مطرب المقام الأول محمد القبانجي وحكايته مع جاره اليهودي
بقلم/محمد مجيد الدليمي
من منا لا يعرف مطرب العراق الاول المقامي محمد عبدالرزاق الطائي الملقب بـ( القبانجي ) ( 1900-1989)، فقد اطرب الناس بقراءة المقام العراقي وغنائه البستات البغدادية الجميلة، بصوته العذب الشجي الذي ترتاح اليه النفوس والقلوب فينسيها همومها، ويذكرها بأيام العز والخير.. فبات فنه الاصل خالدا في ذاكرة العراقيين والعرب، فهم يرددون مقاماته واغانية اينما حلوا وارتحلوا، فيطربون لها.
ولد محمد القبانجي في بغداد بمحلة سوق الغزل. عشق قراءة المقام منذ الصغر، فأخذ اصول قراءته من والده المرحوم عبدالرزاق الطائي الذي كان يهوى المقام ويقرأه في حفلات شعبية خاصة تضم اقاربه واصدقاءه، وبعد ان ترك محمد الدراسة عمل قبانجيا في علوة عمه (علوه جبر) في منطقة الشورجة، ومن هنا جاء لقبه (القبانجي).
وخلال تلك الايام كان يتردد على مقهى شعبية اغلب روادها من المطربين والموسيقيين من بينهم قدوري العيشة وسيد ولي ورشيد القندرجي ومحمود الخياط، وينصت لأدائهم ويتعلم منهم القراءة الصحيحة للانغام المقامية، حتى استطاع بمرور الزمن ان يكون قارئ مقام متميزا، نال اعجاب الناس، واتسعت شهرته في العراق والوطن العربي. وطوال سنوات حياته ضحى محمد القبانجي بكل شيء من اجل ان يحافظ على قدسية التراث المقامي ويحميه من ازمة التكسب ويدافع عن محتواه الاصيل ضد المفردات والالحان الغريبة، وأن يرفع مستواه. وفي جلسة دردشة جمعتني مع بعض المهتمين بالتراث الشعبي في مقهى الشابندر، دار حديثنا عن محمد القبانجي وايام صباه وشبابه، فانبرى الباحث التراثي البغدادي فؤاد طه محمد وقص علينا حكاية بغدادية طريفة عن القبانجي نقلها عن قدامى اهالي محلة سوق الغزل ومفادها:
في احد الايام وبعد صلاة المغرب زار ضيوف من الرجال بيت عبدالرزاق الطائي والد محمد القبانجي، وهم اصدقاء قدامى وعلى اثر ذلك طلب عبد الرزاق من ابنه الصبي محمد الذهاب الى محلة الدهانة لشراء كمية من السمن (الدهن) لكي يطبخوا وجبة العشاء للضيوف. خرج محمد من بيته وسلك الطريق المتكون من درابين وازقة ضيقة تؤدي الى محلة الدهانة وخلال الطريق قابل بعض أصدقائه، وبدأ يدردش معهم عن المدرسة والمعلمين، بعدها ولسوء الحظ وصل متأخرا الى محلة الدهانة حيث ان اصحاب دكاكين بيع الدهن قد اغلقوا ابوابهم. حزن محمد القبانجي وسيطر عليه شعور بالخوف من معاقبة والده له، خاصة ان عشاء الضيوف قد تأخر!.
رجع مهموما، وفي الطريق وقبل وصوله الى الدار سمع اصواتا لأغاني المقام العراقي وموسيقى الجالغي البغدادي تنطلق من بيت يهودي معروف في الزقاق (صديق والده) كان يهوى المقام العراقي والبستات البغدادية، وقف محمد ليشنف اذنيه الموسيقيتين ويسمع الطرب الاصيل بأصوات مطربي المقام الاوائل، حاول ان يحني قامته تحت شباك غرفة اليهودي المطلة على الزقاق حتى لايشاهده وظل يسمع الالحان المقامية ونسي نفسه، وعندما سمع مقاما حزينا تأثر به، وبدأ يبكي بصوت خافت وعيونه تدمع .. وبحركة منه احدثت صوتا سمعه اليهودي فهرع مسرعا الى ناحية الشباك ليرى من هناك! فشاهد محمد القبانجي وعيونه تدمع، فضحك الجار اليهودي، وقال :
هذا انت يامحمد، اعرف انك تهوى المقام والغناء وتتأثر به، لكني اسألك قل لي من الذي جاء بك بهذا الوقت؟ وكيف عرفت اني فتحت القوان؟.
اجابه القبانجي :
والله عمي في الحقيقة والدي ارسلني الى محلة الدهانة لجلب السمن لعمل وجبة عشاء لضيوفه، لكني وجدت الدهانة كلها مقفلة، فرجعت الآن وانا خائف من عقاب والدي على تأخري.
قال الجار اليهودي: بسيطة ابني محمد، (لادير بال) سأعطيك كمية من الدهن، وسأذهب معك الى والدك، لأدافع عنك، وابرر له تأخيرك..
وعند وصولهما للبيت، خرج عليهما عبدالرزاق الطائي الذي تفاجأ بجاره اليهودي ومعه محمد فقال:
اهلا وسهلا بجارنا العزيز، تفضل هذا بيتك.
فقال اليهودي: شكرا ابو محمد الورد، لكني جئت اليك اطلب منك ان تسامح ولدك محمد، لأنه تأخر، وان دكاكين الدهانة، وكما تعرف، تقفل ابوابها قبل اذان العشاء، وانه طلب مني المساعدة بعد ان وجدته جالساً خلف شباك غرفتي يستمع لأنغام المقام المنبعثة من القوان، وكانت عيونه تدمع طربا وخوفا منك. ضحك عبدالرزاق واجاب :
انت عزيز علينا ولخاطرك سامحته، لقد طلبنا من جارنا الدهن وطبخنا وجبة العشاء للضيوف بعد ان يئسنا من عودة محمد، والآن لا توجد مشكلة، وعليك ان تمسي عدنا هذه الليلة. إلا ان الجار اليهودي اعتذر وشكره على الدعوة وعاد الى بيته فرحا ومسرورا، لأنه انقذ محمد القبانجي من عقاب والده!!.
688 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع