(أوراق وومضات جميلة وذكريات عن حدائق وورد البيوتات أيام زمان)

  

(أوراق وومضات جميلة وذكريات عن حدائق وورد البيوتات أيام زمان)

      

       

                             

في ذاك اليوم المشمس الجميل في دبي وفي أحدى المطاعم  الجميلة  المبنية بطراز شرقي تتخلله حديقة ممتلئة بالأوراد واشجار النخيل اليانعة وبعض من شجيرات السايكس جلسنا في أحدى طاولاتها تحت ظلال أشجارها، لنمتع بها أنظارنا مع وجبة غداء شهية مع ابنائنا، وبدأنا نسرد لهم حلو ايامنا نتذكر حدائقنا وورودها وأشجارها وكم كانت جميلة، فكان لنا في كل فصل وموسم حلو ذكريات، إن كان ثمة إنسان لازال يعابث الذكريات مثلنا، قلما بأمكانه أن يسطر في كلمة أو سطور تركها دون أن يعرف مبلغ الشوق الرابض في أعماقه من ولع وشوق،  لو كنا وحدنا محاصرين أن ننسى ذكرياتنا فأن مئات الأطياف حولنا تحاول أسترجاعها والتمتع بها وهي تبقى في وجداننا وأحاسيسنا ولهذا فمحطتنا هذه المرة الكتابة عن الورود والأشجارالتي كانت تتحلى بها حدائق البيوتات أيام زمان أيام الخير.

                    

يعود تأريخ زراعة الحدائق والورود الى آلاف السنين فقد وردت الحفريات على وجودها منذ خمسة وثلاثين مليون سنة وقد بدأ زراعتها في الصين منذ خمسة آلاف سنة وعثر عليها في المقابر الفرعونية، في بلادنا فان النصوص التاريخية المكتوبة في بلاد مابين النهرين لم تتحدث عن ازهار الفانيلا بالاسم، فإذاٍ حب الجمال وعشق الازهار كان قديماً قدم العراق فقد أحب العراقي الزهور وتفنن في زراعتها،لكن نستطيع معرفة ذلك من خلال الألواح الحجرية الأثرية المتوافرة لدينا من آثار السومريين والبابليين والفراعنة، حيث تكشف لنا هذه الألواح صور لأزهار الفانيلا(الأوركيد) التي كانت جزءا حيويا من حياة القصور، فقد تزينت بها الملكات والملوك، واتخذت أيضا وسيلة للزينة البيئية والبهجة، وبودلت كهدايا في الأعياد الخاصة والعامة، ما ان لوحات الحدائق العالية في عصر البابليين، تكشف لنا كذلك انها قد احتوت على اصناف عديدة من الأزهار، ومن بينها أزهار الفانيلا(الأوركيد)، كما كانت هناك حدائق رائعة بنيت في القرن السابع ق.م في منتصف ما يسمى بسهل بلاد ما بين النهرين، فقد كانت حدائق بابل المعلقة شهادة على قدرة رجل العراق إلى خلق وزراعة واحة نباتية من الجمال لمحاذات الصحراء الممتدة امامها المعروفة بأجوائها ومناخها، فأنتصر القائد نبو خذ نصرعلى التكيف مع قوانين الطبيعة فصعد بنباتات والزهور إلى قمم الجبال وزرعها بطبقات تصلح لمختلف النباتات والأشجار

             

وكان لعبقرية علمائه من المهندسين وذكائهم في ذلك الزمان من رفع الماء وخزنه في الطبقات العليا بصهاريج لسقاية الأشجار والورود، عنما ياتي الربيع وتزهر وتورق الأشجار والورود في هذه الارتفاعات في وسط أجواء الحرارة العالية تكون هذه الحدائق جنة في الأرض تنشر الرائحة العطرة والبرودة واللطافة لتستحق أن تكون من عجائب الدنيا السبع التي بناها نبوخذ نصر لكي تتمتع زوجته بهوائها وجمالها ورائحتها ولطافة جوها وخلابة منظرها.

       
 
وعند أنشاء بغداد فقد عني خلفاء العصر العباسي الأول بالزراعة وفلاحة البساتين التي قامت على دراسة علمية، بفضل انتشار المدارس الزراعية التي كان لها أثر كبير في إنارة عقول أناسهم ، فتوسعوا في البحث النظري ودرسوا أنواع النباتات وصلاحية التربة لزراعتها، وخاصةً الحدائق الملحقة بالقصور كحديقة قصر الأخيضر العباسي ثم قصور سامراء، فقد احتوى قصر الجوسق الخاقاني على حديقة غناء، والحدائق المعلقة التي ظهرت في مدينة المنصور ببغداد؛ حيث استعملت المستويات المختلفة في تصميم مثل هذه الحدائق، وقد جاء هذا النظام الحدائقي متأثرًا بحدائق بابل المعلقة، كما شيَّد الخلفاء العباسيون معظم قصورهم على شواطئ نهر دجلة؛ وذلك للاستفادة من مياه النهر في تلطيف درجة حرارة الجو، ويذكر أن المدرسة النظامية ببغداد التي أسسها نظام الملك  يتوسط فنائها المكشوف بركة كان الماء يجري إليها من تحت الأرض، وكان لها بستان يطلُّ على نهر دجلة كان يتردد عليه الخليفة العباسي للتنزه فيه، فاشتهرت بغداد بجمال حدائقها وجنانها في العصر العباسي، وقد بلغت حدا من التقدم لم تبلغه حواضر الدنيا في حينها، فكان المواطنون يلحقون ببيوتهم حدائق صغيرة تتوسط فناءها وفي مركزها نافورة بأشكال مختلفة.
   

كانت زراعة الزهور في بغداد وغيرها من مدن العراق وريفه متقدمة يتفنن بها الزارع ويجيد المختصون ،(ويقول الشيخ تقي الدين إسماعيل بن إبراهيم التنوفي في مؤلفاته انه رأى وردا حالك السواد له رائحة زكية وانه رأى في البصرة وردة نصفها احمر قاني ونصفها الاخر ناصع البياض والورقة تبدو كانها مقسومة بخط قلم، وكان الفلاحون يتاجرون بالورود فينبتونها في اصص يضعونها على سطوح بيوتهم حتى تصير السطوح كأنها حدائق معلقة.
يلجأ الكثيرون إلى خلق أجواء جمالية في تفاصيل حدائقهم المنزلية وتزيينها ببعض من أنواع ازهار الورود، والتي بلا شك تطلق مفهوم الهدوء والراحة والاسترخاء في ثنايا المكان، فالحدائق محطة مهمة لاجتماع العائلة في رحاب الطبيعة وما يمكن أن تتركه من اثر إيجابي في كل من يعيش هذه التجربة الحية، فالورود كائنات حية تنبض بالحب والحياة، ومن قبيل المستحيل أن تجد أحدا يكره أن تكون له حديقة خاصة تضم أجمل الورود وأحيانا حديقة داخلية تشرف عليها غرفة الجلوس والاستقبال وغرفة الطعام،

  
 
أوعلى الأقل  مزهرية في عقر داره تضم تشكيلة معينة من الأزهار التي تغريه، يرى من خلالها جانبا طبيعيا في عالم أصبح ينبض بكل ما هو كيميائي، ولعل وجود مزهرية بالمنزل يضفي على المكان لمسة من الجمال كما يفيح رائحة طيبة به، وهو ما يؤثر إيجابيا على نفسية الفرد، فالورود، كما عبر على ذلك خبراء الفونغ شواي تضفي اللون والسعادة على حياتنا، فتجعلها تنبض بالأمل والتفاؤل، لا يختلف اثنان في أهمية الورود وتأثيرها على النفس، وهذا لا يعني فقط تأثير رائحتها على تحفيز الحواس وتحسين المزاج، بل أيضا منظرها وهي منسقة بشكل جميل ،ورود من أصناف مختلفة، تغريك بإطالة النظر فيها، والتمعن في ألوان تثير فيك إحساسا بالبهجة والسرور، بل تنبش في أحاسيسك الدفينة، وكأنها تلامس جوانب خفية في نفسك. تذكرك بأيام حلوة مضت، أو تنبش في مخيلتك فتجعلك تسترجع قصاصة الذكريات إلى فترات ماضية فيغامرك الحنين للعودة إليها من جديد.
     


يحسب الفرد أنه في حديقة تزينت بأبهى الورود وتجملت بألوان تجلب الأنظار دون سابق إنذار، منها ما تفوح رائحتها وأخرى اكتفت بمنظر خلاب ساحر،النظر الدائم الى مثل هذا اللون مع تجدد الهواء ان كان ذاك اللون بالنظر للاشجار يصاحبه متعة للنفس وبهجة للخاطر وراحة للاعصاب وشعوراً بالتفاؤل، وما أجمله ان صاحبه المــــــــاء بنافورة صغيرة وسط الحديقة أو بركة ماء متجددة لتسمع قوة خرير المياه، فالنظر الى الماء واللون الابيض  يمنح القلب رقة وعذوبة، في الغالب لا يكاد منزل عراقي يخلو من أصيص زهرة أو نبتة تحمل الناس إلى الوراء نحو الذكريات الحميمة للبيوت و الحدائق القديمة التي كانت ممتلئة بكافة أنواع النباتات و الأشجار و الورود.
لقد أعطى تباين الجو و البيئة في العراق هذا البلد الجميل القدرة على إنتاج أكثر النباتات جمالا وهي النخيل والحمضيات وأوراد الجوري والشبوي والصبير والرازقي والقائمة تطول، رائحة الجوري تنبعث من حدائق البيوت لا يعرف وصفها إلا البغداديون والذين عشقوا بغداد وعاشوا فيها، ورد الجوري العراقي  من الورود الملونة
     

الزاهية والمليئة  بالعطور الزاكية، وهو يزرع بكثرة في حدائقنا و بيوتنا في العراق وهو ايضا  من الورود المفضلة لمعظم الناس، كل لون يرمز لمعنى عند تقديمه وأهداءه.
بدأت الحدائق المنزلية الصغيرة تتكاثر بالدور والقصور وغالبا ماتزرع باشجار مألوفة، مثل النخيل والحمضيات والاوراد. وكانت ذات ذوق وعناية تدعو الى الاعجاب،

               
 
 ومنها النارنج وشجرتها تزرع بين أشجار البرتقال ورائحة أزهارها أشد وأقوى من رائحة زهر البرتقال، ما أن يرخي الليل سدوله وتفتح النوافذ  ليفوح شذا عبيرها فيمتزج بنسمات ليالي بغداد الربيعية  فيريح الأنفاس وينعشها، ويتعدّى الأمر كونها شجرة مفيدة وجميلة  الإانها تحلّي الطعام وتداوي وتنعش الروح العليلة، فأزهار النارنج هي المصدر الرئيسي لإنتاج، "روح ماء الزهر" الذي تتجلى فوائده في تهدئة الأعصاب، حيث إنه يدخل في تركيب العديد من الأدوية التي تقدم النشاط والصحة لمرضى القلب والشرايين، استفادت العوائل العراقية من عصير النارنج في تطييب السلطات، ولا تحلى أكلة تشريب الباقلاء بدونها والسلاطة والدولمة بنكهتها، وكلنا يتذكر كيف تشترك العائلة بعصر النارنج وحفظه في القناني أو تجميده في المجمدات على شكل مكعبات، نادرا ماتخلو الحديقة من (قمريه) وهي سقف من الخشب المتقاطع تتسلق عليها اثمار العنب، ورق العنب لأكلة الدولمة اما الحصرم فهو المفضل للأولاد بالرغم من رقابة الوالدين ومنعهم لقطف الحصرم الا أنهم يقطفون جزأص من العنقود وياكلوه بعد رش الملح عليه الله ما اطيبه.
بعض من المتيسرين ماليا  استطاع تحويل سطح منزله لمكان أخر للأستراحة والجلسات الجميلة للطرب.
  وكان في دور الوجهاء والاغنياء قماقم مصنوعة من الذهب والفضة تستعمل لحفظ ماء الورد واوان مطلية بالذهب والفضة أو النحاس أو البورسلاين مخصصة للزهور.                                             
ومن عادات البغداديين في افراحهم وحفلاتهم نثر الزهور الى جانب نثر الدراهم ،وكان العشاق يظهرون في تبادل الهدايا بالزهور كثيرا من الرقة وسمو الذوق، وكان بعض العشاق من الشعراء يلفون باقات ورودهم بمنديل غالي الثمن مطرز بأبيات من الشعر.

                   
 
تعد منطقة الكريعات من المناطق الجميلة وتمتاز بمشاتلها المخصصة لأنتاج الشتلات الزراعية لمختلف أنواع النباتات مثل الزينة والورود والفواكه والنخيل والحمضيات والبذور الزراعية وقد ساعدت خصوبة اراضيها بذلك، يقصدها البغداديون بشكل خاص والعراقيون  بشكل عام لكي يجلبوا منها شتلات الورود والنخيل والحمضيات التي تعطر الحدائق المنزلية بالعطر الجميل، كنا نقتني الشتلات من مشتل أبو هاشم ذلك المشتل الجميل ومشتل أبراهيم، كما كنا نقضي ساعات في مشتل صديقنا الاستاذ أسامة الهيتي وزير النفط السابق وكان المشتل متميزاً بمواصفات عصرية وبهندسة جميلة، وكنا نجلس نستمتع بمنظرأشجارها ونقطف من ورودها ونشرب من مائها ونتعطر من رياحينها، يحتوي المشتل على مختلف انواع الورود والاشجار ومنها  أشجار التفاح الأخضر المقزم وهو مشكوراً أهدانا منها شجرة زرعناها في حديقة البيت وأثمرت بشكل جيد، كما تنتشر المشاتل في كثير من مناطق بغداد كشارع فلسطين و الاعظمية والغدير من المشاتل التي تمارس عملية بيع الزهور والاشجار في امكنة محددة من قبل أمانة بغداد، بينما كانت في الزمن البعيد تناثرت اسواق الازهار والرياحين والطيب في جانبي بغداد، وكان اهمها سوق الرياحين الذي يقع الى الجنوب الشرقي من سوق الثلاثاء سابقا وضمت هذه السوق اثنين وثلاثين دكانا.

                

وعن الأساليب التجميلية للحديقة، فكان هناك متخصصوون في تنسيق الحدائق بأساليب تجميلة مختلفه ومتنوعة، وباتت في مستويات عالية من الجودة والفخامة، لاستخدام نوعيات نادرة من النباتات والتزيين الصناعي من شلالات صغيرة ونوافير بأشكال مختلفة.
ومن كثرة اهتمام وشغف ولدي دكتور أحمد (خريج كلية طب الاسنان) للحدائق والورود فقد كتب روايته الثانية بعنوان (بستنجي بغداد) باللغة الأنكيليزية وقد نالت حضوة الكثير من قرأها

(بستنجي بغداد) تحكي عن زهرة لا مثيل لها في الوجود زهرة الامل والكفاح .... بغداد
"شخصان، مدينة واحدة، ازمنة مختلفة، مرتبطان بمذكرة بستنجي. هل ينجح الحب في مدينة عاشها  منذ العهد الملكي والى ما بعد الأحتلال بفترة وجيزة منه".

                                                     
للحصول على الرواية ... 
http://www.amazon.com/dp/B00M91LJGW 

انه اصبح من النادر رؤية محل او معرض للزهور في شوارع بغداد التي كانت تزدان بالعديد منها وما بقى منها فإنه يواجه الكثير من العقبات والعذاب في زمن المفخخات والعبوات الناسفة.
من الظواهر التي تستوقف الباحث في التراث العراقي هذه البيوتات الكثيرة الجميلة ببنائها وحدائقها العامرة التي تمتلئ بأخبار رجالها وجلساتهم في الربيع وحتى في الخريف في الحدائق وهم يستمتعون بالأحاديث ويسمعون الشعر والطرب، لقد أختفت كثير من حدائق البيوت في أغلب محلات بغداد بعد أن جرى تقسيم البيوت بمساحات صغيرة وصلت الى الخمسين مترا ناهيك عن البناء العشوائي والاستيلاء على أراضي المنتزهات وتوزيعها للمسؤولين كما حدث في طريق المطار وقناة الجيش واماكن أخرى يعرفها ساكنوا بغداد، الآن في كثير من محلات بغداد ينام ثراء نبيل بثوب من الرخام الأبيض والحجر الأصفر والطابوق، بدأت حدائقها تضمحل أو تتقلص، وقد غافلت التاريخ متشحة بانتظار البيع بعد أن تركها أصحابها في المنافي!!؟ هذا كله يعود بفضل ما حصل للعراق منذ الغزو والأحتلال وما تلاه الى يومنا هذا.

لا بد وان نختم مقالتنا ونحن نردد أغنية المطرب العملاق حضيري أبو عزيز
عمي يا بياع الورد
عمي يا بياع الورد ... قلي الورد بأيش .. قلي
بالك تدوس على الورد ... وتساوي خله .. خله

باكر يصير احساب يبه ... لله شتقله .. لله
والمر يا هالمخلوق ترى .. لأجله جرعته .. جرعته

مو كل ورد سموه ورد ... والريحة طيبه .. طيبه
يصير ورد مو خوش ورد ... راسك يشيبه .. يشيبه

وردٍ زرعته خوش ورد ... بإيدي زرعته .. زرعته
من دجله والفرات يبه ... ماي انا جبته .. انا جبته



ومن الله التوفيق
سرور ميرزا محمود

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

737 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع