، ومن ثم في انتقالها الى مقرها وبنايتها الجديدة والتي تحمل اليوم اسم (نادي شانون دوّا) والذي يضم ، ملعبا كبير للعبة الكولف، وناديا اجتماعيا وقاعات للرياضة، حيث يعتبر احد اهم المراكز الترفيهية، والأجتماعية والثقافية . وفي السنين الأخيرة اضاف لسجله الأنساني، دعمه الكبير لمساعدة اللاجئين العراقين في دول الجوار، اذ انه رعى بشكل متميز مشروع (تبني عائلة لاجئة) وفتح مكتبه ، بكل امكانياته لمساعدة اللجنة القائمة على هذا العمل .
احلامه مع الجالية
في رحلته الطويلة، لم يقبل ان يكون متواريا عن الأنظار، او واقفا في الظل، كان هدفه السامي اعلاء شأن الجالية وأبنائها، وربما (للأنصاف) يمكن القول، بأنه لعب دورا بارزا (مع طيف خلاق من الجالية) في وضع اسم "الكلدان" بدائرة الأهتمام عند المسؤلين الأمريكان، المحلين او على صعيد الدولة. فقد تميز بعلاقاته مع ابرز وأهم رجالات مجلسي النواب والشيوخ في الولاية او في واشنطن العاصمة، ومع المسؤلين الكبار وصولا الى رؤساء الجمهوية الذين تطرز صورهم التذكارية سوية معه، جدران مكتبه او منزله، وهو لم يحتفظ بهذه العلاقات له فقط، بل سخرها بكل ما اوتي من قدرة لكي تكون في مصلحة ابناء الجالية العراقية هنا، فكان حريصا على دعوتهم الى مركز الجالية في (ساوثفيلد مانور او شانون دوّا لاحقا)، ويمهد للعلاقة مع ابرز الوجوه الأجتماعية والكنسية والثقافية والسياسية وحتى للجيل الجديد، من اجل ان يكون لهم التواصل والتأثير المتبادل لاحقا. ويستدل من كلمات الثناء التي كانت تقال بحق (مايك جورج) من هؤلاء المسؤلين ابان الأحتفالات واللقاءات او في الحملات الأنتخابية التي كانت تجري، وليس غريبا ان يلقبوه ب (الأب الروحي – كاد فاذر) للجالية في ديترويت.
حينما كان منغمرا في المساعدة بتقديم (القروض المالية) لأصحاب المصالح او المبتدئين الجدد، لم يخشى يوما ان يكبروا ويصبحوا منافسين له! بل بالعكس، فقد كانت الفرحة تعتمره وهو يرى هذا الجيل يكبر وينمو ويزداد تأثيره في السوق، وتترادف كلمة السوق او التجارة او المحلات او الكفاءات مع كلمة (كلداني – كالديان) تلك التسمية المحببة، ايما حب لقلبه الودود. وكم من مناسبة كان يتقدم اليه احدهم، ويشكره على دوره في مساعدتهم للوصول الى ما وصلوا اليه نتيجة قروضه لهم، او مساعدته بنصائحة ومشورته، اما حينما كان يدخل قاعة احتفالات الجالية او الأعراس، فليس من باب المبالغة ان اقول، بأنه كان نجم تلك الأماسي بلا منازع، ومن جانبه، فأنه لم يتوانى عن اخذ السماعة ومخاطبة الجموع، بطرفة او نكتة او حكاية جميلة، وباللغة المحببة الى قلبه ( السورث – الكلدانية) التي كان يجيدها ، رغم ولادته في هذه البلاد.
اما اجمل اللحظات التي كانت تمر على خاطره، فكانت تلك التي يكون فيها شاهدا في احد احتفالات الجالية بتخرّج الجيل الجديد من الثانويات او من الجامعات،وهم يقفون صفوفا صفوفا ، بأمل ان يدخلوا معترك الحياة من اوسع ابوابه المعرفية. كان دائم القول في تلك المناسبات بأنهم : " مستقبلنا، وهم من سيرفعوا شأن الجالية وأسم الكلدان عاليا"، وكم كانت كلماته صادقة ونحن نشهد اليوم هذا الجيل ، وبأعداد كبيرة ، من اصحاب الشهادات والأختصاصات ، متوزعين ومتداخلين في كل زوايا الحياة، ليس في ولاية مشيكان فقط، بل في معظم الولايات الأمريكية، يجمعهم القاسم المشترك الأعظم، في حبهم لجاليتهم الكلدانية، ولوطن آبائهم وأجدادهم ، العراق.
اما في السنوات الأخيرة، فأن اكثر ما كان يؤلمه حال العراق والعراقيين، خاصة حينما يسمع عن قصصا مريعة مرت على الكثير من اللذين وصلوا لهذه الديار، او من مشاهداته ومتابعاته للأخبار، ولهذا فقد كان سخيا في دعم برنامج مساعدة (تبني عائلة لاجئة) او حتى في مساعدتهم هنا، والمنظمات الأنسانية القائمة عليهم.
كلمات اخيرة
برحيل هذا الأنسان، لي يقين كبير بأن ارثه وسيرته وأنجازاته ستبقى محط اعجاب وتداول لسنين كثيرة قادمة، اما جرأته وثقته العالية بنفسه، وحبه (الغير طبيعي) لجاليته ولمساعدة الناس بكل مشاربهم، فأنها حتما تبقى نبراسا ينير دروب الكثيرين. اما دوره في ابراز الجالية الكلدانية وأعلاء شأنها وتعزيز مكانتها، فهذا الأمر لن ينتهي برحيله عنّا، اذ اننا نفخر بجيل كبير من (ابناء وبنات) الجالية الذين لا يبخلوا بوقتهم او مالهم او عطائهم وعلمهم، لأكمال مسيرة الأنسان الطيب (مايك جورج)، وقد تأتي الأيام ونشهد، بأن الطريق الذي ولج به الراحل، سالكة ولها الكثيرين ممن هم مستعدين لأكمال ما بدئه (مايك) او ممن سبقوه أو عاصروه ، على الصعيد التجاري والأقتصادي وبروز رجال اعمال ناجحين وكبار من الجالية، او في الجوانب العلمية والثقافية ومجال الأختصاصات الطبية والهندسية وفي الأعمال، او في المجالات الأجتماعية والتضامن بين ابناء الجالية والسمو بالعلاقات، او حتى بنشاط منظماتها الأنسانية والثقافية وبراعتها في منجزاتها، كل هذه النجاحات لم تكن لتزهو بهذا الحجم، لولا وجود عمل ومثابرة وسهر وتضامن اناس خيرين من الجالية مثل (مايك جورج) وجيل كبير معه، كان ومايزال.
الذكر الطيب للأنسان الرائع، مايك جورج
العزاء والمواساة لزوجته الغالية (نجاة) وأبنائه (أنتوني ، روبرت ، رودني ، ليني ، سكوت ومايكل جورج الثاني) وأحفاده وكل اصدقائه ومحبيه،
فمن المؤكد اننا سنفتقده في مناسباتنا وأحتفالاتنا.
** شكرا لمجلة (اخبار الكلدان – كالديان نيوز) لموضوعها القيّم عن الراحل، والصور الجميلة المنشورة، والشكر موصول للغالي عادل بقال الذي كان صاحب المبادرة لعمل اللقاء الصحفي معه، لكن يد القدر كانت اسرع بعدة ايام، فكانت هذه المقالة بديلا عن اللقاء، عسى ان تكون وافية بحق هذا الأنسان المبدع والرائع.
كمال يلدو
حزيران 2014
1225 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع