رمضان في الجيل الماضي.. ذكريات وطرائف
تفرد شهر رمضان الكريم بخصوصية متميزة تتعلق بطبيعة كلّ بلد وعاداته، وشهر رمضان في العراق يحييه الملايين بكلّ تفاصيله وطقوسه المستوحاة من البيئة العراقية الأصيلة، فكانوا يستقبلون الشهر بالفوانيس الزيتية وتنار منائر الجوامع ابتهاجاً بقدوم الزائر الكريم، وقد استعاضوا عنها اليوم بالمصابيح، تقاليد الأمس لا تزال حاضرة في أجواء رمضان اليوم مع انحسار البعض منها وزوال الآخر.
رمضان والشورجة
اسم رمضان في العراق يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسوق الشورجة، حيث تنبعث من متاجرها روائح البهارات والتوابل المميزة وكذلك الشرابت لها صناعة قديمة ولا أدري من أين جاءت كلمة شربت، واعتقد أنها كلمة فارسية أو تركية وهي العصير الطبيعي أو الصناعي ومن أشهر العصائر كانت تسمّى الجميلي وكان من الهدايا والمرضى وهناك العديد من الشرابت لتي كانت تصنع محلياً مثل البلنكو وماء الورد والبطيخ ونومي البصرة والرمان وتمر الهند والحلويات علامة دالة على الفرح وتقدّم في الأفراح والمناسبات وكانت قبلها التمور ومن الحلويات :
المحلبي ، البالته ، البادم ، الكركري ، العجور ، العنبر ورد ، الجق جه قدر ، بيض الكلك ، البقلاوة ، الزلابية ، برمة ، الدهينة ، العوامات ، الكاهي ، المدكوكة ،حلاوة التمر ، حلاوة الجزر ، الزردة ، من السما ، كرات جوز النهد ، حلاوة الراشي ، وكانت اقدم الحلويات ، الحاج جواد الشكرجي ، .
كان البغداديون يستقبلون هذا الشهر المعظّم بكل ترحاب واحترام، فقبل عشرة أيام من طلوع هلاله تلبس أسواق بغداد حلّة جديدة فتعرض ما لذَّ وطاب من مشهيات طعام الإفطار والأمسيات، وعلى رأس الأطعمة أنواع التمور والألبان والشوربة إضافة الى ما ذكر.
صادق الازدي : رمضان والناس
يذكر الأستاذ صادق الازدي الصحافي العراقي الرائد : لقد كانت لرمضان عند أهل بغداد قدسية وحرمة خاصة، فترى معظم الناس يؤدون فرض الصيام وأغلب العوائل كانت تدفع أبناءها عليه، وكانت بعض الدكاكين تتحول إلى محال لبيع (الزلابيا والبقلاوة وشعر البنات) وأذكر أنه قبيل الإفطار كانت والدتي تطلب مني أن أسال عن الوقت، فأضطر للوقوف في باب دارنا أسأل كل من يمر، وقد لا يمر من يحمل في يده ساعة بعد ذلك كنا نذهب أنا وبعض الصبية من أبناء الطرف وكلٌ منا يحمل بيده (لفة) من الطعام الناشف لنقف في باب الجامع، نترقب مدفع الإفطار وصوت المؤذن فنبدأ بالتهام طعامنا، ونعود راكضين في الأزقة ندعو الناس للإفطار.
وكم كان للطوب (مدفع الإفطار) وقع حسن في نفوسنا. حيث تتجمع العائلة حول مائدة الإفطار الذي يندر تعدد أصنافه في غير هذه المناسبات. أما أماسي رمضان فكانت جميلة وساحرة فتجد الكبار يقومون بلعبة (المحيبس) أو (الصينية) وكبار السن يذهبون إلى الجوامع لحضور المجالس الدينية أو لسماع القصص من كتاب يقرأه عليهم شخص يجيد القراءة.
أما المحلات العامة فكانت كلها تغلق أثناء النهار ولا تجد من يفطر علناً وذلك احتراماً ذاتياً لمكانه شهر رمضان. أما أنا فكنت أقرأ على بعض أهل الطرف قصص عنتر بن شداد والزير سالم والمياسة والمقداد وشعر عبود الكرخي.
رمضان في محلة باب الشيخ
كان مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني وما زال يؤثر في طريقة حياة أهالي المحلة وتلعب الطقوس الدينية والممارسات التي يمارسها زوّاره دوراً كبيراً في تفرد محلة باب الشيخ عن باقي المحلات البغدادية المجاورة رغم تلاصق وتلاحم الأزقة والمحلات. فقد كان المكان يضجّ بالزوار والحجاج والشيوخ الدراويش والمتصوفين طوال أيام السنة ولكن حلول شهر رمضان في محلة باب الشيخ له طعم ونكهة خاصة لا يعرفها أهالي بغداد كما يعرفها ويعيشها (الشيخليون) عبر العصور.
كان أهل محلة باب الشيخ يستقبلون قدومه حين يقترب موعد مراقبة الهلال وعن موعد الرؤية يصعد أهالي باب الشيخ الى سطوح دورهم العالية لمراقبة السماء وحين يظهر الهلال تزف البشائر بإطلاق النار من مسدسات (الوبلي) أبو البكرة في الهواء وتهلل النسوة بالزغاريد ويكبّر المؤذن من على منارة الحضرة القادرية فرحاً وابتهاجاً لمقدم الشهر، بعد ذلك تبدأ مراسيم استقبال رمضان بإعداد المطبخ العائد الى المسجد القادري (الشوربة خانة) وتطهى في القدور الكبيرة وجبات الإفطار الواسعة العامرة والتي تقام في كل يوم من أيام شهر الصوم. ولهذه الموائد التي كانت تقام في الماضي البعيد في ديوان الأسرة الگيلانية (الدركاه او الديوه خانة) من قبل السادة الكيلانيين بأسلوب خاص متبع لديهم منذ العهد العثماني، إذ كانت هذه الوجبات تقدم لجميع شرائح المجتمع من كل يوم وجبة افطار لطبقة من الناس وكانت تتم طيلة أيام شهر رمضان في (الديوه خانة) اي ديوان الحضرة القادرية التي تقابلها والتي يفصل بينهما شارع باب الشيخ.
وبعد الإفطار يذهب الرجال الى صحن الحضرة لأداء صلاة التراويح وبعد ذلك يتفرق الناس الى شؤونهم المختلفة، فمنهم من يذهب الى الجلوس في المقاهي المنتشرة في المحلة ومنها مقهى ياس وكان باتصال معها مباشرة مقهى صيفي تابع لها، كانت تمارس فيه لعبة الصينية، ومن أمهر لاعبيها القدماء خضير القصاب.
وبعد ذلك تلعب لعبة المحيبس الشهيرة بعد أن تأتي الى باب الشيخ فرق احدى محلات بغداد الأخرى، اذ تستمر هذه اللعبة الى السحور وهي لعبة لها محترفوها وإسطواتها، وفي منتصف رمضان تأتي من مدن كركوك والسليمانية مجاميع من المتصوفة الدراويش لإقامة حفلات الذكر والاحتفاء بليلة 27 رمضان إذ يقرأون التواشيح وقصائد مدح الرسول على ايقاع الدفوف.
الفطور
لدى حلول وقت الفطور تنصب أم البيت الصينية الكبيرة أو السفرة الحافلة بأصناف الطعام، ويصعد الصغار الى السطح العالي للدار لسماع اذان المغرب، وبمجرد انطلاق الأذان يصيح الصغار :
يا صايمين افطروا كشفوا النجانة واكلوا
كما أن لشهر رمضان نكهة خاصة في تهادي الأطعمة بين الجيران، فإذا اكرمت أم البيت بطبق من الجيران فإن هذا الطبق لايعود فارغاً إلا وقد ملأ بطعام آخر، وهذا التهادي يحصل حتى في أوقات السحور مما يعزز المحبة والتواصل بين أفراد المجتمع، ويسهم في تقوية النسيج الاجتماعي وتعزيز قيمه.
وفي شوارع بغداد ومحلاتها يجوب بائعو الحلويات عارضين مالذَّ وطاب وكل ينادي بنغم خاص ليعلن عن سلعته فيصيح أحدهم:
"أزلابية وبقلاوة وشعر بنات، وين أولي وين أبات، ابات بالدربونة، أخاف من البزونة، أبات بالمحطة تجي علي البطة".. فيما ينادي بائع الزلابية:"ابعانتين اوگيته، بعيار البلدية، والدهن دهن لية، ولحد يعتب علية".
إعداد: ذاكرة عراقية
670 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع